قراءات نقدية
حسني التهامي: المساحات البيضاء في مجموعة البابا الطائر لبانيا ناتسواشي
![](/images/2/1067_banya.jpg#joomlaImage://local-images/2/1067_banya.jpg?width=&height=)
تقدم مجموعة "البابا الطائر Flying Pope " للياباني "بانيا ناتسواشي " (BAN'YA. NATSUISHI) عددا من النصوص المختزلة الغرائبية المختلفة شكلا ومضمونا عن الهايكو الكلاسيكي. يحملنا الهايجن المغامر خلال تلك النصوص المليئة بالمساحات البيضاء، في رحلة روحية عبر العالم كي نتأمل تفاصيله اللامتناهية بشغف واهتمام. وقارئ بانيا ناتسواشي هو قارئ غير عادي، مثقف ومغامر، يتوقف عند كل لفظة، يمتلك هذا القارئ ذهنية متقدة تسهم في تشكيل بنية النصوص.
يسعى بانيا ناتسواشي -من خلال "البابا الطائر" التي تعدّ مِلاحة شعريّة في عالمنا المتشابك- إلى تجديد اللغة من خلال تناول المفردة المستحدثة والمواكبة لروح العصر، بما فيه من مستجدات وتفاصيل جديدة لامتناهية. فقد يلجأ البعض إلى التأويل بحثا عن ماهية "البابا" المحيرة، فهي تارة تعرج إلى السماء في رحلة روحية، وتارة أخرى تغوص في البحار أو تهيم في الصحراء، أو تتألم في جوف الأرض، متجاوزة بذلك حدود الزمان والمكان والثقافة والعقائد واللغة أيضا. وقد يرى البعض الآخر أنها تعكس تأملات الهايجن وقلقه الداخلي تجاه ما يحدث في العالم، بحثا عن السكينة والسلام. هذه الرؤية ما بعد الحداثية أصبحت تنظر إلى الشعر على أنّه مسألة معقّدة ومتراكبة تتداخل فيها الإدراكات المتعدّدة، والمناهل المعرفيّة، ويتسع بها شكل الوجود، بعيدا عن المنظور الكلاسيكي الذي يُخضع الهايكو إلى اللحظة الجمالية "الساتوري" المنبثقة من فلسفة الزن البوذية.
ولعل "بانيا" استلهم "البابا" كـ"معادل موضوعي" ينقل من خلاله مشاعر الإنسان المعاصر، وتجاربه اليومية في مشهديات لافتة وساحرة أشبه بالأساطير، والفلكلور الشعبي، وقصص المغامرات. مع ذلك يظهر البابا الطائر على طبيعته البشرية، حين يعزف على البيانو باكيا معتصر الفؤاد:
عازفًا على التشيلو
البابا الطائر
ينزف الدموع
(ت. محمد عضيمة)
وأحيانا يؤدي بعض الطقوس الدينية كالصيام والصلاة، وقد يغفل عن أدائها أحيانا:
مرّ على صيامهِ
أسبوعٌ كاملٌ؟
البابا الطّائرُ في السَّماء.
(ت. محمد عضيمة)
وقد يظهر على هيئة طفل صغير تائه عندما يتلاشى قوس قزح، وفي صورة أخرى يحمل كلبه العجوز:
عندَ اختفاءِ قوسِ القُزحِ
قد يغدو طفلاً تائهاً
البابا الطائرُ في السَّماء.
**
ولدٌ صغيرٌ يحمِلُ
كلبَهُ العجوزَ
البابا الطائرُ في السَّماء.
(ت. محمد عضيمة)
على الرغم من تلك القراءات التي تقدم اقتراحات حول طبيعة البابا الطائر، تظل نصوص "البابا الطائر" مفتوحة على الاحتمالات، عصية على تقديم معنى أو تأويل بعينه، ونكتشف، في نهاية تجوالنا وتأملاتنا في هذا العالم، أنها عبارة عن لوحات تحتوي على تشكلات سحابية متنوعة تحلق في السماء، تبدو في مشهديات فانتازية غير معقولة أو منطقية، لكنها ممتعة وفاتنة ومدهشة:
فئرانُ الصَّحراءِ
تردُّ تحيةَ
البابا الطائرِ في السَّماء.
يقدم هذا النص تصورا حداثيا لا يأبه بالمعاني ولا يقدم كل شيء للمتلقي، كأنه يريد أن يخبرنا أن الإبداع الحقيقي لا يكمن فقط في ما يُقال، ولكن أيضًا في المساحة الفارغة من البوح. تعد تلك المساحات البيضاء "ma" في اليابانية، بمثابة " لوحات فنية غير مكتملة -( ويبدو أن ثقافة اليابان تزخر بالمساحات البيضاء التي هي أكثر بلاغة من الكلمات)- تسهم في خلق نص عميق ومدهش. يقوم القارئ بملـء البياض الأشبه بفراغات اللوحة، أو الأجزاء الصامتة في المقطوعة الموسيقية. في هذه الحالة لا تكون مهمة الهايجن تقديم نص مكتمل، حيث يعتمد على حنكة القارئ الذي يضفي على النص مسحة من تجاربه وعالمه الخاص. يُستخدم البياض كوسيلة للإيحاء بأن هناك أشياء لا تزال كامنة تحتاج إلى مساحة أكبر للتأمل في عوالم النص. تشير (فيرجينيا لا شاريه) إلى أن "البياض هو الخلاصة التي لا يمكن شرحها، والنقاء الذي لا يمكن تجربته، إنها لحظة الصدق التي لا تلد غيرها، فالبياض في النص لا شكل له ولا حدود، لأنه حالة أصيلة وهو مكتمل بحد ذاته. الفراغ في النص الخطي هو مساحة الحرية التي لا اتجاه لها" وهي بهذا المعنى لا تخضع النص للتفسير والتأويل، إنما تضعه صوب احتمالات لا حدود لها.
يقول بانيا ناتسواشي في "البابا الطائر":
يُتشدُ قصائدَ هايكو
بلا مواسمَ أو فصولِ
البابا الطائرُ في السَّماء.
يلخص هذا النص تحديدا سمات الهايكو الجمالية التي تبناها بانيا ناتسواشي، وغيره من أعضاء "جمعية هايكو العالم" التي ارتكزت مفاهيمها على هايكاي باشو وبوسون وإيسا، ثم انطلقت فيما بعد – لاسيما في فترة ما بعد الحرب – نحو الكتابة التي تقترب من أدب ما بعد الحداثة، تحت تأثير التيارات الجديدة في الواقع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والفكري في العصر الحديث، وتنامي تيارات العولمة والتطور التكنولوجي المتسارع. وانطلاقا من الدعوة إلى تجديد المسار الإبداعيّ وتطوير الأساليب الإبداعية، كان التجريب هو الأداة الناجعة في كتابة موضوعات تلامس الواقع المعاصر.
تظهر نصوص "البابا الطائر" جنوح بانيا ناتسواشي إلى التجريب بتبنيه طريقة الـ"موكي هايكو" التي تستغني عن الكلمة الموسمية وكلمات القطع، تعبر عن وجهة نظر الكاتب، ومشاعره وقضايا العالم، بدلا من اللجوء إلى تناول الطبيعة كأساس في الكتابة الإبداعية. فمهمة الشاعر الأساسيّة – في تصوّر "بانيا" - هي التعبير عن قلق الإنسان وهمومه في حياتنا المعاصرة، والانطلاق به نحو المستقبل.
تنشأ التجربة الجماليَّة في نص الهايكو كعامل مشترك بين الهايجن، عبر الحدس عندما يتماهى بشكل عفوي مع الأشياء الحسية من حوله، وبين القارئ عبر التصور الذهني لحظة القراءة والتفاعل مع النص. تلك العلاقة بين الكاتب والمتلقي هي ما تخلق المساحة البيضاء؛ فالنص يظل غير مكتمل، لأنه بعد كتابته في انتظار القارئ الذي يعيد قراءته من زوايا أخرى مختلفة، ويعيد تشكيله من جديد، فيزداد النص – بعد إعادة تكوينه – وهجا وثراء. تدخل هذه اللحظة التأملية (أو ما يسمى حالة الوعي) كاتب الهايكو (ومن ثم المتلقي) إلى التجربة الفورية، وتقوم ببلورة الرؤى الفنية لدى كل منهما.
الأرضُ
دمعةٌ كبيرةٌ
في نظرِ البابا الطائرِ في السَّماء.
يقدم النص صورة غير معتادة في شعرية الهايكو، لكنها مثيرة وممتعة. حتما سيدفع البياض قارئ النص للتساؤل: كيف تكون الأرض دمعة كبيرة؟ إنها صورة الأرض الحزينة التي تحوى في جوفها آلام وآهات البشرية. إنها صورة تجعل بؤبؤ العين يتسع حين تخيلها، وتزداد حركته يمنة ويسرة، ويتحرك من الأعلى إلى الأسفل، ومن الأسفل إلى الأعلى، نتيجة الارتباك الذهني والانفعالي، وتزايد حدة التوتر، لحظة التوحد معها، وخلق لحظة مشعة بالفتنة والجمال. يمثل البياض الصورة الظلّية التي تجمع المحتوى الأساسي للّوحة في نص الهايكو -تماما مثلما نتمعن في ظلال الأشياء، لحظة انعكاس القمر على صفحة الليل- ومن غموض تلك الظلال يتولد سحر الفن في لوحة الليل الفاتنة.
يعتمد الهايكو في الأساس على ما لم يُذكر في النص، عبر مساحات بيضاء متعمدة غير مرئية تخلق حدة وتوترا بين جزئي النص. تتوازى أحيانا هذه المساحات البيضاء مع النص المرئي على الصفحة، مما يبعث ببعض الرسائل المشفرة للقارئ. تقوم عملية القطع -سواء بوضع كلمة قطع "كيرجي" أم بدونها- بالمزج بين صورتين متناقضتين، وإحداث نوع من التناغم بينهما، كما تمنح النص لمحات جمالية. تحدث عملية القطع فجوة توتر شعري تنشا من المفارقة الناشئة من الجمع بين المتناقضات وطرحها في سياق متناغم، وغاية ذلك هو تقديم رؤىً جديدة للعالم.
في قِنديلٍ من المِلحِ الصَّخريِّ
يَحبِسُ الشَّمسَ
البابا الطائرُ في السَّماء.
يجمع النص بين مشهدين غرائبيين: الأول صورة قنديل من الملح الصخري والأخرى هو حدث غير متوقع، مما يجعل القارئ يدخل عالما حلميا من الفانتازيا مليئا بالمتناقضات، لكنه حتما سينجذب إلى سحره وفتنته، ولن يملّ التجوال في أروقته الخرافية.
في "البابا الطائر" نستشعر صدى شيء ما خارج نطاق أسطر النصوص الثلاثة. إنها لحظة الاكتشاف التي تعد عنصرا حيويا في أي شكل إبداعي، حتى في طبيعة الأشياء المألوفة لدى الرائي (الهايجن/ المستكشف). في تلك اللحظة الجمالية المتشظية يمكنُ للكمالِ أن يتحققَ عبرَ التفاصيلِ الدقيقة للأشياءِ. ففي لحظات الفراغ والسكون، سيان أكنت في بقعة جبلية أم في مدينة مزدحمة وصاخبة، "ستكشفُ الأشياء لك عن ذاتِها، وسينتجُ عن ذلك كلِه نوعٌ من البهجةِ والرهبةِ والاحتفاءِ والعَجبِ، وللحظةٍ ما، سَيتبدى لكَ الكمالُ". "بروس روس" (Bruce Ross) - جوهر الهايكو The essence of haiku). هنا تصبح المساحة البيضاء بمثابة ممر جبلي يسمح للعابر (الهايجن) بالتأمل الذاتي، أو لوحة داخلية فارغة يتأمل من خلالها العالم:
عندَ اختفاءِ قوسِ القُزحِ
قد يغدو طفلاً تائهاً
البابا الطائرُ في السَّماء.
*
عندما ينزِلُ المطرُ
تزدادُ كثافةُ حاجبيِّ
البابا الطائرِ في السَّماء.
*
الأرضُ
دمعةٌ كبيرةٌ
في نظرِ البابا الطائرِ في السَّماء.
(ت. محمد عضيمة)
تعكس هذه النصوص الثلاثة حدود اللغة أمام ضخامة العالم، حين نفكر في الاحتمالات اللامحدودة التي تكمن خارج حدود النص. هذا الإحساس بالانفتاح والنقص هو ما يجعل الهايكو شكلاً أدبيًا عميقًا وفاتنا. نستشعر نهاية كل سطر عملية القطع (على الرغم من عدم وجود الكلمة أو العلامة) التي هي بمثابة فاصل يخلق نوعا من التشويق والدهشة، ويظل القارئ في لحظات من التأمل الذهني يشكل بنية النص، ويكمل الفجوات الناقصة في الصورة الحسية أو المتخيلة. تخلق المساحات البيضاء المتعمدة غير المرئية حدة وتوترا بين جزئي النص، أحيانا تتوازى مع النص المرئي على الصفحة، مما يبعث ببعض الرسائل المشفرة للقارئ. تقوم عملية القطع بالمزج بين صورتين متناقضتين، وتطرحهما في سياق متناغم، وغاية ذلك هو تقديم رؤىً جديدة للعالم الذي نحيا فيه.
***
حسني التهامي - مصر