قراءات نقدية
رحيم الغرباوي: محنة البؤساء في رواية (أوجاع على ضفاف الغراف)
للدكتور رحيم جودي الغياض
حين نتصفح النصوص الروائية يلامسنا شعور بأنَّ تلك الأحداث المبثوثة فيها بعضها حادث في أرض الواقع، ومنها ما يلامسه، والروائي الحاذق يقدم تلك الأحداث بزاوية نظر ملفتة؛ كونه يلتمس التجربة الشعورية والتخطيط المسبق لمعالجة أحداث روايته، ثم يختار الشخوص والأمكنة والأزمنة، فضلاً عن توظيف التقنيات التي يتمكن من خلالها سرد روايته، ويختار لها رواة راوياً يحلل الأحداث من الداخل، وآخر يروي القصة مستعملاً ضمير المتكلم، فله حضوره في الحكاية لكنه يقترب من الحوادث والشخوص، وراوياً يراقب الحوادث من الخارج، فهو حاضر وغائب في الوقت نفسه، بينما علاقة الراوي بما يرويه، فهي التي تحدد زاوية النظر, فضلاً عن الحوار والرموز التي بها يستطيع الإيحاء، بل والتوغل في سكب رؤاه في طبقات النص، لتمنح المتلقي بعداً رؤيوياً لفك الشفرات التي تمكنه من قراءة ما تحمله الرواية من مكنونات داخلية، ولعلنا حين نقرأ أول صفحة من رواية (أوجاع على ضفاف الغراف) للدكتور رحيم جودي، وهي أول رواية يكتبها وكأنه كتب عدداً من الروايات؛ ذلك لامتلاكه أسلوب الروائي، إذ نراه يتفنن في إدارة تقنيات مسروده، فضلاً عن ثقافته التي أهَّلته في نسج حبكة النص، وهذه المؤهلات التي أنتجت تلك الرواية فتحت آفاقاً على التاريخ السومري القديم وإيمان الشعوب آنذاك بالأساطير ولاسيما اسطورة (إنكي) إله الماء من أجل أن يمنح الكاتب نهر الغراف قدسيته وأزليته في آنٍ واحد"إن الولد إذا وصل الى مرحلة البلوغ عليه أن يغتسل في نهر الغراف المقدس؛ ليتطهر من روائح الأنوثة التي علقت به من مصاحبته لأمه، فالتطهر يمنحه شعوراً بالأمن والأمان؛ لما يحتويه من قدسية روحية، ويمنحه وعياً وإحساساً بالرجولة" (ص)5 ، وحين ننظر إلى الماء المُطهِّر نجده استقى تلك الرؤيا ليس فقط من الأساطير إنَّما من الديانات التي أكدت على أنَّ الماء هو مادة التطهير من جميع المدنسات ولاسيما في طقوس التعميد بل أنَّ الماء هو أصل الحياة.
ولما كانت الرواية تتحدث عن الفتاة أحلام يتيمة الأم ونتيجة ضغوط زوجة الأب لها وهي في عمر اليتم، فأرادت أن تتخلص من المعاناة التي تعيشها والذل الذي لحق بها والتعنيف الذي أجبرها على ترك البيت بعدما غرر بها أحد الشباب ليقنعها بالزواج لكنه بعدما حقق مبتغاه منها، تركها تسوح في القفار، وهي تعيش أسوأ الظروف ويبدو أنَّ الربط بين تطهير الغراف المحاذي للمدينة التي كانت تقطنها أحلام التي اقتص والدها منها بقتلها لغسل عاره في آخر صفحات الرواية يمثل الوحدة العضوية للرواية، إذ جعلها المؤلف حلقة دائرية تبدأ بالتطهر وتنتهي به لكن يظهر لنا أنَّ رؤية المجتمع للمرأة إزاء الرجل من أنَّها قاصرة، وأنَّ مجتمعنا ما يزال بتلك النظرة الدونية للمرأة، التي تمقتها الحضارة الإنسانية اليوم وهذا المبدأ هو ما بنيت عليه الرواية.
والصورة الثانية التي عالجتها الرواية هي صورة الخرافات التي تعج بها مدينة الكريمية وهي إحدى المدن الشعبية في مدينة الكوت" الكريمية صنيعة نهر الغراف ولدت من رحم الخرافات المعبقة بجاذبية الأمكنة والأزمنة أزقتها الضيقة المسكونة بالفقر، تشتمّ بين جنباتها ذكريات الأسى في متاهة النسيان أصوات أهلها الذين رحلوا، أو هاجروا تتسلل عبر شقوق بيوتها المتصدعة الطلاء المتآكل على الواجهات أصابها الهرم، شربت من نخب الأساطير المعتقة حد الثمالة، تتغذى على الحكايات تلهبها سياط الجن، ومناجاة الأولياء الصالحين، تعج بالأضرحة التي تدور في صمت بين أزقتها الصامتة وحولتها إلى متاهة أسطورية علاقتها بالأساطير والخرافات وثيقة" (27- 28)، ويبدو أنَّ الخرافة والأسطورة تنبع من الجهل والخوف ما يجعل الجهلة يعتقدون بها، فكلّ من الأسطورة والخرافة قصة خيالية قوامها الخوارق والأعاجيب التي لم تقعا في التاريخ ولا يقبلهما العقل حتى عندما نريد أن ننفي وجود شيء، نقول أنَّه أسطوري. ولعل الكاتب يتطرق إلى كثير من الحكايا التي تدل على تبرير الناس لكثير من جهلهم بإرجاعها إلى عوالق غيبية.
أما الوضع ما بعد التغيير ولاسيما الاقتتال الطائفي أو الانتقام من رجال النظام السابق، فيصفه من أنَّ ما حدث هو أبشع من قطع الأّذن ولاسيما قطع الرؤوس الذي أصبح يمثل جريرة شائعة في البلاد "بعد سقوط النظام ظلت الأوضاع على ما كانت عليه وربما أسوأ من السابق كانوا يقطعون الأذان ! والآن يقطعون الرؤوس لم يتغير شيء، فالإرهاب لم يترك مكاناً في البلاد إلا وداسه بنعاله الملوثة بدماء الأبرياء معسكرات الجيش نهبت، وسلبت عن بكرة أبيها، وأُفرغت مشاجب الأسلحة من محتوياتها حتى الشرطي لم يعد في أمان في هذه المدينة على الرغم من السلاح الذي يحمله، فالأمل الذي انتظرناه طوال سنين لم يتحقق، مجرد زيف ووهم" (ص47- 48). ويبدو أن العنف بلغ أعتى درجاته ليس فقط في أخذ الثأر أو ما نجم عن الشحن الطائفي بل صار يطبق شريعة الله من هم بعيدون عنها إذ نرى الكاتب يرفض العنف الذي يجد فيه إزدواجية الشخصية وهي تعاقب الآخرين فـــ"الجماعات المسلحة تحيط بالشقة دخلوا الحجرة وقبضوا عليهما معاً، تجمهر عدد قليل من الناس لمشاهدة تنفيذ حد الرجم في (حنان) قالوا أنَّها زانية ... رفض بعض الأهالي قتلها من خلال الرجم بالحجارة ... وفي تلك اللحظة أمسك أحدهم بـ(عيسى) من رأسه، وجذبه بقوة، وذبحه من الوريد إلى الوريد، وفصل رأسه عن جسده، فرمى الرأس في جهة والجسد في جهة أخرى" (85 وما بعدها). ويعد الكاتب هذا الفعل مخالفاً للقوانين المدنية التي تتنافى ومبدأ الرأفة في العقاب ولاسيما قطع الرأس كونه من التمثيل بالإنسان التي تشجبها حتى التعالم الإسلامية فقد جعل الكاتب صورة ابن حنان الصغير في موقف يدمي القلب تبريراً منه لتلك الرأفة، وهو ينادي:
"- أريد أمي ... أريدُ أمي). ليجعل أنَّ في رجمها ذنباً كبيراً قام به دعاة الإسلام الجدد.
أمَّا النفاق فقد مقته الكاتب بكل عناية واهتمام في الوصف ولاسيما ممن كان في حال ثم استبدله بحال آخر تبعاً لسياسة العصر ببراعة ومهارة "يتلوَّن كالحرباء كما أنَّ مجاراته للآخرين لاحدود لها يسلخ جلده، ويلبس جلداً آخر كالأفعى وفق تغيُّر الأحوال، يتكيف مع كل الأوضاع، يرتدي لكلِّ مرحلة لباساً، يمتلك نوازع انتهازية بالتسلق والحصول على ما يريد، أخذ يعزز موقعه من الأحزاب الدينية بسرعة متناهية دون أن تعصف به المتغيرات المتسارعة، اشترى رخصة الحج برشوة من أحد مكاتب السوق السوداء، وذهب لأداء مناسك الحج حتى يضع صفة الحاج قبل اسمه وكأن هذا يكفي لبراءته من أفكار الإلحادية " (89-90) التي كان يتبناها قبل سقوط النظام, وكل ما يجري كانت أحلام تشاهده.
كما قصَّت لها عجوز في المقبرة القريبة من المدينة "أنَّ الكثير من هؤلاء السحرة والمشعوذين يستعملون ماء غسيل الموتى، أو حرق الأدوات المستعملة في تغسيل الميت الطاسة أو الصابونة أو دفنها بعد ربطها برجلي الميت، أثناء الليل يقتحم غرباء قبور الموتى، وثمة نساء يهرِّبن ماء غسل الموتى للمشعوذين بأثمان خيالية من أجل إيقاف زواج النساء والتفريق بين الأزواج، ومنهم من يقوم برمي السحر في جثة الميت حتى يدفن السحر نهائياً، ولا يشفى، وهناك لصوص المقابر أو ما يطلق عليهم النبَّاشة يقومون بنبش القبور واستخراج جثث الموتى للحصول على أسنان الميت من الذهب أو سرقة الأكفان." (92)
وصورة أخرى "ثمة شابّة طويلة تبدو من بعيد قطعة سواد مدلهمة تأتي المقبرة كل ليلة خميس خلسة؛ لتزور حبيبها وهو شاب في أول ربيع حياته قتل برصاصة عمياء من قبل متطرف تحمل بيدها غصن ياسمين ... بعد ذلك قادتها قدماها في لحظة يأس، ووقفت فوق فوهة قبر صديقة طفولتها خلود الشيخ ناجي التي عشقت شاباً وسيماً، تقدم لخطبتها، ولكن أهلها رفضوا زواج ابنتهم من فقير؛ لكونهم من الأشراف وأرفع قدراً وأسماهم مكانة، ومن علية القوم، وبعد أيام وجدت جثة الفتاة غارقة في نهر الغراف عند المطحنة القديمة بعد أنْ ألقت بنفسها من الجسر القديم وأخذت تناجيها: ليتك أخذتيني معك، وكم تمنيت أن أموت وأُدفَن بجوارك"(ص 97) ولعل الدكتور رحيم جودي يرصد مثل هكذا مواقف؛ ليبين أنَّ الأثينية والتطرف وجهان لعملة واحدة لم يبرأ منهما المجتمع العراقي، فالموت بالمجان وأنَّ ما يطمح له الشباب ولاسيما البنات أمام تلك العراقيل هي أضغاث أحلام بيد أنَّها تخلق مآسي مفجعة.
أما ما يحدث في مراقد الولاة من الشيوخ في المدينة في علاج من تلبَّسه الجن ومن وقعت في هوس الإنجاب ممن تريد وضع حد لحياتها؛ نتيجة اليأس والاكتئاب الذي خيم على حياتها الزوجية عساها بعد يأسها من كبار الأطباء اتجهت إلى ضريح الشيخ هاشم عسى أن تجد ضالتها عند المشايخ الذين يتواجدون في مثل تلك الأضرحة من الذين دفعت لهم المال وعلقت حجاب في رقبة زوجها وآخر وضعته تحت وسادته, كل ذلك يشير إلى أن هؤلاء الشيوخ يستغلون سذاجة بعض من النساء في الزواج والإنجاب من خلال عمل الأوراق والأحراز وفك السحر، ولفرط طيبتهن وثقتهن به أخذ يحتال عليهن يسلب أموالهن يقوم بعصب عيونهن، وغلق الأبواب عليهن في حجر مظلمة بحجة فك السحر وتخصيب العواقر منهن كأنه يمارس معهن العهر المقدس في المعابد " ثار عليه الأهالي وحاصروه وتعقبوه كذئب هارب هرب من القرية ليلاً إلى قرية أخرى أصابها الجفاف والقحط والمجاعة" كل هذا استفحل لغياب سطوة القانون الذي كان قبل سقوط النظام يضرب بيد من حديد لكل من يمارس هذه الأعمال التي تستغل جهالة الناس وميلهم للجادة التي تستغل الفقراء من الجهلة لمثل هكذا طرق سيئة.وحين تكون الأوطان تحت ظل الاحتلال ينطبق قول ابن خلدون على الواقع اليوم الذي ترصَّده الكاتب في روايته "عندما تنهار الأوطان يكثر المنجمون والمتسولون والمنافقون والمدعون والقوالون والمتصعلكون وقارئوا الكف... والمتسيسون والانتهازيون، فيختلط مالا يُختَلط، ويختلط الصدق بالكذب، والجهاد بالقتل... وتشح الأحلام، ويموت الأمل وتزداد غربة العاقل، ويصبح الانتماء إلى القبيلة أشد إلصاقا وإلى الأوطان ضرباً من ضروب الهذيان"
وفي أماكن العبادة يلفتنا الكاتب إلى صورة من صور البؤس من المقهورين سلام الأعور الغارق في غيبوبة المخدرات، فقدَ إحدى عينيه في نزال بطولي مع تجار المخدرات يعتاش على سرقة الأحذية الثمينة من أبواب المساجد، ويبيعها بأسعار زهيدة للفقراء، ولاسيما أحذية المسؤولين في الحكومة عند صلاة الجمعة أطلقوا عليه (اللص المؤمن) (ينظر ص106- 107).
أما الحي العائم بالفقر والجهل والذي "يغذيه التهميش والحرمان، ويغطيه البؤس والقهر مكاناً أشبه بالمنفى وملاذًا للغرباء، تبدو على شوارعه وأزقته آثار الإهمال وتراكم الأوساخ، فكل شيء ينذر بالحزن والكآبة والألم والمعاناة. الفرق بين الأحياء والأموات النوم فقط, وتحت الأرض يعانون من شظف العيش, أكثرية مهمشة تشعر بنوع من الدونية يطحنها الفقر، سلكت دروب المهالك، فالعنف هو النظام العلائقي البارز الذي ينظم العلاقات بينهم انخرطوا في أعمال الإجرام والارتزاق أجيال ولدت من رحم الحروب والصراعات لأجل كسب المال"(ص127-128) ولعل مثل هكذا مجتمعات تعتاش فيها الكثير من دواعي الغيبيات العجائبية والغرائبية من معتقدات لا يتقبلها العقل فضلاً عن الحاجة التي تولد من عدم تحقيق ما يرومه الفقراء يجعل بعضهم يعتاش بالصعلكة مثلما هو سلام الأعور وبعض الذين يدعون أنهم أولياء الله ومن قارئي الكف والفال والمشعوذين من أجل الحصول على لقمة العيش.
وفي محطة أخرى في الرواية "تعيش الأكثرية إرهاصات التدين الشعبي المفتعل خلف أيدلوجيات مغلَّفة بالخرافات والأفكار الغيبية، وتقديس الزعماء كأنهم يعيشون في مستعمرة البؤساء والمهمشين فلا سلطة لأحد على العشيرة غير سلطة الشيخ" (133)
ينهي الروائي روايته على لسان إمام الجامع بعد مقتل أحلام وذلك بذبحها بسكين الأبوة التي أشبهت سكاكين الإرهابيين بقوله:" على مذبح الأعراف والعادات والتقاليد الاجتماعية البائدة التي تبارك تلك الأفعال الساذجة رحلت عن هذا العالم القاسي الذي لم تجد فيه الراحة والأمان، وذهبت إلى ربٍّ كريم لا يظلم عنده أحد" (165) .
يبدو أنَّ المعاناة التي تقاسي شرورها المجتمعات البائسة؛ نتيجة الجهل والتقيّد بنير العادات والتقاليد وما يلازمها من خرافات وخوف نتيجة السطوة التي يكرسها في النفوس أدعياء الخير من المشعوذين والمتسلطين والإرهابيين والمدعين أنَّهم أولياء الله في أرضه مستغلين سذاجة البسطاء وضعفهم فيضيفون تعاسةً على تعاستهم ، وناراً على نيرانهم، فصار هؤلاء البسطاء قساةً حتى على أنفسهم وذويهم بفعل تلك العادات والمعتقدات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي جعلتهم أسارى بها لا يمتلكون حرية الوعي والتثقيف للخلاص من سجون العبودية المقيتة.
نتمنى التوفيق للدكتور رحيم الغياض المزيد من النتاجات الأدبية ذات المضامين الهادفة، والرؤى الإبداعية الناضجة. ومن الله التوفيق.
***
بقلم: أ. د. رحيم الغرباوي