قراءات نقدية
كريم عبد الله: تفكيك الجرح.. سيميائية العلاقة بين الذات والقصيدة في منطق الفوضى والوجود
قراءة سيميائية في قصيدة.. أنا والقصيدة – للشاعرة ريما حمزة – سوريا
توطئة: تفكيك الجرح: سيميائية العلاقة بين الذات والقصيدة في منطق الفوضى والوجود
هذا العنوان يتناول البنية السيميائية في القصيدة التي تستعرض العلاقة المعقدة بين الشاعرة وكتابتها، حيث يُمكن ملاحظة تأملات في الذات والشعر على حد سواء، بما في ذلك التوتر بين الفوضى والبحث عن المعنى. كما يعكس كيف تتحول القصيدة إلى أداة للغوص في أغوار الذاكرة والوجع، مع إشارات إلى الحركة المستمرة والتغيير.
القراءة:
أولًا: قراءة سيميائية
القصيدة / أنا والقصيدة / للشاعرة ريما حمزة هي نص يتلاعب بمفاهيم اللغة والوجود، ويمزج بين الرمزية والسريالية لإيصال الحالة الوجدانية للشاعرة في علاقة متوترة مع نفسها ومع فعل الكتابة. يفتح هذا النص بابًا واسعًا للتأمل السيميائي حول كيف ترتبط الذات بالقصيدة، وكيف يتأثر هذا الارتباط بالزمن والمكان والتجربة الشخصية.
في هذه القراءة السيميائية، سنستكشف كيفية تفكيك الرموز والكلمات في القصيدة لفهم علاقة الشاعرة بالقصيدة باعتبارها مساحة من الفوضى والوجود المتقلب.
الذات والقصيدة: صراع داخلي في فضاء الكلمات
القصيدة تبدأ بـ / تراوِدُني عند ذاك القوافي/، في إشارة إلى وجود نوع من الإغواء أو الإغراء الشعري الذي يجذب الشاعرة نحو الكلمات. / القوافي/ هنا لا تعني مجرد التكرار الصوتي، بل هي علامة دالة على كل ما هو مرتبط بالشعر والفن؛ إنها ركيزة النص، ولكنها أيضًا مصدر إرباك وتشتت للذات الشاعرة. هذه العلاقة بين الذات والقصيدة تصبح أكثر وضوحًا عندما تقول الشاعرة / أَغُضُّ الزمانَ / وأدلِفُ لي .. / إلى لحظاتِ التهرُّبِ منّي/. هنا، الزمن يبدو كعدوٍ للذات، والشاعرة تسعى إلى التهرب من هذا الزمن الذي يقيدها، وتهرب إلى عالم القصيدة الذي يمثل ملاذًا من المراقبة والتوقيت.
/ أُوَلّي بجرحيَ أجزاءَ روحِي القديمةْ ../ هي جملة تعبّر عن تعمق الذات في آلام الماضي، حيث تتحول الجروح إلى أجزاء من روح الشاعرة التي تأبى الزوال، بل تتشبث بالوجود رغم آلامها. في هذه النقطة، يمكن تفسير الجرح كرمز للتجربة الذاتية المعذبة التي لا تنتهي، ويبدو أن القصيدة هي الوسيلة الوحيدة للحديث عن هذه الجروح.
الفضاء السيميائي: تضييق المكان وتوسع الزمان
تستمر الشاعرة في التعبير عن عجزها عن الهروب من الذات، قائلة: / المكانُ يضيقُ ...يضيقُ / وجدرانُ ظلّيَ أكثرُ منهُ اقترابا /. هنا، يمكن أن نرى تضييق المكان كرمز لصعوبة التفاعل مع الواقع الخارجي، بينما جدران الظل تشير إلى أن الذات محاصرة في داخلها، في دائرة مغلقة من الأفكار والذكريات. يتسع هذا الشعور في المقطع الذي يتحدث عن / أخشابُ تلكَ المقاعدِ أكثرُ منهُ شبابا /، حيث يتحول حتى الأثاث والمكان إلى رموز للزمن المتعفن أو المتآكل الذي يزداد قربًا ولكن لا يؤدي إلى الانفراج.
الصورة السيميائية: التورط في الفوضى والتجديد
القصيدة لا تقتصر على مجرد تأمل في الذات والشعر، بل تتضمن أيضًا صورًا حيوية وفوضوية تبرز من خلال الرموز السيميائية التي تثير الحس الجمالي والوجداني. على سبيل المثال، / أعانقُ في لحظةٍ صوتَها الخشبيَّ وأنشقُ رائحةَ المرتجى/ هي صورة شاعرية معقدة تجمع بين الصوت والرائحة والشكل، مما يشير إلى تداخل الحواس وتداخل اللغة مع التجربة الحسية الداخلية للشاعرة. الصوت الخشبي يشير إلى نوع من التجريد أو الصلابة، بينما رائحة المرتجى ترمز إلى الأمل أو البحث عن شيء بعيد المنال.
/ تظّلُ الحماقةُ في قعرِ كأسي/ تتعامل مع مفهوم الحماقة كحالة دائمة ترافق الشاعرة، وهي موجودة في / قعر/ الكأس، مما يربط الحماقة بالخمر والمجون، وهو ما يعكس محاولة الشاعرة الهروب من العقلانية إلى عالم العاطفة والتجربة الحسية.
أما في الصورة / كيفَ أُلَمْلِمُ تِبْرَ القوافي / وبيتُ قصيدي حكايا الرّياحِ؟ /، فإن / تِبْرَ القوافي / يشير إلى التفكك والفوضى التي تجلبها الكتابة الشعرية. الرّياح تمثل عنصرًا متقلبًا ومتغيرًا، مما يوحي بأن الشعر نفسه يتأرجح بين الثبات والاضطراب. الشاعرة تواجه صعوبة في جمع أجزاء قصيدتها وبلورة أفكارها داخل هيكل ثابت، فكلما حاولت التململ منها، تجد نفسها تائهة في عالمها الشعري.
الانكسار والتجدد: قصيدة تفتح الأفق وتغلقه في آن
القصيدة تواصل رحلتها عبر الصور السيميائية التي تجمع بين الانكسار والتجدد. / ويفتحَ جَفنِي ستارَ الأملْ / تُرَشُّ خدودي بماءِ المللْ / تظهر في هذه الأسطر لحظة التحول أو التغير، حيث يسعى الأمل إلى فتح الأفق أمام الشاعرة، ولكن ملل الحياة يغمر وجهها ويغلق هذا الأفق. نرى هنا كيف تتأرجح القصيدة بين الأمل واليأس، وبين محاولة الخلاص من الماضي وضرورة التمسك بالحالة الشعرية الفوضوية التي تخلقها.
الختام: حلقة مغلقة من القلق والوجد
القصيدة تنتهي بـ / ويُغلِقُ وجدي أواني القلق /، حيث يتم الإغلاق على كل المشاعر المتدفقة في النص. الوجدان هنا يمثل المركز الذي تتجمع فيه كل مشاعر القلق، وكل محاولات الفهم والتحليل، ليغلق النص نفسه في دائرة من التوتر الوجودي. هذه النهاية السيميائية تعكس عدم اكتمال الفهم والقبول، وتؤكد أن العلاقة بين الذات والقصيدة هي علاقة دائمة من البحث دون حل نهائي.
الخلاصة:
من خلال القراءة السيميائية في قصيدة /أنا والقصيدة/، نجد أن الشاعرة تخلق عالماً شعرياً معقداً يترجم صراعها الداخلي بين الذات والشعر. القوافي التي تراودها هي أداة شعرية تحاول الشاعرة من خلالها مواجهة جروحها الذاتية، وتحقيق معانٍ خاصة قد تكون غير قابلة للوصول في أبعاد الحياة اليومية. في هذا النص، يكون الشعر وسيلة لتفكيك الذات، بينما في نفس الوقت هو مصدر للفوضى والوجود.
ثانيًا: سيميائية الموسيقى
الموسيقى في القصيدة هي عنصر حيوي وملهم يضيف بُعدًا شعريًا وجماليًا معقدًا، حيث لا تقتصر على الموسيقى السمعية التقليدية (مثل القوافي أو الإيقاع)، بل تتداخل مع الموسيقى الرمزية التي تولدها الصور الشعرية والأنماط الصوتية. ومن خلال قراءة سيميائية لهذا البُعد الموسيقي، يمكن فهم كيف يتم تمثيل الموسيقى داخل القصيدة ليس فقط من خلال الصوت، ولكن أيضًا عبر الإيقاعات النفسية والعاطفية التي تنبثق عن النص.
1. الموسيقى الداخلية: الصوت والإيقاع في اللغة
الموسيقى في هذه القصيدة ليست مقتصرة فقط على الألحان التقليدية أو النغمات، بل تتعداها لتشمل الإيقاع الداخلي للكلمات والجمل. في المقاطع الأولى، نلاحظ استخدام الشاعرة للأصوات المتوازنة والنغمة الموسيقية التي تدور حول فكرة التوتر بين الذات والشعر:
/ أغضّ الزمانَ / وأدلِفُ لي ../
هنا، نجد أن الصوت يتحكم في تدفق الجمل بشكل يشبه اللحن المتقطع، حيث يخلق استخدام الفعل / أغض/ إيقاعًا حادًا، بينما تأتي جملة / وأدلِفُ لي / لتخفف من هذا التوتر وتدخِل نوعًا من السلاسة. هذه التناقضات الصوتية تخلق موسيقى داخلية تتناسب مع مشاعر التردد والتذبذب بين رغبة الشاعرة في الهروب والتمسك بالشعر كملاذ.
2. السيميائية الموسيقية في التكرار
التكرار هو أداة موسيقية أساسية في القصيدة، ويأتي معبرًا عن الذهول والارتباك الذي تعيشه الذات في صراعها مع نفسها ومع العالم المحيط بها. تكرار الكلمات مثل / تدورُ/ و/ تأمرُ ، تَنْهى/ يتناغم مع فكرة الدوام واللااستقرار:
/ وحَوْلِي تدورُ / تدورُ كواكبْ /
/ تأمرُ ، تَنْهى / تأمرُ تنهى /
هنا، تخلق الشاعرة إيقاعًا دائريًا يلتقط حالة من التكرار التي تكتسح ذهن الشاعرة، حيث تدور الكواكب في دوائر مغلقة غير منتهية، وتظهر الشخصية التي تتحكم بالأشياء وتنهيها ثم تعيد الأمر من جديد. هذه الحركة الدائرية تتوازي مع حالة الاضطراب التي تعيشها الشاعرة، وهو إيقاع موسيقي يكرّر ويعكس الحيرة والتشابك بين الفعل واللا فِعل.
3. الموسيقى البصرية والرمزية: / فلامنكو" و"العصافير/
يعدّ حضور الموسيقى الرمزية في القصيدة من أبرز أبعادها السيميائية. فالشاعرة تستحضر أنواعًا موسيقية ترتبط بأحاسيس محددة، مثل / فلامنكو/ و/ العصافير/ و/ النبيذ/:
وفي قدمَيْها يجِنُّ (فلامنكو)
لأنّ العصافيرَ لا تتقيّدُ بالنغماتِ
الفلامنكو هنا يرمز إلى الاندفاع العاطفي، الرغبة، والتمرّد، وهو يتناسب مع الموقف العاطفي الذي تعيشه الشاعرة، حيث تتداخل العواطف والأفكار في حركة شديدة السرعة والانفعالية. في المقابل، فإن العصافير التي /لا تتقيّدُ بالنغماتِ/ هي رمزية لفوضى الموسيقى الحرة، حيث تعكس الفكرة أن الصوت (أو الشعر) لا يمكن تقييده بالأنماط التقليدية والمحددة، بل هو ينفجر ويتحرر من قيود النغمات الثابتة.
4. التوتر بين الفوضى والتناغم: /النبيذ الأخير/ و/حكايا الرياح/
من خلال التشبيهات الموسيقية المتعلقة بالنبيذ والريح، يتم تمثيل لحظات من الفوضى والتجدد العاطفي:
/ أتورّطُ بالريحِ و الغيث / بين النبيذِ الأخيرِ وأولِ ذاكَ الكلامِ/
/ وبيتُ قصيدي حكايا الرّياحِ؟/
النبيذ الأخير هنا يشير إلى اللحظة الحاسمة أو النهائية التي تمثل نهاية دورة أو تحولًا حاسمًا في الوجود. لكن هذه النهاية تتداخل مع /الريح/ و/الغيث/، وهما العنصران اللذان يضيفان إيقاعًا متغيرًا وغير ثابت. الرياح هي موسيقى متبدلة، تجسد التقلبات في الحياة والعواطف، فهي لا تلتزم بنمط ثابت، بل تهب فجأة وتغير كل شيء. الشاعرة تعيش هذا التورط بين التراكمات العاطفية التي قد تكون كالنبيذ (شديدة التركيز والمرارة)، وبين الرياح التي تعصف بالأفكار والشعور.
5. التصعيد الموسيقي: الخمر والعشب والعشق
إن موسيقى القصيدة تتصاعد تدريجيًا لتصل إلى ذروتها عبر رموز العشق والخمر والموسيقى، حيث نرى صورًا من الاحتشاد الجمالي الذي يتداخل فيه الجسد والطبيعة والمشاعر:
/ ويَخْضَرُّ عشبٌ / ويُخْصِبُ عشقٌ وَتِيْهٌ/
/ وخمرٌ تفُكُّ الجَديلةَ/
هذه الصور تخلق تناغمًا موسيقيًا مع مشهد العشق المفعم بالحيوية والانبعاث، حيث العشب يَخضَرُّ كرمز للنمو والتجدّد، والخمر تُفكُّ الجَديلة كدلالة على التحرر والانفتاح على الذات. في هذه اللحظة، يبدو وكأن الشاعرة قد وجدت موسيقى ذاتها في حالة من الانصهار مع المحيط والوجود.
6. التهكم الموسيقي: /الحماقة/ في قعر الكأس
تستحضر الشاعرة عنصر /الحماقة/ في قعر الكأس، مما يُظهِر علاقة ساخرة مع المفاهيم المرتبطة بالموسيقى التقليدية:
/ تظّلُ الحماقةُ في قعرِ كأسي/
هنا، الحماقة تشير إلى حالة من العدم أو التشتت التي لا يمكن احتواؤها في نسق موسيقي معين. الخمر قد تساهم في التغاضي عن القيود، لكنها تكشف في الوقت نفسه عن حالة من الفوضى النفسية والعاطفية. وكأن الكأس، رغم محتواه الموسيقي، يصبح أداة لتجسيد العجز عن الوصول إلى تناغم داخلي أو خارجٍ عن النمط.
الخلاصة:
في قصيدة / أنا والقصيدة /، تنسجم الموسيقى السيميائية مع جو النص الشعري بشكل معقد. فهي لا تقتصر على الإيقاع الصوتي أو التكرار، بل تشمل الصور الرمزية التي تنبثق عن الموسيقى الطبيعية أو الثقافة الشعبية مثل /الفلامنكو/ و/العصافير/ و/النبيذ/. إن هذه الموسيقى تمثل التوتر بين الحرية والقيود، بين الانفجار العاطفي والتسامي الفكري، وبين الفوضى والوجود.
***
بقلم: كريم عبدالله – العراق
.....................
أنا والقصيدة
تراوِدُني عند ذاك القوافي
أَغُضُّ الزمانَ
وأدلِفُ لي ..
إلى لحظاتِ التهرُّبِ منّي ...
أُوَلّي بجرحيَ أجزاءَ روحِي القديمةْ ..
فتخدشُ أضواؤها راحتيّْ ..
أخالفُ في مخدعِ الشِّعْرِ كُلَّ الوصايا
فكيفَ أصافِحُها بالعيونِ
المكانُ يضيقُ ...يضيقُ
وجدرانُ ظلّيَ أكثرُ منهُ اقترابا
وأخشابُ تلكَ المقاعدِ أكثرُ منهُ شبابا
أعانقُ في لحظةٍ صوتَها الخشبيَّ و أنشقُ رائحةَ المرتجى
أتورّطُ بالريحِ و الغيث
بين النبيذِ الأخيرِ وأولِ ذاكَ الكلامِ
تظّلُ الحماقةُ في قعرِ كأسي
لأنّ العصافيرَ لا تتقيّدُ بالنغماتِ
فحين تزقزقُ فجراً بفوضايَ
كيفَ أُلَمْلِمُ تِبْرَ القوافي
وبيتُ قصيدي حكايا الرّياحِ ؟
وكيفَ أُهَدْهِدُ في رقّةٍ كتفَيْها
وفي قدمَيْها يجِنُّ (فلامنكو)
ويَخْضَرُّ عشبٌ
ويُخْصِبُ عشقٌ وَتِيْهٌ
وخمرٌ تفُكُّ الجَديلةَ
تأمرُ، تَنْهى
تأمرُ تنهى
وتُشعِلُ كُلَّ خيوطِ القصبْ
بليلِ العباءةْ
وحَوْلِي تدورُ
تدورُ كواكبْ
وتغمِزُ نجمةْ
ويسقطُ في غفلةٍ نَيْزكٌ ما بحِبْرِ دواتي
وأَنْسى أنايَ وراءَ تخومِ الحياةِ
إلى أنْ يكلَّ التجلّي
ويفتحَ جَفنِي ستارَ الأملْ
تُرَشُّ خدودي بماءِ المللْ
يَضوعُ الختامُ بمسكِ الورقْ
ويُغلِقُ وجدي أواني القلق.
***
بقلم: ريما حمزة – سوريا