قراءات نقدية

كريم عبد الله: الوطن في قلب الكروان: بين الحلم والألم

قراءة نقدية تحليلية في نصّ: كروان – للشاعرة سونيا عبد اللطيف – تونس.

***

القراءة:

قصيدة (كروان) للشاعرة التونسية: (سونيا عبد اللطيف) هي نصّ مفعم بالرمزية والمفارقات الوجدانية، يتنقل بين مستويات شعرية معقدة تعكس التوتر بين الذات الإنسانية والوطن. القصيدة ليست مجرد تعبير عن حب الوطن أو الحنين إليه، بل هي تجسيد لألم عميق وشعور بالتمزق الداخلي الناتج عن اغتراب الفرد عن وطنه في زمن الصراعات والتحولات.

1. البنية العميقة للنص: التكرار واستخدام الأنماط المتوازية:

النص يعتمد بشكل مكثف على التكرار، وهو أداة شعرية مؤثرة في هذا السياق. الشاعرة تعيد فكرة (الوطن) بشكل مستمر في عدة صور ورؤى: (الوطن الذي أحمله بين ضلوعي) و(الوطن الذي أحمله بين ضلوعي صار كبيرًا). هذا التكرار لا يقتصر فقط على تكرار المعنى بل يعكس التمزق والاحتدام الداخلي بين الذات والوطن. كل مرة يعاد ذكر الوطن، يبدو أنه يتغير أو يتسع أو يتحطم، وكأن هذه العلاقة بين الشاعرة ووطنها هي علاقة تتطور في الزمن، وتتصارع مع التحولات التي تطرأ على الواقع.

2. الوطن بين الحرية والقيود: تجسيد الكائن الأسير:

تبدأ القصيدة بصورة شاعرية قوية وذات دلالة رمزية عميقة: (الوطن الذي أحمله بين ضلوعي / مثل كناري أسير / بين قضبان قفص صغير). هذه الصورة تُسقط معاني كبيرة على الوطن. الشاعرة تبدأ بتصوير الوطن ككائن حي، لكنه أسير، محاصر، مكبل بالقفص. الكنايات هنا تشير إلى فكرة الحرية المفقودة؛ فالكناري يمثل طائرًا معروفًا بجماله وصوته العذب، لكنه لا يستطيع أن يعبّر عن ذاته بحرية في القفص. القفص هنا هو الأنظمة السياسية، القيود الاجتماعية، أو حتى الواقع المأساوي الذي يعيشه الوطن. هكذا، يبدأ الوطن رمزًا للحرية المفقودة، ثم ينتقل إلى تعبيرات أخرى تشير إلى سلب هذه الحرية.

3. التوتر بين الحلم والألم: الحلم بالسلام والانفجار الداخلي:

في الجزء التالي من القصيدة، ينتقل النص من حالة التعايش السلمي مع الوطن إلى الصراع الداخلي الذي يشل الحلم:

(كيف نستقبل السّلام؟

كيف نحلّق الأحلام؟

من أين تأتينا الأنسام؟)

هنا، تطرح الشاعرة أسئلة تفضح التحول المأساوي في العلاقة بين الإنسان ووطنه. فالأسئلة الوجودية حول السلام والأنسام تحيلنا إلى واقع موحل بالصراعات والدمار. الشاعرة ليست في حالة استجداء للأمل بقدر ما هي في حالة احتجاج على واقع أساسي يتسم بالانكسار. السّلام هنا لا يأتي فقط من غياب الحرب، بل من غياب أعمق: غياب الحرية الداخلية للإنسان الذي تم اغتيال أحلامه.

ثم تأتي صورة (الرياح التي كسرت له العظام)، التي تمثل قوى خارجة عن إرادة الإنسان، قوى الاحتلال، القمع، والفقر، التي تنهك الوطن وتكسر ظهره، مما يفضح حالة الانهيار التي يمر بها. الطائر (الكروان) الذي كان يغرّد ينقلب إلى كائن يبكي من الألم، وهو ما يعكس صراع الذات مع واقعها الفج.

4. التدمير الذاتي: صورة الشهداء والجروح الوطنية:

ثم تأتي الصورة الكارثية التالية في القصيدة:

(أحرقت البيادر، أحرقت الأشجار، أحرقت قلوبًا جلّنار).

هذه الصورة تحمل في طياتها معانٍ دموية عن التدمير والخراب. الأشجار تمثل الحياة، والبيادر تمثل الثروة والخصوبة، أما (قلوب جلّنار) فترمز إلى الجمال والإيمان في نفوس الناس، التي كانت تتمنى السعادة والعدالة، لكنها أحرقت في سبيل التسلط والفساد.

إن إحراق هذه الرموز يُظهر الدمار النفسي الذي يطال الإنسان العادي، الذي كان يسعى لبناء وطن أفضل. كما أن (قلوب جلّنار) تشير إلى خيبة الأمل في وجدان الناس الذين (تهشّ) حياتهم ولم يعد لديهم شيء يطاردونه سوى الخراب. لا تقتصر هذه الاحتراقات على الأراضي والأشجار فحسب، بل تمتد لتطال الروح والجمال البشري، لتشكل بؤرة الألم المتراكم على قلب الوطن.

5. من الكينونة إلى الاغتراب: الوطن يتحول إلى وحش:

ثم نصل إلى النقطة الأكثر تراجيدية في النص، حيث تقول الشاعرة:

(صار كبيرًا / وحشا غريبا).

الوطن الذي كان حلمًا أو رمزًا للدفء يتحول الآن إلى وحش ضخم لا يمكن التغلب عليه. هذا التحول هو تعبير عن الاغتراب الداخلي، حيث تشعر الشاعرة بأن الوطن أصبح شيئًا غريبًا عنها، شيء لا يمكن التفاهم معه، وكأنه أصبح كيانًا معاديًا. الوطن لم يعد مكانًا للأمان والراحة، بل أصبح كائنًا ضخمًا يثير الفزع والذعر. صورة الوحش تقابل صورة الطائر في بداية القصيدة، وتظهر بشكل صارخ التناقض بين ما كان عليه الوطن في الذاكرة وما أصبح عليه في الواقع.

6. التسليم بالمأساة: الصراع بين الوعي والوجود:

أخيرًا، يُختتم النص بـ:

(ليت قلبي / ما عرف حنانا / ما عشق أوطانا)

هنا نرى لحظة التسليم بالحزن، حيث تتمنى الشاعرة لو أن قلبها لم يعرف الحب. هذا التمني ليس مجرد تهكم أو سخرية، بل هو تعبير عن اليأس العميق: لو أنني لم أحب هذا الوطن، لكانت معاناتي أقل. لكن الفاجعة تكمن في أن الوطن صار جزءًا من كينونتها، مثل الدم في الشريان والوجدان في الإنسان. وهنا تكمن المفارقة المؤلمة: فالوطن، رغم الخراب والألم، يبقى جزءًا من الذات، لا يمكن الفكاك منه، حتى لو كان مصدرًا للتعذيب الداخلي.

7. الدلالة الفلسفية: وجود الوطن في الذات:

القصيدة تنطوي على تأمل فلسفي عميق حول الكينونة والوجود. تطرح الشاعرة تساؤلات وجودية حول الذات ووطنها، وهو ما يعكس الاغتراب الوجودي بين الوعي الوطني والواقع المرير. الوطن هنا هو فكرة وجودية، يمثل الانتماء والهوية، ولكنه في نفس الوقت يشكل عبئًا داخليًا للإنسان الذي يشعر بالتناقض بين حبه لوطنه وبين ما آل إليه هذا الوطن من خراب.

خلاصة القراءة

قصيدة (كروان) هي نص متشابك رمزيًا وفكريًا، تتراوح فيه الأحاسيس بين الحلم والخيبة، وبين الأمل في وطن حر وبين الألم الناتج عن الفساد والدمار. الشاعرة تُظهر من خلال الصور الشعرية المبدعة التحولات النفسية والوجدانية التي يعاني منها الإنسان تجاه وطنه، بل والوجود ذاته، حيث يُصبح الوطن أكثر من مجرد مساحة جغرافية؛ إنه إحساس داخلي لا يمكن التخلص منه، حتى وإن كان سببًا للألم والاغتراب.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

......................................

كروان

بقلم سونيا عبد اللطيف

***

الوطن الذي أحمله بين ضلوعي…

مثل كناري أسير

بين قضبان قفص

صغير

تراه يغرّد

تراه فرح

تراه…

*

مثل جناح غادره سربه

اطلق لطيره العنان

رفرف مع الغربان

كسرت له الرّياح العظام

أجهش بالبكاء الكروان:

كيف نستقبل السّلام؟

كيف نحلّق الأحلام؟

من أين تأتينا الأنسام؟

*

مثل نبضة

مثل قدحة

مثل  شرارة…

أحرقت البيادر،

أحرقت الأشجار

أحرقت قلوبا جلّنار

كانت تهشّ …

قسما

قيما

كيانا

*

الوطن الذي أحمله بين ضلوعي

صار كبيرا

وحشا غريبا

حطّم الأسوار

تفجْر بركانا

*

ليت قلبي

ما عرف حنانا

ما عشق أوطانا

ما أدمن بلدانا

ما دخل سهولا أو صعد جبالا

*

وليت الوطن …

ما حرّك فيّ ذرّة

وجدان

ما سرى كالدّم

في الشّريان

ما سكن الإنسان

وظلّ يشدو في القلوب

كروان

***

سونيا عبد اللطيف

 

في المثقف اليوم