قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: مورفولوجيا اللغة

من بنية الكلمة إلى تجليات المعنى اللساني الفلسفي الصوفي
ليست اللغة مجرد أداة للتواصل أو حاملاً للمعنى، بل هي كما قال هايدغر: بيت الوجود. وإذا كانت اللغة بيتاً، فإن المورفولوجيا – علم بنية الكلمة – هي هندسة هذا البيت، أعمدته وأبوابه ونوافذه. فالمورفولوجيا لا تكتفي بدراسة الجذور والزوائد واللواحق، بل تفتح أمامنا أفقاً فلسفياً عميقاً: كيف تتحوّل الكلمة من مجرد أصوات إلى تجلّيات للمعنى، وكيف تعكس في بنيتها مسار الفكر الإنساني وتوقه إلى الكمال؟
- المورفولوجيا والفكر: بين اللساني والفلسفي
يرى نعوم تشومسكي أن اللغة تكشف عن بنية عميقة في العقل البشري، أي عن قواعد فطرية تسكن الذهن قبل أن تُنطق. أما المورفولوجيا فهي الحقل الذي يتجلّى فيه هذا العمق: الجذور تتوزّع في قوالب وأوزان، فتنتج كلمات تعبّر عن الفعل والانفعال، عن الفاعل والمفعول، عن الزمن والحركة. وهكذا فإن الاشتقاق ليس مجرد لعبة لغوية، بل هو منطق وجودي يُعلّم العقل كيف يرى العالم من خلال أنماط اللغة.
وفي العربية مثلاً، يكشف الجذر الثلاثي (ك-ت-ب) عن ثراء دلالي هائل: كتاب، كاتب، مكتوب، مكتبة، كتابة. إننا هنا أمام شجرة صرفية جذورها ثابتة في التربة، لكن أغصانها تتشعّب في اتجاهات شتى. وهذا التناسُل الصرفي يذكّرنا بفكرة أفلاطون عن "المُثل"؛ فالجذر هو المثال الأصلي، والكلمات المتولدة منه هي الصور التي تشعّ من هذا المثال في العالم المحسوس.
- المورفولوجيا والشعر: الكلمة ككائن حيّ:
- يؤكد رومان ياكوبسون أن الشعر هو انحراف اللغة عن وظيفتها التواصلية. والمورفولوجيا هي التربة التي ينبت منها هذا الانحراف. فالشاعر لا يتعامل مع الكلمات كوحدات جاهزة، بل يستحضر طاقتها الاشتقاقية ليولّد منها معاني جديدة.
حين يقول شاعر صوفي "مكتوب"، فهو لا يقصد فقط ما كُتب على الورق، بل يستدعي قَدَراً غيبياً مكتوباً في اللوح المحفوظ. وهنا تتحوّل البنية الصرفية إلى رمز كوني.
- أدونيس يذهب أبعد حين يرى أن الكلمة في الشعر ليست علامة، بل كوكب يتفتّح في الليل. والمورفولوجيا، في هذا المنظور، ليست علماً ميكانيكياً، بل بستان روحي تنمو فيه الكلمات كزهور تفتح أبواب المعنى على اتساعها.
المورفولوجيا والتصوف: الكلمة سالكة إلى أصلها:
- في التصوف، كل شيء رحلة من الكثرة إلى الوحدة، ومن الظاهر إلى الباطن. كذلك المورفولوجيا: الجذر فيها هو الأصل، والأوزان والاشتقاقات هي التجليات.
الحلاج يقول:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا.
الجذر (هـ و ى) يبيّن أن "أهوى" و"هوى" و"هوًى" تنتمي جميعاً إلى أصل واحد، رغم اختلاف الصيغ. وهذا التباين الصرفي لا يلغي الوحدة، بل يثبتها: فالتفرّع عن الجذر هو تجلٍّ لكثرةٍ تعود في النهاية إلى جوهر واحد. وهو عين ما يقوله الحلاج في تجربة الاتحاد العشقي مع الله.
- ما جلال الدين الرومي فيقول:
ألقِ نفسك كما تُلقي الزهرةُ عطرَها
فالعطرُ عودتها إلى أصلها النقي
الجذر (ز هـ ر) الذي يتولّد منه "زهرة"، "إزهار"، "زهور"، يكشف أن كل شكل صرفي ما هو إلا عودة إلى معنى الإشراق والبهاء. التصريف هنا صورة لغوية لفعل العودة الصوفي: من التعدد إلى الأصل، من المظهر إلى الجوهر.
- ويأتي ابن عربي ليجمع بين الكثرة والوحدة:
لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ
فمرعى لغزلانٍ وديرٌ لرهبانِ
كلمة "صورة" نفسها تحيل إلى التعدد الصرفي: صور، تصوير، مصوّر. لكن كل هذه الأشكال تعود إلى جذر واحد (ص و ر). هكذا يُفهم البيت صوفياً ولسانياً معاً: القلب مثل الجذر الصرفي، يتشعّب في صور كثيرة لكنه يظل واحداً في جوهره.
- المورفولوجيا كذكر لغوي:
من هنا، تبدو المورفولوجيا أكثر من علم لغوي: إنها سلوك روحي للكلمة. الجذر هو الحقّ الثابت، والاشتقاق هو التجلي المتغيّر، والوزن هو الإيقاع الذي ينظّم الرحلة بين الأصل والصورة. كل كلمة، إذاً، سالكة إلى معناها الأسمى، مثل روحٍ تعود إلى معشوقها الأزلي.
وهكذا يمكن القول إن علم الصرف نفسه ضربٌ من الذِّكر: نحن حين ندرس تحوّلات الكلمة، نعيد تلاوة أسمائها كما يتلو الصوفي أسماء الله، في انخطافٍ بين الحروف والنور. وبذلك تلتقي المورفولوجيا بالتصوف لتقدّم لنا رؤية فريدة: أن الكلمة ليست مجرد صوت أو معنى، بل كائن حيّ في رحلة عشق نحو أصلها الأزلي.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين