قراءات نقدية

فالح الحمراني: تولستوي في العراق.. من محمود السيد الى حياة شرارة

حظيت أعمال ليو تولستوي وتجاربه الحياتية الشخصية باهتمام بالغ في العراق والدول العربية الأخرى في بداية القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين*. إن فهم وتقدير شخصية تولستوي وأعماله في العراق يعادل فهم وتقدير الأدب الروسي ككل. وغدت أعمال تولستوي بمثابة "موسوعة للحياة الروسية" ومصدرًا للإثراء الروحي والجمالي للنقاد والكتاب والقراء العراقيين.

تعرّف العراقيون على أعمال ليو تولستوي في أوائل القرن العشرين من خلال ترجمات قام بها مترجمون من لبنان وفلسطين ومصر، وكذلك من خلال قراءة أعماله المترجمة من لغات أخرى. وكان لإرث تولستوي الفكري والأدبي، إلى جانب آرائه في القضايا الاجتماعية والدينية، تأثير كبير على البيئة الفكرية والأدبية العراقية. فهذه الأعمال مشبعة بعمق بالمحتوى الإنساني، والدعوة إلى الخير وأولوية العلاقات الإنسانية، بالإضافة إلى نقد لاذع لما واجهه الإنسان من ظلم واستبداد وانحدار. وقد عانى المجتمع العراقي آنذاك من كل هذه الظواهر السلبية.

وتجلّى تأثير تولستوي على الأدب العراقي في جوانب عدة، ويظهر هذا بوضوح في أعمال بعض الروائيين العراقيين الذين تطرقوا إلى القضايا الاجتماعية والسياسية في أعمالهم، مركّزين على صور الإنسان في سياق واقعي، وكذلك في تصوير الحياة اليومية لمختلف الشرائح الاجتماعية. وفي بعض الروايات العراقية، يُلاحظ تشابهٌ مع أعمال تولستوي، إذ تُبرز قيم الحب والسلام والعدالة التي دعا إليها.

ويُؤكد ذلك بوضوح عمل محمود أحمد السيد، رائد الرواية والقصة القصيرة في الأدب العراقي. إذ أدى اطلاعه على الأدب الروسي، بما في ذلك أعمال ليف نيكولايفيتش، إلى تغييرٍ ملحوظ في رؤيته لمفهوم الرواية ومكوناتها وشروطها الفنية، وارتقاء مسيرته الإبداعية إلى مستوى نوعي جديد، مما جعله رائدًا في مجال أدب الرواية في العراق. ويُذكر أن السيد جعل أحد أبطال إحدى رواياته يحرص مثل تولستوي على تدوين يومياته. وقد ناقش السيد أسلوب تولستوي وطرائقه في كتابة الروايات في العديد من مقالاته.

وبدوره أكد الكاتب والمترجم العراقي الشهير غائب طعمة فرمان في استطلاع علمي في هذا السياق أنه كان من أكثر الكُتّاب تأثرًا بأدب تولستوي - تولستوي هو من علّمه التخطيط للرواية قبل كتابتها، وهو من الذين يصف أدبهم، وفقًا لفرمان، بالسحر الفاتن.

ونعى الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي (1863-1936)، الذي كتب عنه المستشرق الروسي الكبير كراتشكوفسكي أنه شاعر عربي معروف عاش في العراق، تولستوي في قصيدة وصفه فيها بأنه سند للفقراء، ونور علم ساطع في فكره، ومصلح حر في حياته. ويرى الزهاوي أن تولستوي كان يعظ الحكام، مذكرًا إياهم بفناء الحياة ونهاهم عن الظلم.

وكما يشير ممدوح أبو الوي في كتابه "تولستوي ودوستويفسكي في الأدب العربي": "نجد رأيًا آخر في العراق، مخالفًا للرأي السائد عن تولستوي، نُشر في عدد مارس 1912 من مجلة "لغة العرب" الصادرة في بغداد. ويرى مؤلف الدراسة أن تولستوي رجل غريب الأطوار ذو آراء غريبة، ويرى أن سلوك تولستوي يخالف مبادئه" ويبدو في الدراسة التناقض بين أفكار تولستوي وهيئة تحرير المجلة. وكتب هذه الدراسة محررو مجلة "لغة العرب" ومعظمهم من الرهبان الذين لم يقبلوا انتقادات تولستوي للكنيسة ردًا على كتاب محمد المشرفي "تولستوي: حياته ومختارات من قصصه"، الصادر في تونس عام 1911، والذي يُعد أهم عمل عن تولستوي ظهر في أوائل القرن العشرين.

وكرس الشاعر محمد مهدي الجواهري، الذي يُعتبر آخر أعظم شعراء العرب الكلاسيكيين، قصيدتيه "سيفاستوبول" و"ستالينغراد" للشعب السوفيتي خلال الحرب العالمية الثانية. في عدة أبيات، يذكر تولستوي كأحد رموز الحضارة الروسية. في قصيدته، يخاطب الجواهري تولستوي، مؤكدًا أن الثورة الفكرية التي بدأها لم تذهب سدىً، ويصف تجسيد ثمارها. ويؤكد أن شعب بلاده أصبح حرًا وغنيًا، وأن الفلاحين أصبحوا مالكين لأرضهم. ثم يستذكر الظواهر الأخلاقية السلبية والظلم والقمع والنفاق في العلاقات الاجتماعية في عصره، والتي ناضل ضدها. وأضاء بأعماله الأدبية والفكرية الطريق نحو عالم من الحرية والعدالة، مشيرًا إلى النظام السوفيتي الذي تعاطف معه.

مع افتتاح قسم اللغة الروسية عام ١٩٥٨ في جامعة بغداد، وعودة خريجي قسم اللغات، في منتصف ستينيات القرن الماضي، الذين أكملوا دراساتهم في كلية اللغة الروسية بجامعة موسكو الحكومية وجامعات الاتحاد السوفيتي الأخرى، شهدت دراسة ونشر الأدب الروسي، وخاصة أعمال تولستوي تطورا ملموسا. وتعمقت البحوث المتعلقة بأعمال الاديب الكبير في محتواها ومنهج المؤلف في قراءتها.

وفي هذا السياق اصبحت اعمال شخصيتين اكاديميتين نموذجا لدراسة الادب الروسي وتولستوي على وجه الخصوص من زاوية علمية جديدة تجلت فيها أيضا وجهات نظر فردانية في التحليل والتقويم. والكلام يدور عن الراحلة أ.د. حياة شرارة (1935 – 1997) والمرحوم أ.د. محمد يونس (1937 - 2009) وهما علمان من اعلام   قسم اللغة الروسية في كلية الآداب ثم في كلية اللغات بجامعة بغداد، وعلمان من أعلام الباحثين باللغة العربية والمترجمين عن الروسية في قضايا الادب الروسي  بالعراق بشكل خاص والعالم العربي بشكل عام، وهما ايضا شخصيتان معروفتان في الاوساط الروسية التي تتابع نشاطات الباحثين والمترجمين العرب في مجال الادب الروسي، وقد ورد اسميهما – مثلا – مع تحليل شامل لإسهاماتهما في مجال الادب الروسي في العالم العربي على صفحات عديدة في كتاب د. الميرا علي زاده الموسوم – (الادب الروسي والعالم العربي)، الصادر في موسكو عام 2014 عن معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية، وكذلك في مصادر روسيّة أخرى. وشاركت حياة شرارة ومحمد يونس في تأليف كتاب عن تاريخ الرواية الروسية.

وفي عام 1979، نشرت الراحلة حياة شرارة مؤلفها "تولستوي الفنان"، وهو الكتاب الذي لا يزال يعتبر من أهم المصادر العربية لدراسات تولستوي، وطبع عدة مرات، وكان بحق أول عمل باللغة العربية يتناول أعمال تولستوي من وجهة نظر أدبية. في كتاب «تولستوي كفنان» تتناول المؤلفة اثنتين من أهم رواياته - «الحرب والسلام» و«آنا كارنينا»، مستكشفًة تأثير كتابات العديد من الكتاب عليه، بالإضافة إلى كبار الفلاسفة والمؤرخين الروس والغربيين. وكان لهذا تأثيره الفكري والأدبي على تكوين تولستوي ووعيه. وبعد اكتشاف هذا التأثير، تشير المؤلفة إلى أن تولستوي كان ظهر مجددا لفن الرواية في أعماله مقارنة بأعظم كتاب عصره، مستخدماً التحليل النفسي لشخصياته بمهارة وإمكانات غير مسبوقة في تاريخ الرواية الواقعية. وبهذا المعنى تؤكد شرارة أن تنوع الألوان الأدبية والاجتماعية التي استكشفها تولستوي ووفرة أعماله أدى إلى فهم جانب واحد من تراثه الأدبي: أسلوب وأساليب الكشف الفكري والنفسي عن أعمق أفكار الشخصية.

وخصص الكاتب والإعلامي العراقي علي حسين في كتابه" 100 سؤال عن الحب من تولستوي الى انشتاين الصادر في بغداد عام2018 فصلا كاملا: " الحرب شبيهة بالحب فتنحوا أيها الكسالى" عرض فيه فلسفة تولستوي عن الحب ودوره في حياته الذي تجسد في غرامياته العديدة وبصورة عمليه حينما اختار صوفيا اندريفنا رفيقة لحياته وأمأ لأبنائه ال 13 وكذلك انعكاسه في إعماله الأدبية ودوره في سيرته الفكرية والعاطفية.

كما تناول المترجم والكاتب العراقي جودت هوشيار في العديد من المقالات بالدراسة مختلف مناحي إبداعات وفلسفة تولستوي وعرض ما كتب عنه. ونشر المترجم والكاتب مؤمن الوزان في مدونته دراسة مترجمة بعنوان "تولستوي ودور الرواية في الارتقاء الاجتماعي والأخلاقي" أجملت سيرة وتطور فن الرواية لدى تولستوي ورؤيته لهدف ومعنى الأدب والفن عموما. 

***

د. فالح الحمراني

...................

* عرض لمداخلة اعدت لندوة " مترجمو ليف تولستوي والكلاسيكيين الروس" التي تعقد سنويا في ضيعة/ متحف تولستوي في "ياسنايا بوليانا".

 

في المثقف اليوم