قراءات نقدية

محمد محضار: تجليات القص القصير عند الكاتب عبد الرحيم التدلاوي

يعتبر عبد الرحيم التدلاوي من الكتاب المغاربة الذين لم يوفهم النقد الأدبي حقهم من الاعتبارية الواجبة لقلم فذ غزير الإنتاج، حقق تراكما إبداعيا خاصة في الجنس الأدبي المسمى القصة القصيرة جدا والذي أصبح العديد من المتهافتين على كتابة القصة القصيرة جدا، يستسهلون أمر كتابتها، ويخوضون في بحر لا يعرفون حدود قراره، والنتيجة أن ما ينشرونه لا يرقى إلى المستوى المطلوب، ولا يعدو أن يكون عبارة عن خواطر هي أقرب للإنشاءات، وقد ساعد على شيوع هذه الظاهرة غير الصحية، سهولة النشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والمواقع الالكترونية.

عبد الرحيم التدلاوي استطاع أن يُشَكّل الاستثناء إلى جانب مجموعة قليلة من كتاب هذا الجنس الأدبي، على امتداد عقدين من الزمن، ويغني المكتبة المغربية بالعديد من العناوين التي نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: كأنه حدث، نمارق، سفك الحروف، رنين الانكسار، المشهد الأخير، شفاه الورد، الحافة، هذا دون أن ننسى مساهماته النقدية القيمة لكتابات العديد من المبدعين المغاربة والعرب على السواء، أكانت شعرا أم نثرا.

وقد اخترت مجموعته " سفك الحروف " كنموذج قيم، يستحق المقاربة والقراءة بتؤدة وبُعد نظر.

تقع مجموعة سفك الحروف في حوالي 53صفحة، وتتضمن 91نصا قصصيا، أغلب النصوص تصنّف في خانة القصر، تتميز بالحركية والدينامية واللغة الشعرية الشاسعة المعنى.

 قبل الولوج إلى متن المجموعة القصصية، لا بد من المرور عبر عتبة أو عتبات هذه المجموعة، والغلاف هو أول ما يجذب انتباهنا في هذه العتبات، لون الغلاف بنفسجي باهت (أرجواني) وهو لون يدل على الحنين إلى الماضي، ويوحي بالهدوء والسكينة، تتوسط هذا الغلاف لوحة فنية تمثل آنيتين بلون نحاسي تُدلق الحروف من إحداهما إلى الأخرى في مشهد سريالي، وإن كانت أغلب الحروف قد احتضنتها الآنية المستقبلة فإن هناك حروفا أخرى قد سقطت على الرمال مما يوحي بأن المشهد يرتبط بالصحراء وله علاقة بالجزيرة العربية التي ولدت بين أحضانها الحروف العربية وتطورت بصيغتها الحالية، إذا انتقلنا من الغلاف إلى العنوان: "سفك الحروف" سَفْكُ مصدر لفعل سفك بمعنى أراق وصبّ

وأسال، فنحن نقول: سفكُ الدماء، ونقول أيضا سفك المياه، وكل السوائل . ولكن الأكيد أن مصدر سفْك ارتبط في أغلب الأحيان بالدّماء يقول تعالى:

 "مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ"، لكنها أيضا تعني أيضًا نشر الكلام وإسالته، ويقال "سَفَكَ الكلامَ" بمعنى نشره، وهذا ما رمى إليه الكاتب حين جمع بين مصدر سَفْكُ ولفظ الحروف، فالغاية إذن جلية أن سي عبد الرحيم يهدف لنشر الحروف بصيغته الخاصة، وإعراب العنوان يحتمل وجهين، فيمكن إعراب سفكُ خبرا مرفوعا لمبتدأ محذوف وهو مضاف، الحروف مضاف إليه منصوب، كما يمكن إعرابه مبتدأ مرفوعا وهو مضاف، الحروف مضاف إليه.

إذا تجاوزنا العتبة إلى متن المجموعة، فسنكتشف نصوصا في شكل مكثف ومختزل بقدر كبير تُحَمِّلُ البِنية الاستعارية والتركيبية بتداعيات توحي منذ الوهلة الأولى بالغموض والابهام للقارئ العادي، مما يطرح إشكالية تحتاج لمزيد من الجهد لتفكيك شيفراتها، وفهم المعنى الذي يرومه الكاتب ويسعى إلى تحقيقه من خلال اعتماد فنية الانزياح واللجوء لتقنية التكثيف والإيجاز مع مراعاة استعمال خاصية التلميح، والاقتضاب، والتجريب، بشكل يتوافق مع دواخل القاص الذي يقول القليل، رغم أن بداخله الكثير، جاء في قصة رحى الصفحة36:

 أحدثه عن الطعام فينتفي جوعه. أرسم له مائدة عامرة فيشعر بالشبع. أعرض أمامه حسناء فاتنة تقضم التفاح بشهية فينام سريعا ليحلم بالتفاحتين.

في هذا النص نلمس التداخل بين الصورة السردية والصورة التشكيلية بحيث تكمل إحداهما الأخرى فكلمة" أرسم" ذات الحمولة الفنية تحمل أيضا طابع الايحاء الذي يلجأ إليه الراوي لدفع شخصية "النص" إلى الشعور بالشبع، أما جملة "أعرض أمامه حسناء..." فكانت كافية لتحريك الطاقة النفسية(الليبدو) لنفس الشخصية، ودفعها إلى اللجوء للحلم طمعا في الإشباع الجنسي. نلاحظ هنا بأن الكاتب قام بإفساح المجال للمتلقي لاستكناه المعنى والمشاركة في بناء النص.

القاص عبد الرحيم التدلاوي لجأ أيضا لاستعمال تقنيتي: الايجاز بالحذف والقصر، والحذف أسلوب يتم فيه حذف كلمة أو جملة أو أكثر، ولكن يظل المعنى واضحًا لوجود قرينة (دليل) تشير إلى المحذوف أما القصر.

- فهو أسلوب لا يعتمد على الحذف، بل على تضمين معانٍ كثيرة في ألفاظ قليلة، جاء في قصة تمثال الصفحة40:

تجمد كليا كجندي يحرس قصرا إلى أن مرّت...

لحظتها اشتعل كشمعة ثم ذاب.

في هذا النص استعمل الكاتب نقط الحذف الثلاث، في إشارة منه إلى الفضاء المحذوف، ولدفع القارئ إلى اللجوء للتخييل لملء الفراغ، فالشخص الذي تجمد كليا كجندي يحرس قصرا إلى أن مرت، لم يحدد الكاتب من هي أو ما هي التي مرّت؟ أهي حبيبة حلوة المبسم، أم سيارة فخمة؟ باب التأويل إذن مفتوح والمتلقي بإمكانه ملء الفراغ بالشكل الذي يراه مناسبا، لجوء الكاتب للحذف في هذا النص، غايته كانت هي التكثيف والاختزال، والابتعاد عن الحشو والاستطراد.

إذا أخدنا الجزء الثاني من هذا النص، سنلاحظ أن القاص استعمل تقنية القصر فهو يقول: لحظتها اشتعل كشمعة ثم ذاب، ففعل الاشتعال والذوبان هو محاولة من الكاتب لتوريط القارئ في التأويل وتوسيع المعنى فالاشتعال يكون مثلا غضبا أو قلقا، أما الذوبان فيكون حزنا وألما، تبقى الملاحظة أن هذا الجزء من النص هوجملة قريبة جداً من الاستعارة التصريحية القائمة على تمثيل حالة الشخص بحالة الشمعة التي تشتعل وتذوب، حيث صرح ببعض لوازم المشبه به (الشمعة) وحذف المشبه (الذات المتحدثة )كما أنه يمكن اعتبارها استعارة تمثيلية، أي تشبيه حالة بحالة.

من أهم الخصائص التي تنبني عليها القصة القصيرة جدا المفارقة وهي تعني لجوء القاص إلى إبراز تناقض ما (تعارض ما، تقاطب ما) بين المنظومات الموضوعية، أو البنى الفنية التي تشكل النص، سعيا إلى تعميق الإحساس بالظاهرة التي يتبنها القاص

وثمة مجالان أساسيان، تجول المفارقة فيهما هما مجالا الشكل الفني والموضوع، إذ يمكن للقاص أن يسعى في داخل أحدهما أو في كليهما، من أجل الكشف عن الحوامل الممكنة للثنائيات الضدية التي يرتضيها شكلا للتعبير عن مكنوناته

ومن يتأمل نصوص عبد الرحيم سيكتشف أن الكاتب يشتغل في العديد من نصوصه على موضوع المفارقات والتناقضات، التي تضج بها حياة الناس، ويعيشونها في مسارهم الحياتي، عبر وضعيات مختلفة ومتباينة، وهذا ما تعكسه الصور السردية لتلك النصوص، التي تتميز بالثنائيات المتقابلة، لخلق مفارقة مؤثرة تصنع الإدهاش لدى المتلقي، وهذا يعتبره عدد من النقاد عنصرا داعما لجمالية القصة القصيرة جدا، وسنحاول في هذه القراءة إبراز قوة جمالية نصوص عبد الرحيم التدلاوي من خلال اعتمادنا نماذج مختارة منها تتضمن المفارقة والإدهاش.

في نص نداء ص 41، وفحواه:

أخفت المفتاح في صدرها، ودعته بغنج إلى البحث عنه..

كانت دعوة لحفلة عشاء..

ولم يكن جارا جائعا.

 قراءة هذه القصة تبين بجلاء، أن الكاتب توفّق في استعمال تقنية المفارقة إلى أبعد حدّ، لأن الصورة التي رسمها للمتلقي تنبني على المتناقضات، وهي في أخر الأمر حمالة أوجه. فالجارة أخفت المفتاح في صدرها، ودعوة الجار للبحث عنه هو نوع من المراودة المبطنة عن النفس، ودعوة حفلة العشاء هي أيضا دعوة مجازية لممارسة الحب، لكن المفارقة أن الجار لم يكن جائعا، وهذا يعني أنه إما عنينا أو لم يجد في الجارة الصفات التي تُرضي غرائزه ورغباته.

ومن النصوص العميقة التي نلمس فيها بوضوح حضور المفارقة الموسومة بتناقض جلي، وتضاد بَيّن، خلال حالتين مختلفتين: "حياة/موت". نص:إصرار ص43

 بذراعيه القويتين يضرب الموج ويضربه..

يخترق الموج ويخترقه..

وبإصرار من يريد الفوز يتجاوز التيار؛ وحين يبلغ خط الوصول يقف متعجبا من خلو المكان إلا من شجرة عظيمة تتدلى من فرعها القوي ميدالية؛ يطوق بها عنقه ويتدلى يصير عنقود عنب يقتسم الناس حباته فيتوهمون البطولة.

في هذا النص لجأ الكاتب إلى استعمال انزياحات دلالية وتركيبية، لتحقيق الانتقال من المعنى المألوف إلى معنى مغاير قد يكون مجازيا أو استبداليا، وذلك في محاولة منه اختراق قواعد اللغة المعتادة لتحقيق متعة جمالية وتوهج قوي يرضي ذائقة القارئ، متوسلا بالاستعارة والتشبيه والمجاز، وذلك للخروج من قوالب المباشرة، ودفع المتلقي إلى استخدام آلية التأويل وفهم النص بقناعاته الخاصة.

من الانزياحات البارزة في نص إصرار نسوق على سبيل المثال لا الحصر:

"بذراعيه القويتين يضرب الموج ويضربه" فعل الضرب استعمله الكاتب للدلالة على قوة التيار ومصارعة شخصية النص للموج.

"يخترق الموج ويخترقه" فعل اخترق لغة يعني النفاذ إلى الشيء وبطل النص يخترق الموج ولكن الموج في نفس الوقت يخترقه، تكرار الفعل يعني الاستمرار ودوام الحدث والصراع.

 "يطوق بها عنقه ويتدلى يصير عنقود عنب يقتسم الناس حباته فيتوهمون البطولة"

قفلة النص كانت قوية وتتضمن مفارقة ساخرة فالميدالية التي ستطوق عنق البطل أنشوطة حبل، ستنهي حياته، وتجعله حديثا وهميا متداولا بين الناس.

من العناصر التي تتكئ عليها القصة القصيرة جدا في بنائها السردي، يبرز عنصرا الزمن والمكان، إلا أنه لا يتم التركيز على الاهتمام بالتفاصيل كالرواية والقصة، ولكن الاهتمام يكون بحدث معين في زمن محدد ومكان أو مجموعة الأمكنة المحدودة، ذلك لأن القصة القصيرة جدا تتميز بقصر الحجم، وتعتمد على التكثيف والاختزال، و الايجاز المقصود، مما يحتم على القاص الالتزام باحترام مساحة السرد المتاحة له.

إن زمنية القصة تحتم علينا التوقف عند مكانيتها، فهما لا ينفصلان أبد،

فبالقدر الذي نجد في القصة مؤشرات زمنية غير ملموسة، نُوَاجَهُ بالاقترابات المادية الملموسة للمكان، وهذا يخلق للقصة توازنها الوجودي.

فإلى أي حد وظف عبد الرحيم التدلاوي هذين المكونين في مجموعته القصصية سفك الحروف.

في نص عاشق من زمن العطالة ص 19 الذي يقول:

أراه يرتشف الانتظار في مقهى الوقت،

رشفة

رشفة

إلى آخر الحب.

أراها تنسحب من فنجان خيبته.

حاول الكاتب في هذا النص أن يربط بين البعد الزمني والمكاني، بشكل يعكس من خلاله حجم الخيبة التي تصاحب بطل القصة، هناك ربط سببي بين الانتظار باعتباره حالة زمانية ومقهى "الوقت" باعتباره حالة مكانية، وفي هذا تداخل بين المكونين نلمسه في الرشفة التي تلي الرشفة حتى آخر الحب والنتيجة هي " انسحابها" من فنجان خيبته وفي ذلك إشارة قوية إلى أن انتظاره انتهى إلى الفشل والخيبة.

وكخلاصة تتميز نصوص مجموعة سفك الحروف بتنوع وثراء جمالي، يشوبه نوع من الغموض الفني المقصود، الهادف إلى فتح باب التأويل أمام القارئ للمشاركة في عملية تشكيل النص وبناء معماره، كما أن لغته شعرية، تتكئ على التكثيف والايجاز، وتبتعد عن الوصف والمباشرة، ولم تخلو بعض نصوصه من الترميز والتناص، سعيا لتوسيع المعنى وتجويع اللفظ بأسلوب بلاغي قوي اعتمد المفارقة بشقيها التصريحي والتلميحي، بشكل منح المجموعة جمالية وقوة تأثير على القارئ.

وقد تحكم الكاتب في مكوني الزمن والمكان، وخلق توازنا بينهما في رسم المسار السردي، وتطور الأحداث، بما يخدم جمالية وفنية القصة القصيرة جدا.

***

محمد محضار

 5دجنبر 2025م

 

في المثقف اليوم