قراءات نقدية

عدنان حسين احمد: "سائق الإسعاف" دراما وثائقية

تنتصر لإنسانية المواطن العراقي الأصيل

يندرج فيلم "سائق الإسعاف" للمخرج هادي ماهود ضمن نطاق الدكيّودراما "الدراما الوثائقية" لأنه يعتمد بالأساس على حدث وقع على أرض الواقع وتناولته الكثير من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة وربما لم يترك هذا الحدث لصانع الفيلم شيئًا يقوله أو يبني عليه قصته المشحونة بالدراما والترقّب والتشويق. ولعل السينارست والمخرج هادي ماهود قد انتبه إلى ظاهرة لم يلتفت إليها كثيرون من أقرانه المخرجين وهي التضليل الإعلامي، وتشويه صورة الآخر المعادي لها أو الذي لا ينسجم مع طروحاتها الفكرية والسياسية فتعْمَد إلى دمْغهِ بالإرهاب، وتنميطه ضمن خانة التخلّف، والرجعية، وعدم مواكبة روح العصر. غير أنّ المخرج اللمّاح هادي ماهود قد راهن على الجانب الإنساني لشخصية عراقية إشكالية وهي شخصية سائق الإسعاف التي جسّدها الفنان التشكيلي جبّار الجنابي وشحنها بالكثير من المُعطيات الإنسانية التي تنظر إلى الحرب وتداعياتها من زاوية إنسانية متحضرة سواء اعتمد على ضميره الشخصي اليقظ أو على ديانته التي لا تسمح بمعاملة الأسير معاملة سيئة. وبالمقابل قدّم لنا شخصية الجندي العراقي المغلوب على أمره الذي لا يعرف أكثر من تنفيذ الأوامر التي يُصدرها الضباط الكبار الذين يعمل تحت إمرتهم. وقد أدّى هذا الدور الممثل علي ريسان بطريقة مُقنعة رغم قناعاته السلبية التي سوف تتصدّع شيئًا فشيئًا وهو يرى مُعطيات انهيار الدولة الدكتاتورية التي تبيّن أنها نمر من ورق. أمّا الشخصية الثالثة وهي المُجنّدة الأمريكية جيسيكا دون لينج التي أدّتها الممثلة التونسية حياة حرزي من دون انفعالات مفرطة فقد كانت مستوفية لشروطها الفنية التي أوصلت من خلالها كمًا كبيرًا من المشاعر والأحاسيس الداخلية التي تنتاب أسيرة حرب جريحة تعرضت للإصابة في رأسها وساقيها في بيئة معادية. وثمة شخصيات أخرى لا تقل أهمية عن هذا المثلّث البشري المتساوي الأضلاع رغم اختلاف الأصول والمرجعيات مثل حارس المستشفى أو الشخصيات السياسية والعسكرية المؤدلَجة التي تصب جام غضبها على كل ما هو أمريكي من دون العودة إلى التفاصيل والمواقف المنفردة التي لا ينبغي لها أنّ تؤخذ بجريرة المواقف والآراء الأمريكية العامة.1012 ambulans

قصائد الدكتاتور المهلهلة

يستهل المخرج فيلمه بمطلع قصيدة ركيكة للدكتاتور صدام حسين يقول فيه: "أطلقْ لها السيف لا خوفٌ ولا وجلُ / أطلق لها السيف وليشهد لها زُحلُ". ولعل المخرج هادي ماهود أراد أن يبيّن لنا الهواجس المتعددة لهذا الدكتاتور الذي يُنظِّر في كل شيء؛ فهو يتحدث عن الصناعة، والزراعة، والإشارات المرورية، وحركة سير المركبات، ويكتب الروايات البائسة، ويدوّن الأشعار المجردة من المعاني، والخالية من الدلالات والصور الشعرية المُعبرة. ولعل هذا التشتت يعبّر لنا خير تعبير عن شخصيته السايكوباثية المريضة التي سوف تؤثر، مع الأسف الشديد، في شريحة واسعة من الشعب العراقي، وخاصة في الطبقة السياسية وبعض صنوف الجيش العراقي كالأمن، والاستخبارات، والحرس الجمهوري، والحمايات الخاصة بأمن الرئيس وسلامته حتى أنّ الكثرين منهم كانوا يقلّدونه في لبسهِ وطريقة كلامه بنبرته القروية المعروفة.

يتضمن هذا الفيلم القصير مُقتطفات خبرية إذاعية في المجمل تتعالق مع ثيمة الفيلم الرئيسة التي تتمحور على أسْر المجندة الأمريكية جيسيكا لينج في 23 مارس / آذار 2003 وتحريرها يوم 1 أبريل / نيسان في العام ذاته من قِبل القوات الخاصة الأمريكية التي لم تلقَ أي مقاومة تُذكر كما روّج لها الإعلام الأمريكي بغية رفع معنويات القطعات العسكرية الموجودة في العراق على وجه التحديد.

من بين الأخبار التي تتدفق من الإذاعة العراقية نسمع:"جرت معركة شديدة جدًا بين وحدات الجيش العراقي وعلوج الاستعمار الأمريكي والبريطاني". ومع أنّ كلمة "عِلْج" تعني "الشديد والغليط من الرجال" إلّا أنّ وزير الإعلام السابق محمد سعيد الصحاف لم يقصد هذا المعنى وإنما أخذ  بالمعاني الأخر من بينها "الحمار" أو "الكافر" لكي يصف الغزاة، ويقلّل من شأنهم، بينما هم في حقيقة الأمر يتقدمون ويجتاحون مدن العراق العراق تباعًا مع الإقرار بأنهم واجهوا مقاومة حقيقية شرسة في بعض مدن العراق مثل مدينة "أم قصر" و الناصرية وبغداد لاحقًا. ومع أنّ بلدانًا عدة مثل فرنسا وألمانيا وبلجيكا قد جدّدت معارضتها للحرب إلّا أنّ وزير الخارجية الأمريكي كولن باول كرّر مطالبتهُ للعالم بطرد البعثات الدبلوماسية العراقية المتواجدة فيها. ومن ضمن الأخبار الإذاعية التي تتعالق مع ثيمة الفيلم نسمع تصريح الناطق العسكري الأمريكي بأنّ "رتلًا عسكريًا تابعًا لسرية الصيانة الأمريكية 507 قد ضلّ طريقه وتعرّض لكمين عراقي. وقال الكابتن جيّ لا روزا، المتحدث باسم حملة مشاة البحرية الخامسة عشر أنّ جنديين قُتلا في الهجوم، وذكر شهود عيان أنّ مجندة أمريكية أُسِرتْ ونُقلت إلى جهة مجهولة بعد تعرّضها لجروحٍ بليغة". قد يبدو هذا الحدث طبيعيًا ويمكن أن يقع في أية حرب، وأي بلد في العالم. غير أن معالجة الحدث من وجهة نظر إنسانية هي التي ستقلب موازين هذا الفيلم وتنتشلهُ من النَفَس التقريري الذي اعتدنا عليه في الأخبار وحتى في بعض الأفلام الروائية والوثائقية النمطية. وهذا هو سرّ نجاح الفيلم وتألق مخرجه هادي ماهود الذي شحن ثيمة الفيلم بمعطيات فنية وإنسانية على حدٍ سواء.

ليس غريبًا أن تتمنى جيسيكا بأنّ هذه الحرب سوف تنتهي قريبًا وتعود إلى أهلها وذويها وأصدقائها الذين تفتقدهم وتشتاق إليهم جميعًا مثل اشتياقها للوطن الذي تحنّ إليه بوصفه مرتعًا للطفولة ومَنجمًا للذكريات الجميلة التي لا تنضب. لا شكّ في أنّ الأم هي أقرب الناس إلى جيسيكا فهي التي تحذِّرها من المخاطر، وتُحيطها علمًا بأنّ الجميع بخير، وهم ينتظرون عودتها على أحرّ من الجمر.1013 ambulans

أحد المسؤولين الحزبيين الذين يرتدون البزة العسكرية يسأل عن المجندة الجريحة ليس من باب الاطمئنان عليها وإنما بوصفها ورقة رابحة للمساومة أو التفاوض مستقبلًا فيخبره الطبيب بأنّ لديها ضربات في الرأس وكسور في الأطراف السفلى ويأمر نقيب عسكري بإبعادها عن هذا المكان فتُنقل إلى مستشفى الولادة الذي لا يلفت الانتباه إلى وجودها. وينصحهم بعدم الاحتكاك بالقوات الأمريكية ويطلب منهم الاتصال بمديرية الاستخبارات العسكرية إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك.

تضارب وجهات النظر

في أول احتكاك بين سائق الإسعاف والجندي المسؤول عن الأسيرة تتكشف لنا النيات الطيبة للأول وتتضح النزعة العدوانية للثاني، فالسائق ينظر لها كـ "خطيّة" أي مسكينة، أسيرة ومصابة، بينما ينظر لها الجندي كمجندة أمريكية غزت بلاده.

 تتخلل الفيلم استذكارات الأم التي تعرب فيها عن حُبها واشتياقها اللامحدود فتبادلها البنت المشاعر ذاتها، ولا تدخر وسعًا في الإعراب عن لهفتها الكبيرة باللقاء المُرتَقب.

لقد تحولت المجندة إلى "ورطة" بالنسبة إلى الجندي المسؤول عن حمايتها وهو يريد أن يتخلّص منها بأسرع وقت ممكن فلقد أتعبتهُ ساعات الواجب الطوال ويريد أن يرتاح قليلًا لكنّ السائق يقترح عليه أن يفتح المذياع ويسمع ما يشاء لكي يُبعد عنه النعاس فتأتيه عبر الأثير أغنية "فوت بيها وعالزلم خلّيها / والله لرقاب العدو نساويها" ثم يتبعهُ مذيع إخباري يتحدث عن تغطية للحرب التي تدور رُحاها في العراق فيتململ الجندي متذمرًا من الحروب المتواصلة التي تنهش في أجساد العراقيين. وحينما يغيّر الموجة يطلب الجندي سماع القرآن الكريم مُبررًا ذلك بأنه ذاهب إلى الموت ومن الأفضل أن يشنّف سمعه بالقرآن الكريم.

يأمر العميد الركن غيدان عبدالله الجندي المكلف بحماية الأسيرة أن يأخذ سيارة الإسعاف ويُوقفها على الكورنيش المُطل على نهر الفرات بمواجهة القوات الأمريكية ويرشّها بالنزين ويُوقد فيها النار. وحينما يسأله عن مصير المجندة الأمريكية يأتيه الرد القاسي والمُفجع "إلى جهنم" بحجة أنّ القوات الأمريكية ضربت سيارة إسعاف مدنية وأبادت كل من فيها. ويأمر الجندي بأن ينفّذ أوامره لكن السائق سيعترض لأنه مهمته الأساسية هي نقل الحرجى والمصابين وليس حرقهم في الهواء الطلق. ولكي لا يحتدم النقاش استشهد سائق الإسعاف بآيات من سورة "الإنسان" حيث يقول الله جلّ في علاه:" وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا". فقد ساوى الله بين المسكين واليتيم والأسير لأنّ هذا الأخير مغلوب على أمره حيث يتوجب علينا إطعامه، وإكساءه، والمحافظة على صحته وسلامته لحين إخلاء سبيله. لا يبذل السائق جهدًا كبيرًا في إقناع الجندي بأنّه سوف يتحمّل ذنبًا كبيرًا يجب ألّا يقترفه في اللحظات الأخيرة من عمر النظام الآيل للسقوط. فالمستشفى قد فرغ ولم يبقَ فيه سوى حارس واحد نزع ملابسة العسكرية وارتدى الزي الشعبي. فطلب منه أن يذهب لأهله ويترك الباقي عليه لأن الجميع سيذهبون إلى بيوتهم ولن يبقى أحد. يذهب السائق للصلاة وحينما يعود يكتشف أن الجندي قد نزع ملابسه العسكرية وترك سلاحه وغادر المكان كليًا تاركًا خلفه المجندة الأسيرة. تعلن الإذاعة الأمريكية من جهتها بأنّ المسؤولين الأمريكيين يحذرون جنودهم بأنّ هناك معركة عنيفة، ومقاومة شديدة تنتظرهم في بغداد وإلى الشمال منها في تكريت؛ المدينة التي ولد فيها صدام حسين. غالبية الجنود نزعوا ملابسهم العسكرية وارتدوا الدشاديش والزي المدني وانضموا إلى السكّان المدنيين. وهناك 28 ألف فدائي مقاتل بقوا في المدينة وفقًا للاستخبارات العسكرية الأمريكية ويمكن أن يلحقوا الضرر بقوات الاحتلال الأمريكي.1014 ambulans

نهاية مُعبرة ومُستقبل مجهول

ينتهي الفيلم نهاية مُعبرة ومدروسة حينما يُقْدم أربعة جنود عراقيين على تبديل ملابسهم العسكرية بملابس مدنية مقابل أن يأخذ أسلحتهم وملابسهم العسكرية التي يخبئها خلف محتويات المحل. ثمة مشاهد لنهب الدوائر والمؤسسات الحكومية والحزبية. أمّا حارس المستشفى الذي لم يهرب ولكنه قلع هو الآخر ملابسة وارتدى الزي الشعبي مُدعيًا بأن الهزيمة ليست من شيمه. تُنقل الأسيرة إلى المستشفى ثانية لنرى القوات الخاصة الأمريكية وهي تُدهم المستشفى وتحرر المجندة من أسرها.

يعزز المخرج فيلمه ببعض المعلومات المهمة التي يتابع من خلالها مصير المجندة فنعرف أنّ جيسيكا لينج قد عادت إلى بلدها كبطلة حيث رأيناها تصافح الرئيس جورج بوش الأبن. أمّا سائق الإسعاف صباح خزعل فما زال يواصل عمله في المستشفى وبعد سنتين سوف تتعرّض سيارته إلى قصف القوات الإيطالية عند محاولة إنقاذ سيدة عراقية حامل ينقلها إلى مستشفى الولادة الأمر الذي يفضي إلى حرق وتفحّم السيدة ومرافقاتها وإصابة السائق بحروق متعددة.

كان أداء الممثلين الثلاثة مُقنعًا إلى حد كبير ولم نلحظ عليهم الانفعال الفائض عن الحاجة الأمر الذي أوحى لنا بعفوية الأداء وسلاسة تقمّص الشخصيات التي كانت تعيش ظرفًا استثنائيًا بكل المقاييس. وقد تمكن المخرج هادي ماهود من إدارتهم جميعًا بما في ذلك الشخصيات السياسية والأمنية والعسكرية. كما نجح الفنان رعد بركات في تطعيم الفيلم بموسيقى تصويرية تتناغم تمامًا من طبيعة الأحداث المُفجعة سواء للشخصيات العراقية التي تهيمن على مدار الفيلم أو للمجندة الأمريكية التي يقف خلفها الأهل والأصدقاء في الطرف الآخر من الكرة الأرضية. وفي السياق ذاته لا بدّ من الإشادة بدور مدير التصوير عبد الخالق الجواري الذي نقلنا إلى صُلب الحدث وجعلنا نتفاعل معه في لحظات التوتر والانفعال وهي كثيرة ضمن تفاصيل الفيلم، أو لحظات الاسترخاء التي يمكن تلمّسها بين آوان وآخر. وفي الختام لا بدّ من الاعتراف بأنّ النجاح الأساسي لهذا الفيلم قائم على براعة السيناريو الذي كتبه المخرج هادي ماهود وما انطوى عليه من معالجة فنية لوت عنق الفكرة الرئيسة وروّضتها لمصلحة وجهة النظر الإنسانية التي تبنّاها سائق الإسعاف ونجح في إيصالها إلى المتلقين من دون زعيق أو ثرثرة لغوية فارغة. كانت النهاية شديدة الدلالة ولم يسهب السينارست في الحديث عنها لأنها لا تحتاج إلى القول بأن الإدارة الأمريكية قد سلّمت دفة سفينة البلاد إلى الأحزاب الدينية. وينبغي ألا تفوتنا الإشادة بالترجمة الدقيقة التي تبنتها الممثلة المبدعة لبوة صالح حيث أتاحت للمتلقي الأجنبي فرصة استيعاب الفيلم من دون أخطاء لغوية تُربك تدفق المعاني وتؤرق انسيابها العفوي الجميل.

***

عدنان حسين أحمد – كاتب وناقد

في المثقف اليوم