قراءات نقدية

مرشدة جاويش: إشكالية قصيدة النثر

تنويه: هذه المقالة كتبت عام ٢٠٠٧ في سياق بحثي متواصل حول إشكاليات قصيدة النثر ثم نشرت في أكثر من ملتقى أدبي كان أبرزها ملتقاي (ضوء الرنين) في نسختي ٢٠١٦ و٢٠٢١ واليوم تعود هذه الورقة لتتضمنها صفحات كتابي النقدي (أنقاض المعنى) الصادر حديثاً عن دار نوافير للطباعة والنشر،  باعتبارها إحدى الإشارات المعرفية التي تعكس خبرتي المتراكمة ورؤيتي الثقافية في مقاربة هذا الشكل الشعري المثير للجدل.

 إن ما أقدمه هنا لا يطمح لأن يكون حكماً نهائياً بل محاولة لفتح أفق للتفكير والحوار انطلاقاً من قناعتي بأن الشعر أياً كان شكله يظل سؤالاً مفتوحاً على الدهشة ومسؤولية جمالية وفكرية على حد سواء

إشكالية قصيدة النثر: بين الحرية الجمالية وسؤال الشكل

تمثل قصيدة النثر واحدة من أكثر الظواهر الشعرية إثارة للجدل في المشهد الأدبي العربي المعاصر لا لما تثيره من أسئلة حول الشكل والجنس الأدبي لكن لأنها تربك التصنيفات التقليدية وتهدد الثوابت البلاغية التي طالما استند إليها الشعر العربي في تشكيل ذائقته. لقد انبثقت قصيدة النثر من رحم الحاجة إلى حرية تعبيرية تتجاوز قيود العمود الخليلي والإيقاع المنتظم فجاءت بوصفها تمرداً على صرامة العروض لا على الشعرية ذاتها محاولة إنتاج خطاب بديل يتأسس على الكثافة اللغوية والتصعيد الصوري والانزياح الدلالي ضمن بناء مفتوح على التأويل والانفلات من النماذج المغلقة.

ومع ذلك فقد بقيت قصيدة النثر موضع التباس نقدي وجمالي إذ تطرح إشكاليتها من جهتين رئيسيتين: الأولى تتعلق بالهوية النوعية والثانية بمستوى التحقق الفني. فهل ما يكتب تحت مسمى (قصيدة نثر) هو فعل شعري حقيقي؟ وهل تمتلك هذه القصيدة أسساً جمالية خاصة تبرر انتماءها إلى الشعر لا إلى النثر المتخيل أو السرد المكثف؟

إن التأمل في بنية قصيدة النثر يكشف عن ميل إلى التحرر من الإيقاع الخارجي مع التعويض عنه بإيقاع داخلي يشتق من النص ذاته: من توزيعه وتقطيعه ونبره وتوتره المعنوي. كما تعتمد هذه القصيدة على الانزياح البلاغي وتكثيف الصورة بالإضافة إلى التناص والمفارقة والتركيب التأويلي كأدوات لصناعة الشعرية.

لكن المشكلة لا تكمن في الشكل وحده وإنما في ضعف الممارسة الكتابية أحياناً حيث باتت قصيدة النثر ملاذاً لمن لا يملكون أدوات الوزن أو لا يتقنون الصناعة الشعرية الأصيلة ما أفرز طوفاناً من الكتابات السطحية التي تشوه التجربة الحقيقية لقصيدة النثر وتغذي الاتهامات التي تلاحقها منذ نشأتها، وفي الوقت ذاته لا يمكن إنكار أن هناك تجارب شعرية عظيمة كتبت ضمن هذا الشكل مثل ما قدمه (أنسي الحاج )(وأدونيس) (ومحمد الماغوط) (وسعيد عقل) حيث استطاعوا تأسيس جمالية موازية تبرهن على أن الشعرية لا تختزل في الوزن بل تتجلى في المجاز العميق واللغة المنفلتة من أسر العادة والتركيب المدهش.

وتواجه قصيدة النثر كذلك إشكالاً نقدياً مرتبطاً بسؤال التلقي إذ أن كثيراً من القراء يعانون في التعامل مع نص لا يتيح لهم مؤشرات إيقاعية واضحة ولا يقدم خطاباً شعرياً مألوفاً ما يجعل عملية الفهم والانخراط الجمالي أكثر تعقيداً ويستدعي قارئاً مدرباً على تفكيك الإشارات النصية وتتبع الحقول الدلالية.

من هنا فإن إشكالية قصيدة النثر ليست في وجودها بل في شرط تحققها الجمالي فهي إمكانية مفتوحة للشعر وليست نفياً له لكنها تتطلب جهداً إبداعياً مضاعفاً ووعياً فنياً ينهض على ركيزة من المسؤولية الجمالية والفكرية لا على مجرد الرغبة في الكتابة بلا ضوابط.

تبقى قصيدة النثر حتى اليوم موضع جدل لا ينتهي بين مؤيد يرى فيها انبثاقاً جمالياً جديداً ومعارض يعدّها خروجاً عن جوهر الشعر وما قدمته هنا ليس أكثر من إشارة أولية أو إضاءة بسيطة على بعض ملامح الإشكالية انطلاقاً من خبرتي ورؤيتي الثقافية تاركةً المجال مفتوحاً لقراءات أعمق ومناقشات أوسع لأن قصيدة النثر لم تُغلق بعد أسئلتها بل تظل في حالة اختبار دائم للشعرية ولقدرة اللغة على أن تدهشنا من جديد.  ولذلك يمكن القول إن قصيدة النثر ليست أزمة جنس أدبي بل هي اختبار مستمر لمفهوم الشعر نفسه ولقدرة اللغة على أن تنتج دهشتها خارج المعايير الكلاسيكية. إنها ليست بديلاً عن الشعر بل انبثاق جديد له بشرط أن تبقى مخلصة لجوهر الشعرية لا لأهواء الكتابة المجانية.

***

مرشدة جاويش

 

في المثقف اليوم