قراءات نقدية
حيدر عبد الرضا: العلاقة الإطارية بين الرؤية السردية وعاملية الفاعل
دراسة في رواية (الشبيه) لجوزيه ساراماغو، الفصل الثالث - المبحث (3)
***
توطئة: ان بالإمكان محاولة إعطاء صورة موضوعية في رؤية مسار الأشياء والعناصر في العلاقات السردية من حدود ذلك الجانب الذي يقدم الشخصية وكأنها رؤية من عوامل رؤية تقودنا نحو مقاصد سايكولوجية معينة، وليس بالضرورة أن تكون تلك النقطة التوصيلية من التبئير إلا رؤية مفرطة في عوالمها التخييلية وهويتها الانشطارية في الأحوال الزمنية والمكانية والنفسانية. فمثلا حاول جوزيه ساراماغوا من خلال شخصية أفونسو كوضعية تؤلف مع حالها إزاء ذلك الشبيه في شريط الفيديو إذ خلق حالة من الإشكالية في العلاقة بين (المرئي - اللامرئي - الواقع -اللاواقع) وبناء على ذلك نعاين أفعال الشخصية أفونسو مع هذه القرائينية كما لو أنها مفارقة وضعية أوجه خلفية من أداة العلامة وخوض الصراع مع عاملية الفاعل في ذاته. وما أهدف إليه هنا، هو محاولة تبين زمن التلفظ وزمن الملفوظ داخل حدود (زمن السردي - زمن المروي) مع الإشارة بأن حقيقة حدود الأشياء تستغرق مساحة زمنين: الزمن الذي تستغرقه الشخصية مع حاﻻته بمدى تقارب ذلك الشبيه منه شكلا، والزمن المروى الذي هو بمثابة التقديم لإمكانية المسآلة والإفصاح من الشخصية ذاتها مع تحولات تعارض كلي بين الحكي الظاهر وطبيعة العنصر الفاعلي بوصفه حكيا في ذاته كعاملية متلفظة في مواطن الملفوظ التعادلي بمعنى أكثر دقة في كيفية تمييز (الزمن المتحول ؟)للقراءة الفعلية وسوف أحاول في المباحث الفرعية شرح ومقاربة المستويات عبر فحص موضوعي للأسباب والعلل في توزيع زمن الأفعال السردية والمروية بين الزمنين المعنيين.
- جدلية النسخ الآدمي وانقضاءات زمن الانموذج الواحد
تتضامن الفواعل والمحيلات السردية في مسار تشاكل الوحدات المحورية من الفصول الأولى من الرواية نحو مشخصات تشتغل في بنية علاقة الشخصية أفونسو حول إشكالية ذلك التقارب أو بالأحرى النسخ من صورته في هيئة ذلك الممثل في شريط الفيديو، رغم تباعد بعض الفوارق العمرية بينه وبين ذلك الموظف في شريط الفلم. وتتحكم في نوازع محور أفونسو تلك الأثباتات التالية في كون ذلك الموظف ما هو إلا ذاته قبل بضع سنوات خلت، ولكن لو حاولنا اختزال ذلك الزمن الاحتفاظي في ذاكرة أفونسو، لوجدنا أن الشخصية ﻻ تبذل أدنى مجهودا في استرجاع بعض ذكرياته القديمة ولو على مضض من قابليته الاستعادية: (هو صورته طبق الأصل، بحكم الوجه والمظهر عموما. بعد مقارنة متأنية لصورته قبل خمس سنوات مع الصورة المكبرة لموظف الاستقبال، بعد أن لم يجد أي فرق بين هاته وتلك./ص٢٩ الرواية) هكذا تخضع كل ملموسات التطابق ما بين الصورتين إلى الاحساس والميل والنزوع والمزاج بأولوية الأخرى على الثانية في هيئة تفاعلية تعطي للظرف الزمني مشروعية البحث في الذاكرة الفردية عن جدوى كل هذه الملازمة في التشابه والشبه.
١- الذاكرة وتبلور انطباعات النسيان:
مما ﻻ شك فيه أن الذاكرة ﻻ تطفو على سطح إلا في سياق اللحظة المعيشية آنيا، وإنها تختلف حسب الظرفية المناسبة التي تلفظتها داﻻ، فالذكرى في شبه حالة الشخصية أفونسو عبارة عن متعلقات ماضية يصعب عليه استذكارها في حدود ذاكرة محدودة في سمة من السمات. وما يميز حالة وقوع الشبه بين أفونسو وذلك الممثل في شريط الفلم هو الوقوع في ذاكرة مرتبطة باللاوعي، تعارضا بين الوعي وعملية التذكر في شروطها الاسبابية المثبتة في نوع من العلاقة بين الإدراك والمادة في حدود وقوعية راسخة: (ترك أفونسو نفسه يسقط على الأريكة، وليس الكرسي - كابد لينظم أفكاره. يفكها من فوضى الأحساسيس المتراكمة منذ تلك اللحظة التي قامت فيها ذاكرته - إن أكثر ما يحيرني، كان يفكر بعناء، ليس أن هذا الرجل يشبهني، أنه نسخة مني، أو لنقل نسخة ثانية مني. /ص٢٩) لعل مواقع وفرضيات الذاكرة أو اللاذاكرة تلعب دورا لافتا في سيرة أحداث الشخصية أفونسو وتجدر الاشارة بنا على مستوى ومستويات من التعالق في الانتاج الجيناتي الذي جعل من الشخصية أفونسو وذلك الشبيه في الفديو يقعان داخل امتداد مداري في الصورة والإطار والافتراض، وخاصة ما يتصل بالمقصديات الذاكراتية تحديدا، فهناك حاﻻت من تعطيل الذاكرة لدى أفونسو ومعنى لك وجود الترابط بالخلل المرتبط بالذاكرة الإجرائية للبنية الأولية للدﻻلة بعلاقة المؤول التعريفي.
٢- التناظر الإمكاني وعواقب الإلتباس الجيني:
لربما القارىء دائما هو عرضة إلى فخاخ (الارتباك المؤشري) ولربما هو أيضاً أكثر توترا في فحص اختلافات المعدﻻت الموضوعية والزمنية والنفسانية المبثوثة في حدود مقاربة مواقف النص وتراتيبية المعنى الطردي. يعد المؤشر الكمي في وحدات القيمة المشهدية في تفاصيل مسار التخييل في رواية (الشبيه) عاملا طرديا ذا إمكانية تشيع التفاصيل في روح المعالجة بوظائف زمن الحكي، لذا فأوجه الأهمية بالمظهر الطردي هو الملاءمة والبحث في خيارات وسائط السرد. لعل من المهم على أقل افتراض، هو مقارنة الشخصية أفونسو في الاختلافات المشتغلة في حدود دﻻﻻت (الزمن التمثيلي ؟) بمعنى ما راح الشخصية يحث التباينات التوقعية أو التخييلية في مسار انتقاءات تتركز بوسائط طردية تسعى إلى أن تكون محض ممارسة في المقصود الامتدادي أو الغرض اللافعلي في تكهنات متفاوتة في الدليل والمدلول: (بل هي مجرد ضرفية، أن تغييرا عرضيا في إطار جيني معين يمكن أن ينتج عنه كائن مشابه لكائن ناتج عن إطار حيني آخر من دون أن تكون له أي علاقة به، ان ما يحيرني ليس هذا الأمر بقدر ما يحيرني أن أعلم أنني قبل خمس سنوات كنت نظيره وقتئذ، بل كان لنا شارب معا، بل هناك أيضا إمكانية، ماذا أقول، احتمال إنه بعد مرور خمس سنوات،أي اليوم، في هذه الساعة تحديدا، في هذه الساعة من الفجر، ما زال التناظر مستمرا، كما لو أن تغييرا في ذاتي كان عليه أن يحدث تغييرا في ذاته./ ص٣٠الرواية) وما يدنو زمن الشخصية أفونسو من زمن ذلك المتناظر تشبيهاو تمثيليا به، هو العامل المفترض في التصور والطبيعة التناسبية، بل والطريقة في إحصاء قيمة الزمن الصاعد ما بين الاثنين، وصوﻻ إلى معدلات النظر في الكيفية الديمومية والتكوينية اللتان يترتب عليهما إحساس الشخصية في البدء والتلازم والمنتهى. غالبا ما تكون الذاكرة شديدة المكر والخداع وتنصب للذات العاملة المزيد من الشراك والاحابيل، وهذا الحكم القيمي منا يلفت انتباهنا إلى مكامن اللحظة المشوشة في ذاكرة الشخصية وهي تمارس ضروبا شتى في كشف وتعليق تلك الخيوط الواهنة من حبك الذاكرة الزمنية، ولعلنا نعاين في الوقت نفسه بأن وظيفة السارد العليم تلتزم بمنظور الشخصية - أفونسو - ووصولها الداخلي إلى أقصى نقطة مبئرة من مكون الإنفعال والرؤية إلى الأمر بطريقة الدخول في طبيعة السرد الاستعادي الذي تميزت به الرواية، ما راح الأمر من جهة خاصة يسبغ على مواطن أحداث الشخصية ذلك النوع من وظيفة أدماج السارد العليم في رقعة الشخصيتين ومأساتهما في السبب والنتيجة المبثوثة في حركة موضوعة الرؤية الذاتية للذاكرة المبأرة بملامح الإحساس من وجهة نظر احادية الوسط والأثر والجوهر.
٣- معادلة الشبيه وشيفراتها الحوارية المبطنة:
تتضح في المتواليات الصعودية من عقدة الشخصية أفونسو بأن هناك حلقات مفقودة في سلسلة مصادقات هذا الشبيه الظهورية: فإذا كان الأمر محض ممارسة فرجة على واحد من أشد الافلام هبوطا في قيمته المدلولية، فلماذا كانت كل هذه الضرورة الملحة التي بادره بها صديقه مدرس الرياضيات بضرورة التفرج عليه ؟ فهل من الممكن أن هذا الأخير يبدو أنه لاحظ مقدار الشبه بين الممثل في شريط الفيديو وزميله مدرس التاريخ فأراد بهذه المبادرة أن ينبه صديقه في كونه هو ذاته موظف الاستقبال في شريط الفلم مثالا؟.
- تعليق القراءة:
لعل هناك الكثير من الصدف والمصادفات التي تكون مجتمعة لغرض إنشاء حالة تتعدى المافوق واقعي، بل لعلها تتوافق هذه المصادفة مع عملية من الصعب فك أذرع شيفراتها المحتدمة من قبل شخصية مثل أفونسو، هذا الرجل الذي يعتاش على تدريس مادة التاريخ فيما يبتعد بمقدار المجهول عن مشاهدة الأفلام. وتراجع عن دور السينما منذ تواريخ لا تسمح للذاكرة بالتوفيق عند أزمنتها المحالة بطبقات كثيفة من الغبار والنسيان. نجد أن (جوزيه سارماغوا) يحقق في الشبيه - مظهرا بليغا من الشكوك والوقوع في ملتبسات ذلك الشاهد - أي زميله مدرس الرياضات - الذي كان قاصدا وغير مقصودا. بالفعل هناك في مواقع السرد الكثير من المشاهد وتداخل المونولوج مع النفس من خلال البعد الشخوصي واللعب الزمني وتقاطعات الكشف واللامكشوف، حيث يتجلى لنا المتخيل الروائي زمنيا وكأنه جملة من صراعات مصدرها تأملات ووساوس الشخصية أفونسو أحول ذلك الشبيه في زمن الشريط الفلمي الذي ﻻ يتجاوز زمنه عدة دقائق تاركاً في الشخصية سمات موحشة من أزمنة التذكر والإسقاط الافتراضي حول مبررات مقصودية ذلك الشبيه الكامن بين العلاقة الإطارية والرؤية السردية ونوازع وقلق عاملية الفاعل الشخوصي المأزوم ضمنا وعلنا.
***
حيدر عبد الرضا