قراءات نقدية

نبيه القاسم: مهما تعقدّت المشكلة وتأزّمت تظلُّ لدنيا، كما تقول الكاتبة صباح بشير:

فرصة ثانية

منذ تبلور الكونُ وتطوّرت الحياة وتكوّنت الأسرة وبدأ المجتمع الإنساني كان الثنائي الرّجلُ والمرأة أساسَ الكَوْن وروحَ التطوّر وأساسَ الأسرة والمجتمع، وتعاونُهما في كلّ مَجالات الحياة سَببُ النّجاح والفرح والسّعادة. وأيّ خلل في العلاقة بينهما قد يكون المُسَبّبَ في زيادة الشَّرْخ والجَفاء والبُعد وحتى القَطيعة ممّا يُدمّر الحياة المُشتركة ويجعلها مُستحيلة.

ولأنّ ما يُقاربُ ما بين الستين والثمانين بالمائة من الرجال والنساء تنحصر اهتماماتُهم في معظمها بالهموم الأُسَريّة والمُجتمعيّة والمالية والحياتية المَعيشة بعيدا عن الهموم والمَشاغل الكبيرة التي تتعلّق بالوطن والشعب والحريّة والديمقراطية والعالم الواسع فإنّه من الطبيعي أنْ تكون الحياة المعيشة الطبيعيّة لأغلب الناس تدور في نطاق البيت والأسرة والعائلة والأقارب والجيران والحارة والحيّ والبلدة ممّا يجعل التّواصل والاهتمام مُتبادَلا على مختلف وجوهه المُتَبدَّلة والمُتغيَّرَة والخاضعة لمختلف العوامل الفاعلة والمُؤثرة في المُحيط القريب.

كانت مثلُ هذه الهموم العاديّة للناس العاديين لا تُثير اهتمامَ المُبدعين من شعراء وكُتّاب، ويوجّهون اهتمامَهم إلى أبناء الطبقات العليا والحُكّام والملوك، وكما كان هذا صحيحا في تُراثنا وأدبنا هكذا أيضا في تُراث وأدب الشعوب الأخرى.

وفقط في القرن التاسع عشر بدأت الاهتمامات بالناس العاديّين وحياتهم، وإنْ كانت بالكاد تُذكَر.

كانت التحوّلاتُ في القرن العشرين حيث بدأت الهموم الذاتية تختلط بالعامّة والصغيرة بالكبيرة، لكنّ القاعدة الأساسية ظلّت على ما هي، ومعظمُ الناس العاديين يُؤْثرون الانكفاءَ على ذواتهم وهمومهم مُتجنّبين الانخراط في القضايا الكبرى، حتى في مناسبات قومية حياتيّة مَصيريّة مثل الانتخابات نجد أنَّ نسبة التصويت في الدول الديمقراطية أو القريبة منها لا تتجاوز الأربعين بالمائة لأنّ معظم الناس يهتمون بقضاياهم وهمومهم اليومية على الغالب.

وإذا كان الكثيرون من الروائيين والقَصَصيّين مزجوا الهمومَ الذاتيّة للأفراد والأسرة مع الهموم العامّة للوطن والشعب وحتى العالم لأنّه يصعبُ على الفرد في هذه السنوات الخمسين الأخيرة أنْ ينفصلَ عن محيطه ووطنه وعالمه، فإنَّ البعض يُركزون الاهتمام في هموم الفرد والأسْرة بعيدا عن كلّ الهموم الأخرى لأنّهم يرون في خوض غمار بعض القضايا والمواقف ما يُعرِّضهم للمُساءلة والمُلاحقة وحتى العقاب، والبعض يؤمن أنّ الاهتمام يجب أن يتّجهَ لبناء الفرد السليم والأسرة السليمة والعائلة المُتَحابّة المُتعاونة لأنّ في هذا يكون أساسُ النجاح ومَبْعث الفرح والسّعادة والتعلّق بالحياة للانطلاق بعيدا.

وهكذا نحن مع الكاتبة صباح بشير في روايتها الثانية "فرصة ثانية" (إصدار الشامل للنشر والتوزيع ونادي حيفا الثقافي 2024) قد آثرت السّلامةَ، واعطت اهتمامَها كلَّه للهموم الذاتية التي قد يُهملها الكثيرون لأنّها ترى في وحدة الأسْرة وتكاملها أساسَ المجتمع وركيزته ونجاحَه.

وكانت الكاتبة في روايتها الأولى "رحلة إلى ذات امرأة" قد عزلت شخصيات روايتها بعيدا عن الزمان والمكان في واقع افتراضيّ لمدينة افتراضيّة جعلتها قد تكون في كل مكان نُفكّر فيه، وفي كل زمن نختار. أمّا في روايتها هذه "فرصة ثانية" فقد حرّرت المكان وكشفته لنا لتَظهرَ مدينةُ حيفا الجميلة، ما بين البحر المتوسط وجبل الكرمل، المُتسلقة للكثير من تلاله، الحاضنةَ المثاليّة لأسْرة "فرصة ثانية" وللكاتبة التي وجدَت في حيفا راحةَ البال ومَبْعثَ الفكر وتدفّقَ الإبداع. فحيفا كانت المظلةَ الدافئة التي تتحرك فيها شخصيات الرواية وتُكسبُها مَلامحَها وتميّزها، ومثلها كان شاطئُ مدينة يافا الذي وجد فيه مصطفى وسناء المكان الآمن الهادئ البعيد عن عيون الرقباء.

أمّا الزّمَن فترَكَتْه لحاله كما نقول، لأنّ المَساسَ به قد يوقظه فلا يُبقي على شيء، مخلوقا حيّا كان أو جمادا بما يأتي به من أحداث ومفاجآت..

تطوّر الرؤية:

إضافة إلى تحديد مكان أحداث الرواية وسَكن الشخصيات "مدينة حيفا" ممّا جعل القارئ يزيد من تَقَبّله للرواية والتّعايش مع شخصيّاتها، فإن الكاتبة جدّدت في رُؤيتها لمَكانة المرأة ودورها وتأثيرها في المجتمع عمّا كانت قد دعَتْ إليه في روايتها الأولى "رحلة إلى ذات امرأة" التي وصفها الروائي محمود شقير بأنّها " رواية تفضح بؤسَ المجتمع الذكوريّ الّذي يُعيق تطوّرَنا الاجتماعيّ".

تقول الكاتبة صباح بشير في حوارها مع الكاتبة ميّادة مهنا سليمان لموقع "ديوان العرب" يوم 8.9.2024 بصراحة: "في روايتي "رحلة إلى ذات امرأة"، تناولتُ مجموعة من القضايا الاجتماعيّة والنّفسية الهامّة الّتي تواجه المرأة العربيّة بشكل خاصّ، من أبرز هذه القضايا: قضية الهويّة، حيث تسعى البطلة إلى العثور على هويّتها الحقيقيّة، في خضمّ مجتمع يحاول فرض قوالب جاهزة عليها، فتواجه صراعا بين التّقاليد الاجتماعيّة، والرّغبة في التّعبير عن ذاتها، تبحث عن حرّيّتها الشّخصيّة والقدرة على اتّخاذ قراراتها بنفسها، بعيدا عن القيود المفروضة عليها من قبل المجتمع والعائلة".

كما "وتُسلّط الرّواية الضّوء على "قضيّة العُنف" الّذي تتعرّض له المرأة، سواء كان جسَديّا أو نفسيّا، وكيف يؤثّر ذلك على حياتها ونفسيّتها، وتدعو إلى ضرورة التّغيير الاجتماعيّ والتّحرّر من القيود التقليديّة الّتي تُعيق تقدّم المرأة وتحقيقها لذاتها.

وقد ختمتُ رواية "رحلة إلى ذات امرأة" بهذه العبارة القويّة: "أغلقتُ أبواب قلبي بإحْكام وفتحتُ أبواب العقل على مصراعيها"؛ للتأكّيد على التّحوّل الجذريّ الّذي طرأ على شخصيّة البطلة في نهاية رحلتها، هذا التّغيير يعكس التّحرّر من قيود العواطف، إذ تشير عبارة "أغلقتُ أبواب قلبي بإحكام" إلى قرار البطلة بعدم السّماح للعواطف بالتّحكّم في حياتها وقراراتها بعد الآن، فقد تعلّمتْ من تجاربها السّابقة أنّ الاعتمادَ المُفرط على العواطف قد يؤدّي إلى الألم وخيبة الأمل.

أمّا عبارة "فتحت أبوابَ العقل على مصراعيها"؛ فتعبّركما تقول "عن توجّه البطلة الجديد نحو التّفكير العقلانيّ والمنطقيّ في التّعامل مع الأمور، فهي تسعى إلى بناء حياتها على أسس متينة من الوعيّ والفهم، بعيدا عن العشوائيّة.

وهي ترمز إلى وصول البطلة إلى مرحلة من النّضج والاستقلاليّة، فهي لم تعُد تلك المرأة الضعيفة الّتي تتأثّر بسهولة بآراء الآخرين، أو تتبع قلبَها بشكل أعمى، لقد أصبحت بعد التّجارب الّتي مرّت بها امرأة قويّة واثقة من نفسها، قادرة على اتّخاذ قراراتها بنفسها وتحمّل مسؤوليّتها.

وتُتابع الكاتبة كلامها قائلة: "بينما في روايتي الثّانية "فرصة ثانية"، أظهرتُ من خلال شخصيّة الطّبيب "إبراهيم" أنّ تلك الجملة: "أغلقتُ أبواب قلبي بإحكام وفتحتُ أبواب العقل على مصراعيها"، لا تدعو إلى إلغاء العواطف أو إنكار دورها في حياة الإنسان، وإنّما تؤكّد على أهميّة التّوازن بين العقل والقلب بحيث لا يتحكّم أحدُهما في الآخر بشكل مُطلَق..

هذه الكلمات تعكس رُؤية أكثر توازنا في رواية "فرصة ثانية"، حول العلاقة بين العقل والقلب، فهي لا تدعو إلى قمع العواطف، بل إلى إدارتها بشكل واعٍ ومسؤول."

فرصة ثانية

رواية "فرصة ثانية" تعرض أمامنا ثلاثَ قصص لثلاثة أزواج من أبناء الطبقة الوسطى في المجتمع تعرّضت حياتهم لخطر الانفصال والقطيعة بسبب خلافات زوجيّة عاديّة.

1.أسرة عبد الله ولبنى.

2.أسرة الدكتور إبراهيم ونهاية. وقد نُضيف إليها فترة حياة إبراهيم وزوجتيه السابقتين.

3.أسرة مصطفى وهدى. وقبلها فترة حياة مصطفى مع فاتن شقيقة هدى. وبعد موت فاتن علاقته مع سكرتيرته سناء.

ويمكن أن نضيف إلى هذه الأسر أيضا أسرة والدَي فاتن وهدى وأسرة أهل مصطفى المُكوّنة من والدته فقط لأنّ والده كان قد مات، الأسرتين اللتين تُقدّمان نموذجا ممتازا للعائلات التقليدية التي رغم أنّها انفتحت على الحياة واهتمت بدراسة أبنائها وتأمين فرص العمل لهم إلّا أنّها تُحاذر انتقادات الناس وكلامَهم، وتتمسّك ببعض المفاهيم الاجتماعية خاصّة المتعلّقة بالحفاظ على أفراد العائلة والتّضحية في سبيل الغير مثل زواج هدى من مصطفى لتعتني بابنه الرضيع يحيى ابن شقيقتها فاتن التي فارقت الحياة وهي تَلدُه في المستشفى.

وبتتبعنا لتفاصيل حياة كلّ أسرة من هذه الثلاث لم نجدها تختلف كثيرا عمّا تُواجهه غيرُها من الأسر التي نعرفُها، ولم يكن حظُّ الرجال أفضلَ من حظّ النساء.

فطبيب الأسنان إبراهيم رغم مركزه الاجتماعي ونجاحه في عمله، ووضعه الماديّ ومَحبّة مَرضاه له تزوّج مرتين وطلّق مرتين وتعرّض لعمليّة ابتزاز وتشهير من إحدى مرضاه حتى اتّخذ قرارَه الصّعب بعَدم التفكير بالزواج مرّة أخرى والبقاء حرّا يعيش حياة الشباب والرّفاهية والعزوبيّة وحده لا أحد يُعَكّر حياته.

وعبد الله نجح في دراسته وفي عمله، وتزوّج من فتاة أمِلَ معها السّعادة والحياة الرّغدة فأحبّها جدا، وأكرمها وحقّق لها كلّ ما طلبته، ولكنّه قوبل من قبلها بكل النُّكران والاستخفاف والتّعالي والرّفض والإهمال فتحمّل كلّ العذابات اليومية والإذلال حتى وصل إلى حَدّ اتّخاذ القرار الصّعب بالطلاق.

أمّا مصطفى الأكثر تقليديّا ومُقرّبا من والديه، وخاصّة من والدته بعد موت والده فقد حظي بحياة سعيدة واعتناء الوالدَين وانهاء دراسته والعمل الناجح في معرض للسيارات. وتميّز بالوسامة ومحبّة واحترام الجميع له لتعامله اللطيف مع كلّ مَنْ كان على مَقربة منه، فقد اختار الفتاة الجميلة التي أحبّ، ولكنها سرعان ما تركته وفارقت الحياة في ساعة فرحه وهي تلدُ وحيدَهما "يحيى" الذي انتظره بكلّ الشوق وملأ له حياته بعدها. ورغم حزنه الصّادق عليها أقام علاقات عاطفية وجنسية مع سكرتيرته سناء التي أوهمها، من حيث لا يشعر، بحبّه لها ورغبته في الزواج منها، ولكنه قَبِلَ بنصيحة أمّه وفضّل عليها هدى شقيقة زوجته لتكون الرّاعية لابنه رغم عدم الاقتناع بها كزوجة ورفيقة درب في الحياة، فأهملها وتعامل معها بعد الساعات الأولى من زواجهما كأخته الصغيرة فلم يقرُبها، وتركها تنام وحيدة تُعاني عذابَها ووحدتَها وضياعَها.

وكما إبراهيم كانت "نهايه" جارتُه الشابّة الأنيقة الجميلة المُثقفة مُحبّة الموسيقى والفرَح والحياة نموذجا للفتاة المتحرّرة التي تعيش وحيدة بعيدة عن ذويها التي استرعَت انتباهَه من أوّل مرّة صادفها في المِصْعَد وهو في توجّهه لداره في الطابق الثالث بينما هي تسكن في الطابق الثاني. هذه اللقاءات الصّدفة العابرة سرعان ما تحوّلت لتكون المهمّة، فزادت اللقاءات والجلسات، وتعدَّتها إلى الاعجاب واستنفار العواطف، ولقاءات الحبّ حتى كان وفاجأت إبراهيم عندما عرضت عليه الزواج فاعتذر مُؤكّدا على إيثاره الحياة التي يحياها معها على أنْ يخوض تجربة الزواج الفاشلة التي أقسم أنه لن يُعاودَها مرّة أخرى. وكان قرارُ نهايه حازما بقَطع العلاقة معه.

ومثل نهاية فعلت سناء سكرتيرة مصطفى التي اعتقدت أنّ موت فاتن زوجته فرصتُها للإيقاع به والزواج منه بعد أنْ فشلت في زواج سابق لها مُستغلّة طيبة قلب مصطفى وتعامله اللطيف معها، وكذلك جمالها وقُدرتها على اثارة مشاعره وهزّ كيانه وإيقاعه في حبّها والتعلّق بها، وبالفعل نجحت، وعاشا حياة عشق وحبّ، وفكّرا بالزواج لولا تدخُّل والدته وتوجيه انتباهه نحو هدى شقيقة زوجته فاتن بأنّها الزوجة الأفضل وأنّها الجميلة الرقيقة المُحبّة الرّاعية المُخلصة لابنه الصغير يحيى، وصِغَر سنّها وفَرْق السنين بينهما لصالحه بأنْ تكون زوجته تصغره بسنوات يعيش معها أحلى السنين ويجعل منها الزوجة التي يريد. عندها قرّرت سناء الابتعاد عنه ونسيانه.

وهدى أيضا وقعت تحت تأثير أمها التي ألحت عليها بالقبول بمصطفى زوجا لأنه الشاب الممتاز والملائم لها، وهو والد يحيي ابن شقيقتها الذي تعتني به وتُكرّس له كلّ ساعات يومها، ورغم رفض هدى الأوّل وحجّتها بأنّه يكبرُها بسنوات وهي تريد متابعة دراستها العليا إلّا أنّ ملاحقة أمّها لها ومساعدة الوالد أيضا في إقناعها أدّت إلى خضوعها وقبولها الزواج من مصطفى.

وتمّ زواج مصطفى من هدى زواجا تقليديا لم يقتنع به أيٌّ منهما، وسرعان ما اكتشفت هدى خطأها بعد اهماله لها وتعامله معها كأخته الصغرى، لا عواطف تدفعه نحوها ولا حتى التفكير بها، فقررت التمرّدَ على قيوده والتحقت بالدّراسة الجامعية وكوّنت لها الأصدقاء والصديقات ممّا أثار غيرتَه عندما سمعها تتحدّث بالهاتف مع زميل لها وتتّفق معه على موعد للقاء، فثارت شكوكُه وغضب وتابع وراقب وتأكّد، وهدى بالمقابل ثارت وغضبت وشعرت بالإهانة والتّخوين والنُّكران، فأعلنت تمرّدَها ورغبتَها في تَرْكه والعودة إلى بيت والديها متنازلة حتى عن الصغير الذي رعته وأحبته "يحيى" ابن شقيقتها فاتن.

وكان حظّ لبنى الأفضل بزواجها من عبد الله الذي أحبّها وحقّق لها كلّ ما أملت وحلمت به وأرادته، بينما هي لم تبادله أيّة مشاعر، بل وجدت فيه المُخلّصَ والمُخرِجَ لها من نير قيود والديها ومُراقبتهما والحياة البائسة الجافّة. لكنها بزواجها من عبد الله وفوزها بما أمِلَت فيه عاشت الخوف الكبير من أنْ تفقد كلّ ما تملك، فخافت على زوجها الوسيم أنْ تغويه فتاة ما ويتركها، أو أن تتغيّر مشاعرُه تجاهها وتصرّفاتُه معها فيحوّل حياتها إلى جحيم، فقرّرت أنْ تُحيطه بقيود صارمة، وتُشعره أنّه لا شيء بدونها فهي حرّة مُطلقة، وهي المُقرّرةٌ كلّ شيء في البيت حتى ماذا يلبس وماذا يأكل وماذا يسمع، ولم تُعفه من انتقاداتها المُتتابعة، حتى وجد عبد الله نفسَه في لحظة انكسار وصدمة وذهول على مفترق طرق حادّ وعليه اتّخاذ القرار إمّا أنْ يكسب حياته ويخرج من جحيم زوجته لبنى بطلاقها أو أنْ يرضى باستمرار الذلّ والهوان.

هذه المشاكل البيتية بين الأزواج قد تبدو عاديّة ومُثيرة للسّخرية والضحك، ولا تستحق كل هذا الجهد وكتابة رواية وتعرّض الأقلام النّقديّة لها، فمَنْ من كلّ المتزوجين لم تُصادفه بعضُ هذه المشاكل، ووجدَ الحلولَ لها وتغلّب عليها واستمرّ في حياته لنهاية العُمر؟ صحيح، ولكن كلّ مشكلة من هذه، مهما بدَت تافهة ومُضحكة في عين بعضنا، إلّا أنّها بالنسبة للذي أو التي يُعاني أو تُعاني منها هي مشكلة المشاكل والمُقرّرة الحاسمة في مصير الحياة الزوجية ومستقبل الأسرة.

من هنا كانت أهميّةُ هذه الرواية التي عرضت أمامنا نماذجَ من مشاكل وهموم يمرّ بها الأزواج وتكون سببا لتدمير الأسرة وتشتيتها.

أنهت الكاتبة الرواية بإنْهاء كلّ الخلافات على الوَجْه الأفضل. فكلُّ واحد عاد إلى وليفه، وتابعا الحياة معا بفرح وأمَل واقتناع، وإنْ كان بعضُ القلق والتّخوّف لا يزال يُرفرف حول كلّ منهم.

انتهت كلّ الخلافات بالتّفاهم والتنازل والتّراضي والرّغبة في استمرارية العيش المشترك باحترام متبادل ووضع الأهداف المشتركة لكل أسرة تسعى لتحقيقها.

ويقيني أن الكاتبة أرادت أنْ تؤكّد أنّه لا توجد مشكلة بدون حلّ؟ ولا يوجد خطأ يتحمّله واحد فقط من الشريكين. وأنّ الحياة مهما كانت صعبة وقاسية علينا أنْ نعرف كيف نُواجهها ونتعايش معها ونسعد بوجودنا معا فيها.

شخصيّات عادية

قيمة الرواية كما أعتقد أنّ الكاتبة نجحت في كشف شريحة واسعة من الطبقة الوسطى الميسورة والمتعلّمة التي عزلت نفسَها وحصرت اهتماماتها بنفسها وحاجيّاتها مستغلّة نجاحها المادي والمعيشيّ، شخصيّات سطحيّة هشّة لا انتماء فكري لديها ولا اهتمامات على المستويين المحلي والعالمي، مغمورة بذاتها وتُشغل تفكيرَها في قضاياها البيتيّة الصغيرة، بعيدة عن الثقافة العامّة والهموم التي تهمّ إنسان العصر التي تفرضها عليها مكانتُها الاجتماعية والمراكز التي تُشغلها مثل الدكتور إبراهيم وعبد الله وهدى الفتاة الطموحة والطالبة الجامعيّة، وانحصرت في كونها فقط شخصيّات تنتمي لمجتمعها بعاداته وتقاليده، وتحترم كلام الأكبر سنّا من أفراد الأسرة حتى ولو لم تقتنع بها كما كانت حالة لبنى مع والديها، وتعمل بالنّصيحة المُقدّمة لها كما فعل مصطفى ومثله هدى بقبول نصائح الوالدة بخصوص الزواج، ولكننا بالمقابل نجد أيضا المرأة السيِّئة التي حاولت التشهير بإبراهيم، والمرأة الباحثة عن سعادتها التي تعثّرت مثل سناء التي سَعَت وعملت لجذب مصطفى وإيقاعه في حبّها بانتهاز موت زوجته لاستمالته والزواج منه. ونجد ظاهرة جديدة دخلت على مجتمعنا العربي ولم يتقبّلها بعد بما فيه الكفاية، أنْ تعيش فتاة بمفردها بعيدا عن أسرتها وتُقيم علاقات مع شباب دون الاهتمام لكلام الناس وانتقاد العائلة كحالة نهاية وإبراهيم ممّا يدل على تنوّع المجتمع والتطوّر الذي وصله أفرادُه بحيث لكل واحد خصوصيّاته وحريّته، بينما غيره في أحياء أخرى يلتزم بالعادات والتقاليد، ويهتم لانتقادات الناس وتعليقاتهم ويخضع لسطوة الوالدين. كما هي الحال مع لبنى، ويعمل بنصائحهما كما هدى ومصطفى.

لكن الغريب الذي ينتبه إليه القارئ بدون شك، أنّه رغم الخلافات التي وصلت إلى حدّ الانفصال والطلاق بين أفراد الأسر الثلاث، ورغم علاقة الصداقة القويّة التي ربطت بين مصطفى وشقيقه عبد الله والدكتور إبراهيم، وبين لبنى وهدى، ورغم سُكنى مصطفى وهدى وعبد الله ولبنى ووالدتهما في الدار نفسها، كلّ في طابق، لم يبح أحد للآخر بمشاكله التي كادت تدمّر حياته، حتى أنّ هدى أخفت عن أمّها كل ما جرى لها مع مصطفى، وأنّها تعيش معه عذراء لا يقرُبها ويُعاملها كأخته الصغيرة.

وكانت المفاجأة للجميع بعد أن انكشفت كلّ هذه الحقائق. وفي هذا ما يُثير الغرابة والتّساؤل، ويدلّ على الحالة التي وصلها الإنسان في عصرنا بأنّه أصبح ينطوي على نفسه وهمومه ومشاكله، يهتم أنْ يَظهرَ أمام الغير بقناع مُزيّف يخدعه حتى ولو كان أقرب الناس إليه كوالدين وأشقاء وأصدقاء، على أن يكشف لهم حقيقةَ واقعه فيدفعهم ذلك للتدخّل ومتابعة أخباره والانشغال بمشاكله ممّا يُربكه ويضعه في حالة غير مريحة.

البساطة والعَفَويّة والأُلفة التي تغمرُ الروايةُ قارئها بها وهو يُتابعها تنبعُ أيضا من جماليّة اللغة وسلاستها وتغلغلها في لغة القارئ الذي يشعر وكأنّه يعيشها أو مَشاهد مُسلسل جميل يُتابعه ويشدّه مع كلّ قصّة من قصصه. كما أنّ الخلاصة التي قد يستخلصها القارئ بعد قراءته للرواية وتكون المنبهة له دائما: أنّ الحياة الزّوجيّة مهما حاول الزّوجان ستظلّ مُعرّضة للخلافات والاهتزازات والمشاكل التي قد تدفع نحو النّفور والتّباعد والانفصال والتباعد وحتى الطلاق، ولكنّها في النهاية قابلة للحلول بعد أنْ تهدأ العقول وترتاح القلوب ويستعيد الواحد مشاهدَ أيامه الحلوة مع زوجته وأولاده، ويُدرك أنّ الحياة المُشتركة تستحق الحياة والتضحية، والفرصة الثانية دائما موجودة وليس لأحد أنْ يتنكّر لها.

***

نبيه القاسم - الرامة

في المثقف اليوم