قراءات نقدية
منذر الغزالي: التشظّي والقلق الوجودي في رواية "بنسيون الشارع الخلفي"

للروائي السوري: محمد فتحي المقداد.. دراسة نقدية في رمزية المكان والشخصيات
المقدّمة: تأتي رواية بنسيون الشارع الخلفي بوصفها شهادةً سردية حارّة على زمن الانهيار والتمزق، حيث لا مكان ثابتاً، ولا هوية آمنة، ولا يقيناً يُعوّل عليه. يعتمد الكاتب على فضاءٍ مكانيٍّ محدد ومغلق - البنسيون - لاحتضان شخصيات مأزومة تعيش تمزقات وطنية ووجودية، في ظل انهيار القيم الاجتماعية، وتحلل المعايير الأخلاقية، كمجازٍ رمزيٍّ لوطنٍ خاضعٍ لحربٍ دامية، تتورّط فيها السلطة بقسوةٍ ضد شعبها، ويدفع المدنيون الثمن الأكبر في تشظيهم النفسي وانقسامهم الوجودي.
بذلك، لا تقدم الرواية سرداً تقليدياً قائماً على حدثٍ واضحٍ، أو حبكةٍ دراميةٍ متصاعدة، بل تشتغل على الانهيار البطيء للقيم، عبر أصواتٍ متعددةٍ تُمثّل أطيافاً متصارعةً من الشعب نفسه. في هذا السياق، تصبح الشخصيات ليست فقط كائناتٍ فردية، بل استعاراتٍ اجتماعية وطبقات رمزية من جسد الوطن المجروح.
1. الرؤية الوجودية في الرواية
تتمركز الرؤية الفلسفية للرواية حول سؤال الوجود في عالم يفقد كل شروط الأمان. ليس فقط وجود الذات في مواجهة نفسها، بل في مواجهة وطنٍ ينكفئ على شعبه، ويحوّل مؤسساته إلى أدوات قمع وعنف. هنا، تتحول الحياة إلى فعل انتظار طويل للمجهول.
"كلّ شيء يتآكل ببطء. نحن نعيش في قبو الزمن، ولا نعلم إن كان الصباح آتياً أم لا."
الزمن في الرواية متآكل، واللغة محمّلة بالشروخ النفسية والخراب الداخلي.
“لا أعرف متى دخلت البنسيون، ولا متى سأخرج… كلّ شيءٍ يشبه كلّ شيء، حتى أنا لا أعرفني.”
هذه العبارة تجسّد تماماً مركزية القلق الوجودي في النص، حيث الذات لا تثق في الحواس، ولا تجد يقيناً في أيّ بعدٍ من أبعاد الواقع، وهو ما يتماشى مع الرؤية الوجودية عند كامو وكيركغارد: الإنسان كائنٌ في مأزقٍ دائم.
هذه الرؤية الوجوديّة تتغذّى على غياب الأفق السياسي والأخلاقي، وانعدام المرجعيّات، والشكّ في جدوى اللغة والمعنى. وهي تُحاكي تيار "العبث المعنوي" الذي نجده لدى ألبير كامو في "الغريب" وصامويل بيكيت في "في انتظار غودو"، حيث الفعل البشري يتحوّل إلى طقس من العجز والتكرار.
2. البنسيون: الوطن في مرايا التهجير الداخلي والحرب الأهلية
البنسيون كمكان رمزي:
يمثل البنسيون أكثر من مجرّد مكان إقامة؛ إنه الوطن المصغّر، المقطّع، والمسيّج بالخوف. تتحول غرفه إلى مقاطعات نفسية، تعكس حال الانفصال بين مكوّناته، وكأنّ قاطنيه يمثّلون شعباً مشتتاً داخل وطنٍ فقد وظيفته كحاضنةٍ للانتماء والنجاة.
"لا أحد يعرف أحدًا، وكلّ الغرف مغلقةٌ، حتى لو كانت مفتوحة."
في ظل انهيار الدولة وتحوّلها إلى جهازٍ قمعيٍّ يشنّ حرباً أهليةً على مواطنيه، يتحوّل البنسيون إلى مأوىً للهاربين، المنفيين، المهمّشين.
“لا تسأل أحداً من أين جاء. كلّ من في البنسيون جاء من جهةٍ خائفة."
هذا المكان، بما فيه من غرف متشابهة، وجدران مكتومة، ووجوه شاحبة، يُجسّد الوطن المقهور الذي لا يوفّر سوى الظلّ لمن فقدوا الضوء. إنه حاضنة جراح جماعية، لكنه أيضاً انعكاسٌ لنظامٍ مأزومٍ في الخارج.
البنسيون كمجتمع بديل مأزوم:
البنسيون يختصر المجتمع الخارج من رحم الصراع. حيث يُجبر الناجون من الحرب على التعايش، دون مصالحة. يعيشون جنباً إلى جنب، لكنهم مقسمون عاطفيّاً وذهنيّاً وانتمائيّاً. بعضهم يعادي بعضًا صامتًا، وبعضهم لا يتكلم.
بهذا المعنى، يتحول البنسيون إلى بنيةٍ ما بعد وطنية، أو وطنٍ بديل مُحمّلٍ بالخذلان، والرقابة الذاتية، والتباس العلاقات، والتشكيك في الآخر.
في غياب الدولة، ينشأ داخل البنسيون مجتمعٌ هامشيٌّ يعيد تشكيل نفسه وفق منطق البقاء، لا العدل، تتفكّك فيه الروابط، وتفشل فيه العلاقات، ويتحوّل الإنسان إلى “كائنٍ ساكنٍ" لا يصنع مصيره، بل ينتظر نهايته.
3. الحبكة: لا حدث إلا التشظي
بنية (اللا) حبكة:
تتجنّب الرواية البناء الدرامي الكلاسيكي، وتختار سرداً تفكّكيّاً، يقوم على تيّار الوعي، وتقطيعٍ زمنيٍّ مقصود. لا نجد حبكةً تصاعدية، بل تتكرّر المشاهد، وتتداخل الأزمنة، لتصوير حالة الدوار النفسي والجمود الوجودي.
"لا شيء يحدث. فقط الأيام تتكرر بلون رمادي، وكأن الزمان لا معنى له".
اللاحدث في الرواية هو حدثٌ بحدّ ذاته، لأنه يعكس غياب الأفق، وانسداد المعنى، وانهيار القيمة في عالم الشخصيات.
تختار الرواية، عن عمدٍ، أن تكون بلا حبكةٍ دراميةٍ تقليدية. لا توجد بدايةٌ بالمعنى الكلاسيكي، ولا عقدةٌ، ولا ذروةٌ، ولا خاتمةٌ حاسمة. كلّ شيءٍ متّصلٌ ومقطوعٌ في الوقت ذاته.
"الأيام تتكرّر مثل وجوه النزلاء، ولا أحد يتغير، إلا في داخله المكسور."
تيار الوعي والسرد المتقطع:
يُبنى السرد على أساس تيّار الوعي والداخل النفسي، حيث تسرد الشخصيات أفكارها، انطباعاتها، هواجسها، دون ترتيبٍ منطقيٍّ. هذا الخيار الفنّي يُحاكي الفوضى الداخلية التي يعيشها الإنسان وسط العنف السياسي والاجتماعي.
4. تحليل الشخصيات الرئيسية
تركّز الرواية على ثلاث شخصياتٍ محوريةٍ: نبهان، ميرا، وسدرا، تتحرك جميعها في مساحةٍ تحاكي التيه والانكسار والبحث عن ذاتٍ مفقودة.
سدرا: الأنثى الجريحة/الواعية
تُعدّ "سدرا" من أبرز شخصيات الرواية، إذ تجمع بين الألم والوعي، بين الجسد الأنثوي المقموع، والعقل الرافض للامتثال، وهي تمثّل الأنثى في مجتمعٍ ينكرها ثم يعاقبها. هي صوت الأنثى في مجتمعٍ فقد توازنه القيمي.
“سدرا كانت تنام بقميصٍ أبيض باهت، كما لو أنها ترفض أن تكون مرئية.”
سدرا ليست شخصيةً خاضعة، بل واعية، تراقب بصمت، وتلخّص ما لا يستطيع الآخرون التعبير عنه. تمثّل الفئة المظلومة والمهمّشة التي لم تشترك في الحرب، لكنّها دفعت الثمن الأثقل.
"سدرا كانت الوحيدة التي لا تكره أحداً، لكنها لم تعد تحب أحداً أيضاً."
كأنها "الوطن/الأم" الذي أهمله الجميع، لكنّه ما زال يحمل القدرة على النظر بعين العدل، رغم الصمت.
ميرا: الانفجار الداخلي للمقموع
ميرا شخصية مشوشة وغاضبة، تمثل الشقّ المتمرّد والعنيف في بنية المجتمع. هي المنفيّة النفسية التي لا تصالح، ولا تتعايش، لكنها أيضاً لا تجد الخلاص.
"ميرا تنفجر كلما ساد الصمت. كأنها ترفض السكون لأنه يشبه القبر."
تمثّل ميرا شريحةً من المجتمع، لم تعد تؤمن بأيّ إصلاحٍ أو عدالة، وتحاول أن تهدم كلّ شيءٍ لأنها فقدت الإيمان بكلّ شيء.
وكأنها انعكاس لـ "نبهان" و"سدرا" في أكثر حالاتهما اضطراباً. هي أقرب إلى (الظلّ النفسي) غير المتكيّف، وغير المُتصالح، والعنيف إذا لزم الأمر.
“ميرا لم تكن تتكلم كثيراً، لكنها عندما تنفجر، تقول كلّ شيءٍ دفعةً واحدة، كأنها تفرغ الحرب من صدرها.".
ميرا تُجسّد العنف المضادّ للخذلان، والوعي الحادّ بما يدور خلف الأقنعة.
نبهان: الوعي القَلِق
نبهان ليس مجرّد بطلٍ تقليديٍّ للرواية، بل هو مرآةٌ شديدة الحساسية للهشاشة النفسية والاجتماعية التي خلّفتها الحرب والانهيار الوطني. إنه الشخصية التي تدور حولها الأحداث، لا لأنّه فاعلٌ قويٌّ، بل لأنه كائن مُراقِب ومُثقل بالأسئلة. يفتقر نبهان إلى الحسم، ويتحرّك داخل الرواية بثقلٍ شعوريٍّ كثيف، كأنّما يمثّل "الذات السورية المسحوقة"، التي فشلت في الفعل السياسيّ أو الأخلاقيّ، فانسحبت إلى منطقةٍ بين الحياة والموت.
"نبهان لم يعد يحلم بشيء، لكنه ما زال يخاف من أن يصحو فجأة على كل ما فقده."
هذا التوتر بين الخوف والرغبة في الاختفاء هو ما يصنع طاقة الشخصية. فهو حاضرٌ، لكنّه دائم الميل إلى التلاشي.
هو يمثّل صوت المحايد المأزوم، الذي لا يقف مع طرف، لكنه يدفع الثمن؛ يعيش على الهامش، خائفاً من كل شيء، غريبًا في وطن لا يشبهه. هو رمز للجيل الخاسر في وطن مأزوم، يُجسد جيلاً ورث شعارات كبرى عن الوطن والحرية، ليجد نفسه بين مطرقة الاستبداد وسندان الحرب الأهلية.
في الرواية، نبهان ليس ضحيّةً فقط، بل ممثلٌ للضمير المكسور، الذي فشل في المواجهة، فانسحب إلى صمتٍ داخليٍّ يُعاني من خرَسٍ وجوديٍّ؛ لكنّه يظلّ الأكثر وعياً بما حوله. من هنا، فدوره ليس البطولة، بل التأمّل: هو شاهدٌ على انقراض المعنى والقيمة.
من أبرز الملامح الرمزية في شخصية نبهان، أنه يتاجر بالكتب المخطوطة، لا بالكتب المطبوعة أو الحديثة. وهذا التفصيل البسيط ظاهريّاً يحوي طبقاتٍ من الدلالة:
- رمزيةٌ أولى تكمن في أنّ نبهان لا يقرأ تلك الكتب. هو مجرّد وسيطٍ، وهذا يعكس انقطاع المثقّف عن فاعليته التاريخية. فالمعرفة تحوّلت إلى سلعة، والكاتب/القارئ إلى تاجر خائف.
"لم يكن نبهان يعرف إن كان زبائنه يقرؤون تلك المخطوطات، لكنه كان يعرف أنها لن تغيّر شيئاً."
- في ظل الحرب، لا أحد يطلب الكتب. وبالتالي، فإن بيع المخطوطات هو محاولة يائسة للإبقاء على أطلال الحضارة بينما تُقصف المدن.
يمثّل "نبهان" النموذج الكلاسيكيّ للمهزوم؛ لكنّه ليس جباناً، بل مرهقاً من كثرة الخسارات. هو ضحية وطنٍ دمويٍّ ومنفىً باهت. لا يبحث عن خلاصٍ، بل عن مساحة صمتٍ، عن ركنٍ لا يُؤذى فيه.
"نبهان لم يعد يتذكر حتى صوت أبيه، لكنه لا ينسى كيف كانوا يركضون من الرصاص في زقاق الطفولة".
يمثّل نبهان حالة اغتراب مركّبة: عن الوطن، عن الجسد، وعن التاريخ الشخصي. حيث الإنسان غريبٌ عن ذاته، عن الآخر، وعن المكان. فالبطل “نبهان” يمثّل صوت الفرد المهزوم، الخارج من وطنٍ يقتل أبناءه، إلى منفىً باردٍ لا يحتضن أحداً.
خاتمة:
رواية بنسيون الشارع الخلفي ليست حكاية أفراد، بل مجازٌ أدبيّ لوطنٍ ممزّقٍ في حالة حرب صامتة وصريحة. الشخصيات تمثّل أطيافًا من الشعب الصامت، الغاضب، المنفي، والمقموع. أما البنسيون، فهو المرآة المعتمة التي تعكس تفتّت الوطن، وعجزه عن احتواء نفسه.
تشكّل رواية بنسيون الشارع الخلفي مشروعاً سردياً وجودياً، يطرح أسئلةً عن الوطن، المنفى، الذات، الموت، والنجاة.
هي ليست حكاية حدثٍ، بل سردٌ لانكسارٍ جماعيٌّ في وجه قمعٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ وأخلاقي. الشخصيات ليست أدواتٍ للحبكة، بل أصواتاً سرديةً تعرّي الخسارات الفردية والجماعية.
البنسيون هنا ليس مكاناً، بل وطناً بديلاً مفخخاً، تمجيداً للصمت، وتأبيناً للحرّيّة.
إنها روايةٌ عن الخسارات الكبيرة، التي لم تعد تُبكى، بل تُروى على مهل، في غرف مكتومة، خلف نوافذ لا تُفتح.
***
منذر فالح الغزالي
Wachtberg. 30.06.25