قراءات نقدية
هاتف بشبوش: عبد الستار نور علي.. والجسدُ المرمرُ
الشاعر عبد الستار نور علي، يوم أمس كتب قصيدة مهداة لي أنا (هاتف بشبوش) .. بعنوان (الجسدُ المرمر). وقد جاء النص رداً جمالياً ومعجباً بنصوصي في الحب والآيروتيك ورسائل الحب .. وقد استوقفني النص ولابد لي من محاكاته ضمن القراءة البسيطة أدناه ..
نص (الجسدُ المرمر):
أتمايلُ طَرَباً
وأنا أهتفُ:
عجبي!
تتمايلُ أحرفُكَ السكرى
في وهج الشمعةِ
ليلةَ أنْ فكَّيْتَ الأزرارَ
لصدرٍ كالمرمرْ.
لم أعتدْ أنْ أفتحَ
صفحاتِ الجسدِ المرمرْ
في أوراقي
فأنا تاريخُ الورقِ الصاعدِ
مِنْ لهبِ التنورِ المسجور
في دارٍ تتداعى كالأطلالْ.
أتمايلُ طرَباً، يا هاتف!
حين تنادينا كي نقرأَ طلِّسمَ الأجساد:
جسدٌ يتسجَّى في تابوتِ الأيام.
الدولُ الرافعةُ عقيرتَها،
وسيوفَ قبيلتها
ليلَ نهار
تأكلُ....تأكلُ....
ما تعرقُهُ الأجسادْ
الوحشُ الكامنُ خلفَ عقيرتِها
جسدٌ هشٌّ بملايين ذباب.
جسدٌ آخرُ يصعدُ سُلّمَ أهدابِ الأقمارْ
ينضحُ برحيقِ الوردِ، وبالخمرِ،
وبالجُمّارْ.
أتمايلُ طرّباً
حين تفكُّ الخطَّ الغافي في أحرفِنا
خلفَ بلاغةِ تلكَ الأسوارْ،
وتعيدُ بناءَ الأسفارْ
***
(لايمتلك الجسد أبداً القوة الكافية ليجد تعبيره الخاص به ..) البير كامو..
قبل كلّ شيء أن الحب ليس وليد النقاش اليوم، وإنما وردنا على سبيل المثال من المأدبة الإفلاطونية الشهيرة (مأدبة إفلاطون) وهي وليمة بحضور سقراط وتلميذه إفلاطون. وكان الحديث عن (الأيروس) إله الحب، ومنه جاء الأيروتيك والرغبة في التطلّع للجسد وبقي وهاجاً بناره ولهيبه حتى اليوم الذي وصل للستربتيز (العرض العاري والبوح الفاضح الذي ليس له لجام).
النص أعلاه للشاعر الكبير عبد الستار - كما قلت- جاء رداً على أشعاري المختصة بالآيروتيك والحب. لكن الشاعر عبد الستار أراد من خلال النص أنْ يوضح طبيعة العلاقة الصميمية بين الرجل والمرأة في عالم بات خطيراً وبائساً، ولايمكننا أنْ نعرف الى أين يتجه هذا العالم وهو ينزّ وسط الجراح من الحروب المحلية والعالمية، وتغيير مسار العلاقات الأنسانية بينما يبقى الحب مطرزاً بنغماته وموسيقاه، وهنا نقصد الأيروتيك لا الستربتيز ولوحاته الحية في مراقص العري أو في أفلام البورنو أو في ملصقاته الفوتو وما أكثرها. عبدالستار نورعلي وموسومية نصه الذي إتخذ عنواناً ناعماً يليق بنعومة النساء والحب معاً، فذات يوم قال سعدي يوسف (لمن يزهر الجلّنار ويندفع المرمرُ) أي إندفاع فلقتي الصدر (الرمّان) الى الأمام مما يعطي جمالاً صارما فتاكا لناظريه، أو أن الجسد الإنثوي كله عبارة عن لدانة عظيمة مثيرة كما لدانة رمانة نعصرها فتنصاع الى أي شكل نريده أو أي ملمس يثير بنا لاعجة الحب ولوعة الرغبة في الحب والممارسة وإصرار الولوج والتقبيل والتمسيد عند مجيء تلك الرغبة الأعنف من بين رغباتنا كما يقول (شوبنهاور). في القصيد أعلاه وفي أوله يقول الشاعر عبدالستار (أتمايل طرباً وأنا أهتف عجبي). هنا لم يقل وأنا أصرخ بل قال (أهتفُ) لتأتي تنويهاً إعجابياً بهاتف ونصوصه في الحب ورسائل الحب. فهو هنا حين يقرأ قصائد هاتف بشبوش في الحب والآيروتيك، كمن يسمع أغنية فيطرب فيدخل في دائرة (إذا طربت النفوس غنت). عبد الستار قرأ واستمتع بجمال الحرف والحب حتى غنى، بل وتمايل فهنا يعني أنه دخل أقصى غايات الأنتشاء والإستمتاع القرائي الذي تحوّل الى الغنائي من جراء الوصف الواقعي والفنتازي لقصائد الشاعر هاتف حتى تمايل وترنّح ربما دون خمر وكحول، فهو الشاعر الذي أعرفه لايعاقر الخمر أبداً، بل ربما في أيام مضت من الشباب الثوري والنضالي. فهو قد كان في لجة الصراع قبل أن ندخل نحن . ثم ينتقل عبد الستار فيقول:
تتمايل أحرفكَ السَكرى
في وهج الشمعة
ليلة أن فكّيت الآزرار
لصدرٍ كالمرمر ..
الشمعة حكمة وتأويل كبير، الشمعة حين تحترق تترك جوفاً في بطنها وتظل تحترق، تتألم كثيراً حتى ينتهي نارها. لكنها تبقى تلك الشمعة المنتصبة، ولذلك نتصور ما مدى الألم والجمال في الحب حيث يكون ألم البطن من جراء الإحتراق الصارخ بالحب والحب والإستنارة لحبيب أحببته وظل في القلب وجوف البطن. أما فكّ الأزرار للصدر المرمر فهو قد جاء على طريقة الملك أدويسوس بعد غياب دام خمس وعشرين عاماً عن زوجته، وإذا به يفتح أزرار قميصها فيحترق ناراً وشوقاً وحباً لفلقتي رمان صدرها. ويبقى الحب محض كلمة حتى تجد الشخص الذي يمنحها المعنى. وها هو عبد الستار يضع كل المعاني ضمن حيواتنا التي ستتقدم معاً عبر زمن حزين أو ضاحك . فمرة نراه في الإنثيال على الأيروتيك العفيف البعيد عن الستربتيز فأعطاه العفة والنزاهة، ومرة ينثال على أوجاعنا التي لاتنتهي، لكننا نخلق ورودنا في دروبنا العاثرة على الدوام لآن الورد والأزاهير حياة، فهي حتى لو ماتت سوف تترك بذورها في الآرض لتحيا زهرة أخرى مثلما نحن البشر نموت ويحيا بعدنا أحفادنا وأكبادنا. ولذلك قال عبد الستار في شذرته الصارخة بالحب والألم معا:
اتمايل طرباً ياهاتف
حين تنادينا كي نقرأ طلّسم الأجساد:
جسد يتسجى في تأريخ الأيام
عبد الستار في نصه قد مزج مفاهيم الزمن في الحب الأبدي الذي يخشى الشك ويستمر بالشك ويموت من اليقين . النص الجسدي الجميل تدحرج الى حيواتنا اليومية العامة ومانراه من بؤس وتراجيدية فنراه يقول:
أتمايل طرباً
حين تفكّ الخط الغافي في أحرفنا
خلف بلاغة تلك الأسوار
وتعيد بناء الآسفار
نصّ فيه أكثر من مفصل يستحق الشرح وعلى وجه الأخص تلك التراجيدية التي يصنعها الأوغاد ونحن من يشاهد ويصمت على الدمار القاتل للحب رغم إن هذا الحب يبقى عاصياً على النيل منه مهما كانت قراراتهم .. فهو الحب الذي يريد أن يرى الرغبة التي خلقها الرب سارية المفعول في كل أزمانها ومكانها ..الحب الذي يصر على فتح أزرار قميصها كحق مكتسب منذ الأزل ومنذ إن تعلمت حواء وعرف آدم ماهو الطلّسم الذي يشفي الجسد . نص متجاوز في الحب ومعرفة الجسد وقد إتخذ رابطاً مكرراً (تتمايل طرباً) مما زاده بهاءاً على بهاء في اللحنية والموسيقية المهمة في الشعر النثري . ويبقى الجسد هو العنصر الأساس للجنسانية التي تعبّر في نهاية المطاف عن وجود الأشياء التي تبحث في بعضها عن العنصر الذي ينقصها. ويبقى النص لعبد الستار باحثاً عن الغوايات النبيلة نسبياً إنْ لم تكن مستحيلة. عبد الستار ربط الجسد مع الوجدانيات التي لايمكن لنا تحطيمها فهي عادات وسلوك وواجبات في بعض الأحيان. وأخيرا أقول من أنّ الجسد الذي وظفه عبد الستار في هذه المفاهيم الجنسانية والثورية والحياتية، هو كلمة من الممكن أن نوظفها في رسم العلمانية البعيدة عن العنصرية مثلما قال محمود درويش ودعوته للمدنية من خلال شعره في الجسد الإباحي الجميل:
سنصيرُ شعباً
حين يكتب شاعرٌ
وصفاً إباحياً ، لبطن الراقصة .
***
هاتف بشبوش / شاعر وناقد عراقي
11/10/2024