قراءات نقدية
حيدر عبد الرضا: قراءة في مجموعة "الكتابة على زجاج مهشم" لمهدي القريشي

إطلاقية المخيلة بين المركز الدلالي وتضاعيف الإيحاء الحسي
توطئة: تنفتح موجهات العتبة العنوانية قي تجربة مجموعة (الكتابة على زجاج مهشم) للشاعر مهدي القريشي تنوعا جليا بين المشهد الصوري والصورة المحفوفة بمراكز دلالية تنضوي فيها حالات الأفعال الدوالية ضمن مهيمنة وفعالية (إطلاقية المخيلة ؟) بلوغا نحو مرسلات الإشارات التدليلية والاستدلالية وبناءاتها المؤلفة والمتوالفة لذلك التحقق الحسي في البناء الذواتي والحلمي والعاطفي الذي غالبا ما تعبر به الفواعل الدوالية عن فحوى مواضعها العواملية إرتباطا لها بذلك الحضور اللامجدي في سياقات الكشف واللامكشوف من الداخل الشعري.
ــ الصياغة المتنية وتعدد واصلات البوح:
إن الوظيفة المركزية التي تشتغل عليها مواضع وحالات الدوال الشعرية، تبدو وكأنها من جهة خاصة، ذلك الولوج إلى تفاصيل متفاوتة من اللغة وكشوفاتها الاسنادية المتلاحمة والمتضافرة في مساحة تتجاوز محاور اللغة ذاتها، لتصب لنفسها تطلعات ممكنة لا تتجاوز مؤثرات الإيحاء الحسي الفاعل:
منذ طفولته كان يقضم الوقت
من أطرافه فيتأخر عن أخوته في الالتحاق بدوام المدرسة.
و حين تتراكم الأسئلة عنه تتمزق أوراق دهشتهم
كونه يضيع في هدوئه
أو قد يكون معلقا في ضفيرة أنثى.
تقتضي عاملية الزمن توترا ذرويا ذات طابع مشبع بمتعلقات الذات التي تستوطن حالها الدلالي في مواضع نجدها أكثر تلويحا بالتمحور حول ذاتها أو أنها كتشكل داخلي ذا طبيعة غير محددة قصدا ودليلا. غير إن هيمنة ضمير المتكلم في سرد سيرة الذات العاملة (منذ طفولته كان يقضم الوقت) أو أنه تخصيصا كان (فيتأخر عن أخوته.. وحين تتراكم الأسئلة تتمزق أوراق دهشتهم) لعل الارتهان هنا من خلال هذه الجمل بالزمن والظرف الذاتي قيدا وشرطا في استيعاب نقطة إطلاقية المخيلة، لذا فهي تقترح مزايا ملتبسة أو عدمية أو أكثر انجذابا نحو منطقة الإيهام بالزمن المتمثل على كونه (التأجيل والاستباق، التوقف والتسريع، التغييب والإظهار) تعليلا متصلا بالماهية الذاتية نفسها وكيفية سبرها في الأشكال العدمية والحلمية وهما (قد يكون معلقا في ضفيرة أنثى) ولا تلبث الذات العاملة في أن تكون في حدود هذه المزايا هدفا شعريا بالرغم من قوة الإحالة عليها مزاحا. ولكنها مرتبطة مع جهة تصورها من الآخر، لتسعى بوعي مقارب نحو استجابة عميقة لموصوفها الذي غدا كعلاقة يوسف بأخوته بوصفها صلات دلالية ترتبط بالجب أو (كونه يضيع في هدوئه) إذ أن هذه الجملة بحد ذاتها تجيب على كل الأسئلة الدوالية المنصوصة، كما وتستجيب إلى سياق خطية تصورات تلخص بالخيبة والانكسار:
لم يرسم جرحا في باب جامع،
ولم يستأذن أجراس كنيسة
لتنبئه عن الوقت المهدور على سلم خطاياه.
إذ لا شك في أن الشاعر القريشي يتعامل مع اللغة الاستعارية، بحكم سلسلة من الإيحاءات والإحالات. التي تضج بها مواضع الدوال. ولكن في الوقت نفسه الشاعر يقدم اللغة الشعرية ضمن فائض استعاري ومجازي لا يبلغ من المراد الموضوعي شيئا مفيدا، فهو يبذل طاقة حسية وأفكارا راح يجسدها داخل وظائف استعارية ومجازية لا تبلغ حدا في الاكتفاء الموضوعي والذاتي، بل أنها محض فضاءات غاطسة إلى حد النخاع بروح المستعار والمجازي. كما وليس هناك من توفر الحالة موضوعية ورؤيوية واضحة في الفكرة والحال والغرض والمقصود، بل أنها التحامات وافتراقات في حدود التماثل المستعار واللجوء إلى صياغات دوالية قد لا تبدو متوفرة على كل الأغراض الوسائطية والواصلات الخطابية.
ــ حرائق اللغة وإنشراح الأخلية:
لا شك أن لمشروع مجموعة (الكتابة على زجاج مهشم) ذلك الثلث المقياسي من جملة الأحلام الشعرية التي تتبخر في استقصائية المقاصد الخاصة من لدن نصوص الشاعر القريشي. واللافت للنظر التأملي أن حالات الوحدات الدلالية عبارة عن صور مضادة وتضاعفية وأحيانا تبدو عبارة عن مكونات في رؤى حلمية تمتد في الأشياء حضورا يتوراى منه الحس الملموس في لغة وإشارات الدوال:
كثيرا ما أشاهده في المرآة يملأ جيبه حصى،
يتلمس فحولتهن متسائلا عن خداعهن في مجمرة القذف
صديقي ينتظر وأنا أتظاهر بالدهشة
وقف مذهولا
كيف صار اليوم غدا
والأمس بعد غد؟.
هناك فوارق حساسة من الوجهة الدلالية بين (كيف صار اليوم غدا ــ والأمس بعد غد ؟) وبخاصة عندما يعتمد المكون أسلوبية مخصوصة في الامتثال التخييلي والإيهام الحسي. أو لنقل أن علاقة الدوال تتوسم لذاتها غائية مجردة في قوانين انعكاسية الذات والزمان والمكان، خلوصا نحو تلك الممارسة المراوية والتي من خلالها تستكمل النواقص انجذابها في صلب حالاتها النوعية بالاجتزاء والاستجلاء التشكيلي (يتلمس فحولتهن متسائلا عن خداعهن) ولعل حركية لغة الإعلام ها هنا ترتبط بتصورات تتحول إلى معتقدات ويقينات تتجاوز الحقيقة والإنتاج الدلالي، لتصب وسائلية البرهان في مستويات تحتفظ بمجالها الظني الآسر (صديقي ينتظر، وأنا أتظاهر بالدهشة) فيما تبقى هذه العلاقة بين الفواعل قابلة للأداء كترسيمة أكثر انبعاثا في إقامة التلازم التلفظي في الإتجاه الأكثر تشاكلا وتفارقا في محمولات المحتوى والأداء في خصائص الملفوظات الصيغية الأكثر قدرة على تمويه الانتقالات المرسلة والمؤداة إلى صياغة التساؤل وفعلية المساءلة. وتواجهنا في موجهات هذا النص ثمة العديد من الأحوال والحالات والتقابلات التي تشكل في مجملها إمكانية مركزة في مجالية الفضاء الدلالي وإشاراته الهواجسية في مكامن الإجراء القصدي المكين.
تعليق القراءة:
يمكننا القول ختاما أن دلالات قصائد مجموعة (الكتابة على زجاج مهشم) تتحرك في مناطقية شعرية ذا مركبات دوالية تستأثر لذاتها هواجسية اللغة المفتوحة على الخارج والداخل التبئيري من حيز زمن الأفعال والشواهد الاستعارية في الزمن الملموس واللامرئي، بمعنى ما أن حضور إيحالات الرؤية للنص جاءت عبر حالات معاينة في شواغل الوظيفة الدلالية للنص الشعري، لذا بدا البناء للجمل الشعرية وكأنها تشكيلات أئتلافية حسية تواصلية تربط اقترانات الأثر بالمؤثر كموضوعة تشكيل خواصية للغة واصفة ومشبعة ببلاغة الرؤى الكامنة وراء آفاق إطلاقية المخيلة الخافقة بين (المركز الدلالي ؟) وتضاعيف ظروف الأحوال الشعرية المكثفة بالإيحاء وتقانات الوظائف التركيزية في النص الشعري. زيادة على كلامنا هذا أقول تتميز تجربة مجموعة (الكتاب على زجاج مهشم) في كونها تلك الفضاءات التي استطاعت امتلاك لغة شعرية تواصلية قائمة على تجاوز اللغة الانشائية التي تواجهنا في التجارب الشعرية المعهودة، لتقدم لنا قصائد القريشي تلك التجربة في اللاجدوى والمفارقات الفنية الأكثر غورا في مواجهة اللاجدوى والمكسوت عنه في مواطن دالات الشعر والشعرية.
***
حيدر عبد الرضا