قراءات نقدية

سوران محمد: عالمية الشعر والشعر العالمي؟

منذ ان وجد الانسان علی وجه الخليقة وقد خلق معه أداة الاستشعار والتمعن والتعبير، فاللغة في سلمها  الراقية ومرتبتها العليا تتمثل في الشعر والذي عرف علی مر العصور بمفاهيم متنوعة حسب استيعاب ونظرات الناس اليه؛ من بين تلك التعاريف انه لغة الوجدان أو كلام الروح.

فقد ذكر ابن خلدون في تعريف الشعر: إنّ الشعر هو كلام مبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متّفقة في الوزن والروي، المستقل كل بيت منه بغرضه ومقصده عما قبله، الجاري على أساليب مخصوصة.

ومن بين تلك التعاريف أيضا والتي أتفق الباحثون عليها ما جاء في انسكلوبيديا الويكي بأن الشعر: هو شكل من أشكال الفن الأدبي في اللغة التي تستخدم الجمالية والصفات بالإضافة إلى أو بدلاً من معنى الموضوع الواضح.

وقد قيل عن الشعر الكثير، من بينها:

الشعر وردة الرياح، لا الريح بل المهب، لا الدورة بل المدار. (أدونيس)

الشعر لا يعبر عن عاطفة، إلّا بعد أن تسكت ثورتها ويهدأ انفعالها. (نجيب محفوظ)

الشعر موهبة ومثابرة لصقل تلك المنحة الإلهية.

الشعر صناعة لغوية.. للتعبير عن ذواتنا.

إنّ صوغ الشعر جزء من الأحلام، والشاعر لا بدّ أنّه حالم.

الأوزان والقافية مهمان للشعر، لكنهما يستعملان بحذر، فإذا جاءت القافية- الموسيقى- بشكل عفوي كان بها، وإلا فلا ضرورة برأيي أن نضحي بالمعنى أو الصورة من أجل الوزن.

الا اننا هنا بصدد موضوع مختلف تماما عن معنى الشعر وأنواعه ونظرات الناس اليه، لكن بما ان موضوعنا يعتبر شعرا لذا استهلنا البحث بتلك التعاريف.

لكن السؤال الجوهري هو: لماذا نسمي شعرا عالميا. وما الفرق بينه وبين شعر محلي؟ وهل يجوز لنا ان نسميه هكذا. بما ان الشعر بشقيه شكلا ومضمونا بحاجة الى مهارات والتفنن والبلاغة، فلو امعننا النظر في تعريف ابن خلدون السالف للشعر نقرأ بين طياته العناصر المهمة للشعر والتي تنقسم الى قسمين: الشكل والمضمون.

ان الوزن والقافية والايقاع الخارجي للكلمات تعتبر من عناصر جمالية الشعر، الا ان الصور والاستعارات والتيمة والموسيقى الداخلي يعتبر من الشق الثاني. والذي برأي سيبقى هذا الجزء تمثيلا حقيقيا لأي نص شعري عندما يترجم الى اللغات الأخرى, وسيبقى منه هذا الجزء شعرا والباقي سيضيع اثناء الترجمة الی اللغة الثانية لأن كل لغة لها تركيبتها ومصطلحاتها الخاصة بها، حينها نستطيع الحكم علی النص بأنه شعر عالمي وقد اجتاز كل عوائق الزمكان ويتفاعل معه الانسان أينما كان علی وجه الأرض، لأن الجانب الشكلي سيفقد شعريته أثناء الترجمة وخاصة إذا لم يترجم شعرا في اللغة الثانية وتعتبر هذه الوظيفة صعبة للغاية خاصة إذا لم يكن المترجم شاعرا.

لكن الإيقاع الداخلي للمعنى سيبقى خالدا في أي لغة كانت، والتيمة  أوالصور الشعرية المتجددة لها دور فعال في تحريك غريزة القراءة عند المتلقي، وخاصة في هذا الزمن المتطور تكنلوجيا بحيث علی سبيل المثال لو فتحت صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك ستقرأ كل محتويات الصفحات بلغتك وبمجرد تفعيل زر الترجمة وأحيانا سيقوم الموقع تلقائيا بترجمته الى لغتك، حتى ولو لم تكن هذه الترجمة دقيقة الا انها ستعطيك الإطار العام والفكرة الرئيسية من النص.

هل سألنا أنفسنا لماذا يعتبر نصوص بعض الشعراء عالميا ويشتهرون بنصوصهم الشعرية شرقا وغربا في حين لا نفهم كلمة واحدة من لغتهم الاصل، علی سبيل المثال اذا يوقفنا ويٶثر علينا نصا ما لأوكتافيو پاث  فهذا سببه انه  شعر جيد، مع العلم انه کتب معظم نصوصه بالاسبانية الا ان شعرية النص جعله عالميا حتی بعد الانتقال الی لغة اخرى غير لغة الام، أو فرنسية لرامبو وبودلير وأراغون أو الانجليزية لـ ت.س.الليوت أو الصينية لـ: لي باي... لكننا في نفس الوقت حينما نقرأ نصوصهم ستحركنا من الاعماق وتهز كياننا وكأنهم كتبوها لنا، هنا يلتقي الشعور الانساني والهموم البشري، لأن الحالات البشرية متكررة ومتشابهة والروح هي الشعلة الوضاءة والمحرك الحقيقي في وجودنا والشعر بدوره هو هذه اللغة المبطنة داخل اللغة العامة والكلام اليومي وسنلتقي الجميع في المضامين وما ادراك وسع المضمون في كل نص شعري، خاصة اذا يتقنه الشاعر ويغوص في أعماق الميتافيزيك اللامتناهي أو يوجه رسالة نصه الی البشرية ولا يخصه بموقع جغرافي أو زمان معين، بعكس نصوص المناسبات والاهداءات والاحداث العابرة أو المواضيع الذاتية البحتة، خاصة اذا  لم يقوم الشاعر بتحويل همومه الشخصية الی هموم مشتركة أي جعل ذاتيته موضوعيا.

فعلی سبيل المثال يكتب الشاعر سعد جاسم في 'الوفاء الجميل وانت تتذكر الشاعر الراحل كمال سبتي' في

-المنفيون-

منفيونَ نحنُ

يؤرّقُنا سؤالُ الغيبِ

والتأويلِ والرؤيا

-هلِ المنفى هوَ الزمانْ؟

-أمْ المنفى هو اللامكانْ؟

-هلِ المنفى خلاصٌ؟

أمْ قصاصٌ؟

أمْ رهانْ؟

على حصانٍ غامضٍ

يمضي الى المجهولِ

لكنْ ... نتبعُهْ؟ .... الخ

نرى في هذا المقطع بأن حالة كمال السبتي المكتوب له القصيدة هي التقاء كل روح مشردة في عياتيه المنافي، ربما يكون أنا وأنت أو الذي لم يولد بعد وسيمر بتلك المحن والتجارب المريرة من هول واضطهاد ومنفى ومرارة وشظف الحياة، ومع ذلك فقد نجح الشاعر الموهوب في ادخال إشارات فلسفية وانطولوجية ليستهل به نصه ويترك القارئ بين حيرة المعنى وهول المشاهد، واذا حذفنا منه اسم المهداة اليه النص سيبقى نصا مفتوحا بامتياز ويجتاز الحدود دون عناء القراء للبحث عن بروفايل المهداة اليه.

وهكذا في جدارية خالد الأمين- قصيدة للشاعر المغربي المرموق عبد الحق الميفراني والذي أهداه الى الشهيد خالد الأمين، الغائب الحاضر الى الحاضر خالد عبد الجبار، يمكننا ان نسميه شعرا مفتوحا بعيدا عن مفردات وهوية شخصية بعينها بحيث سيشارك المتلقي في العمل داخل النص بإعطائها منحنيات اخرى غير الذي يختبئ في داخل كينونة الشاعر ومراميه، وهذه دائما هي ميزة النصوص الغنية حيث يكتب الميفراني في نصه:

يا آخر الهلع

لمستك

ومازالت يدي تدعن

لصحراء المسافات

عبثا

توغل جسدك في أنفاس

منفى

سيجته بهاء فراغاتك الباردة..

عبثا

تطرق دقات الكينونة

دالية

دمع الشهداء

كما يستهل الشاعر هذا النص علی نفس وتيرة القشعريرة الداخلية وكأن كل (شهيد الكلمة) هو الشاعر نفسه أينما وجدوا، ولقد استطاع بنجاح ان يجعل الذات موضوعا ويعطي بنية واسعة ومتينة لهذا المعنى الخالد والذي يتكرر علی مر العصور سواء كان حلاجا أو خالدا أو مارتن لوثر أو لوركا أو بكر علي أو غيرهم...

ممسكا بالضيق

يفرش لمرفأ العالم

كينونة عصية على اليأس

ثمة

عين تشعر بالحقيقة

لدا تنتظر اللغة آخر سقوط

للنهار..... الخ

 وعلى نفس المنوال لو ألقينا النظرة علی بعض النصوص العالمية للشعراء الأجانب نتلمس تلك النفحة والنفس الكوني للمعنى الشعري والمضامين المبتكرة من خلال متن نص يجتاز كل الحدود العرقية ويدخل أبواب والوجدان والعقول دون استئذان، وهذا هو سحر الشعر الذي يغذي الروح وتنجذب اليه دون الكلام والإعلان.

يقول تي سي ألليوت في مقتطف من القصيدة، من مجموعته الشهيرة (زمن التوتّر)

وتُخلق العينُ العمياء

اشكالا فارغة بين الابواب العاجية

وتسترجع المالح للارض الرملية

هذا هو مكان الوحدة

حيث تعبر الاحلام بين الصخور الزرق

هذا هو زمن التوتر

 بين الموت والولادة.

كلمات رنانة موسيقية معبرة عن مضامين متفاوتة بين الانطولوجيا، والسيكولوجيا والذات المحصورة بين التيه والخلود والفناء، حيث يدخل المتلقي ويعطي ويوظف الرموز والمصطلحات حسب فهمه واستنباطاته، ومن ثم التقاء الصور وتجميعها في لوحة مكتملة لمعرفة رسالة النص ودور المتلقي فيها، بين فلسفة وجودية وسهل ممتنع معرفي.. مع كل هذا وذاك يرجع اليه القارئ في أوقات متفاوتة ودون الاشباع منه، بل أكثر من ذلك يمكن ان يعطيه دلالات مختلفة مع كل قراءة، كمتن بحاجة الى حواشي عدة لاكتماله وحسب حالات المتلقي المغايرة, وبغض النظر عن توظيفات الشاعر للرموز والدوال في نصه.

فلنأتي بمثال آخر من فرنسا وهو ليس الا (لويس أراغون) حيث يكتب في - شظايا -عن ذاته لكن في صيغة أقرب الى حالات كثير من قراء العصر، الضمير المستخدم في النص هو الشاعر نفسه لكن الكاتب هو أنا وأنت وكل من يصارع الجهل ويجاهد حثيثا للوصول الى بر الأمان، مع إيجاد إيقاعات كلمات كل من (سكين من القتام، هرة في مخيلة، اناء زهر ذابل، ثقب في قلب) تدوي صداها في الأعماق دون الخروج من هذه المعضلة والنزف المفرط، وليس منا من هو دون ثقب أو ثقوب في قلبه، لكن كل له أجواءه وتضاريسه الخاصة به حسب مستوى ادراك الشخص وهمومه وانفعالاته الحياتية مع خلفيته المعرفية والأدبية بالتأكيد:

أتجول

وسكين من القتام مغروزة في نفسي

أتجول

وهرةٌ في مخيلتي

أتجول

ومعي إناء زهر ذابل

وصور مصغّرة

أتجول

بأطمار بالية

أتجول

وثقب كبير في قلبي

وأخيرا فلنأتي بأسطر شاعرنا المغربي عبد الحق الميفراني في نصه القصير (ديداكتيك جمالي):

مر كثير من الألم الأسود من هنا

قرب شرفة تصنع جل بورتريهات رائحة البحر

مرت كثير من المعاني حتى الجميلات منها

تبخرن في المحيط المطل على صدري الأسود..

‏ جاء في العنوان مصطلح (ديداكتيك) وهي طريقة تدريس تتبع نهج علمي أو نمط تعليمي يشارك فهم الطالب وعقله غالبا ما يتناقض مع أسلوب الديالكتيك والأسلوب السقراطي. كلمة ديداكتيك تعني تعليم أو ما نتج عن التعلم وبكم أخرى علم التدريس. الديداكتيك بمفهومها الضيق هي نظرية التعليم أو التدريس. وبمعنى أوسع هي نظرية وتطبيق عملي للتعليم والتعلم. ويقبله أسلوب ماثيتي أو علم التعلم. قد يتناقض هذه النظرية مع مفهوم 'التعلم المفتوح' والتي تتعلق بالتعلم الذاتي حول موضوعات ذات اهتمام وبطريقة غير منظمة. 

لكن الشاعر هنا أضاف الى هذا المصطلح كلمة (جمالي) أو الاستيطيقا وأصبح مركبا ذو بعد شعري مجازي أعمق، بحيث يرسم الشاعر الموهوب من خلال هذه البورتريتية الجمالية (كي تعلمنا) دلالات الجمالية والعمق الشعري بالبدء من الذات المهمومة ومرورا من خلال الشرفة المطلة علی البحر ثم الالتفاتة الى أغوار المضمون (صدر) والمعان وشيء من علم الكلام وينتهي بالمحيط ومن ثم الرجوع الى الذات المكلومة، أي ان هنالك أوجه التشابه علی هذه الوتيرة:

 (ألم أسود <-----> صدر أسود)

(رائحة البحر <-----> محيط مطل علی صدر)

مع ان دنيا جمال الطبيعة خلابة وهي لا تفهم الا لغة الاشراقة والابتسامة، لكنها هنا تمتزج بمشاعر وتجارب شاعر مكترث بالبلاغة حيث يصنع منها صورة مجازية وفكرية في آن معا بالرجوع الى الذات حيث يبدئ التغيير من هناك ويوظف صفات بشرية علی الطبيعة من خلال رٶاه الشعرية وتخيلاته، هنا يظهر للعيان معاناة الانسان في هذا العالم المليء بالفوضى والقهر والاضطهاد حيث يذوب كل الوجود داخل الأعماق وهذه الانطباعية الوجودية السوداوية تسيطر علی الذات وفي النهاية ستعطي معان جديدة أخرى للجمال وعلم الجمال الشعري.

***

سوران محمد

...................

المصادر

١- مجلة الكلمة العدد ٣٧ لشهر مايو ٢٠١٠

2- T.S. Elliot, The Complete poems and plays, 1909-1962 Faber and faber Publisher.

3- Ruth Padel, 52 Ways of Looking at a Poem.

4- Wikipediaقواميس وتعاريف

 

في المثقف اليوم