قراءات نقدية

جمعة عبد الله: التمرد والرفض في الرواية القصيرة جداً (هذيان محموم)

للاديب حميد الحريزي

تملك التجربة الروائية للاستاذ حميد الحريزي براعة ابداعية في صياغة السرد الروائي الحديث، على ضفاف الرؤية الفكرية الناضجة والمدركة لمجريات الواقع والمفاصل التي تتحكم به، فهو غني عن التعريف في الابداع والصياغة والتكوين في الفن الروائي من خلال مسيرته الطويلة والغنية في الخبرة المتألقة في الابتكار داخل النص الروائي، وقد قدم عدة الروايات قيمة تناولت مراحل السياسية لتاريخ العراق الحديث، الذي عرف بالصراع السياسي الدموي والانقلابات والمفاجأة العاصفة، يسوقها ضمن رؤية فكرية واقعية ورصينة، في الاتجاه الواقعية الانتقادية، في إسلوب تراجيدي ناقد، في اسلوبية التعامل مع الاحداث وتقلباتها. وفي السنوات الاخيرة ابتكر صياغة فنية حديثة في السرد الروائي، أطلق عليها: الرواية القصيرة جداً، وهذا الوليد الحديث يعتمد على سمات وخصائص، قوامها التكثيف والاختزال والتركيز في صياغة الحدث الروائي، اي انه يتجه الى الهدف المنشود مباشرة، دون اطالة وزخرفة وصفية مطولة في السرد، وهذا ما يتطلبه الواقع الحديث في السرعة والاختزال، مع الحفاظ على شكلية السرد الروائي، وقدم في هذا المجال أكثر من ست روايات قصيرة جداً، وآخرها (هذيان محموم) في براعة النقد الاجتماعي، من خلال الجدل والمناقشة. تخص المقولات الدينية وخطابها المعلن، وكذلك يتناول مراسيم تشييع المتوفى من البداية حتى النهاية بوضعه في القبر، واقامة مراسيم العزاء وتقديم موائد الطعام وغيرها من الاعراف والتقاليد الدينية والاجتماعية بشكل مفصل والمبالغة التي لا تعطي قيمة وانسانية للمتوفي، يضعها في مشرحة في المحاججة والنقاش ويفند مقولاته بالحوار الرصين والهادف، أي ان محاولة الرواية القصيرة جداً (هذيان محموم) نقل هذه التقاليد والاعراف الدينية والاجتماعية، من اللامنطق واللامعقول، الى سكة المنطق والمعقول، بشكل حضاري متطور ومتمدن، اي بنزع ثوب التخلف والسلفية، الى ثوب المنطق الحضاري، كما هو متبع في الشعوب المتحضرة و المتمدنة، في تعاملها في مراسيم التشيع والعزاء، التي تعطي قيمة واحترام واعتزاز للمتوفي، بدون الانزلاق إلى الابتذال والتفاهة. كما يعرض معنى الفكري لرسائل السماوية للأديان والرسل والمبشرين والأنبياء، في معاني السلام والمحبة وعدم التفريق والشقاق والخلاف، ان تسود عقلية وثقافة التسامح والاخاء، يعني هدفها السير بالمجتمع نحو الانسانية والتحضر، عكس ما هو معمول به في يومنا هذا في الخطاب الديني ومقولاته الفكرية وعاداته وتقاليده بعيدة جداً عن وصايا رب العالمين ورسله وأنبيائه، هذا النكوص، اصبح الدين ورجاله ومراجعه، يعبرعن المشكلة والازمة القائمة، وتعقيد المعاناة وتشديدها نحو الخناق السلطوي، اي الانزلاق نحو التراجيدية / الكوميدية الالهية، بأن ينسبون كل شيء حتى المخالف للعقل والمنطق الى رب العالمين . ومن هذا المنطلق تتفجر الاسئلة والتساؤلات (ينسبون كل أمر الى الله كالفقر والغنى، السلطة والوجاهة والمال والنساء والبنين، مما لا يستقيم مع العقل الحكيم. أو يدفع بعض الناس الى الكفر بهذا الاله غير العادل في توزيع الهبات والصفات على مخلوقاته دون عدل) ص10. إن المناقشة الفكر الديني السائد في الوقت الراهن، خرج عن رسالة الدين الانسانية وفكرها النبيل، اذ تدخلت المصالح والمنافع من بعض رجال الدين والمشرفين على الخطاب الديني، ان يقفون مع القوى الظالمة والسلطة الغاشمة، بذلك اصبح للدين وجهين احدهما يناقض الاخر، والغلبة النافعة التي تبحث عن كنز الذهب والدولار، قادوا الحياة في اتعس حالاتها من جحيم المعاناة، حتى أصبح الموت راحة وسلامة، وان الموتى تحت الأرض أفضل من الحياة فوق الأرض (أن الموت يحمل السلام والراحة الابدية، أما الحياة فهي تجربة واحدة لن تتكرر ثانية) وكانت لقاءات (حامد) في العالم الآخر (عالم الاموت) مع الكثير من الشرائح الاجتماعية المتضررة ظلما وعدواناً، قتلت بدم بارد لانها طالبت بحقوقها الشرعية، مثل شهداء انتفاضة أكتوبر الشبابية، التي سميت انتفاضة وطن ( - لا تخف يا جاري العزيز فانا جارك في المقبرة، ولكني اقدم منك من حيث تاريخ الدفن هنا، فلم تمض عليَّ اكثر من سنة، فقد قتلت في تظاهرات اكتوبر الشبابية المناهضة للسلطة الفاسدة الحاكمة في العراق) ص14. هكذا تكون الاحلام مشاعة بالقتل والاجهاض، لانها تفكر بحياة افضل بالاماني والاحلام والرغبات الانسانية النزيهة. هذا يدفعنا الى المسائلة: ماهو دور الدين والمراجع الدينية، في هدر ارواح بريئة بالقتل؟، ماهو دورها في صبغة الدين بالزيف والاحتيال؟ ماهي المقولات الدينية في معاني الفرح والحزن والتعاسة والسعادة والجوع والشبع ؟ لماذا تقود الحياة الى العدم والغاء الاخر، لماذا محاربة الجمال والخير لكي يتغلب الباطل والقبح؟ لماذا سطوة ونفوذ المقايضات تجري تحت الطاولة في الحياة في العقلية الدينية السائدة؟ هنا يدفعنا الى عدم الخوف من العدم، كما يقول أبيقور (أيها الانسان لا تخف من العدم لانك كنت سابقاً في العدم، كنت عدماً لمليارات السنين، لا تملك خبرة واحدة للعدم، فكر في كل الزمن الذي مررت به قبل ان تولد) ص4.134 اhorayzi

دوافع الرؤية الفكرية التي كونت وصياغة الحدث الروائي وأهميته في الترميز الدال وهي.

1 - الحدث الأول: الذئاب الغازية المكشرة الأنياب التي اقتحمت الدار وعاثت خراباً وفزعاً ورعباً لأهل الدار. ليس فقط سرقت الجمل بما حمل، وإنما سرقت الأماني والتطلعات بغدٍ أفضل، وهذا البعد الرمزي لحقيقية العراق الحالي بكل التفاصيل الدراماتيكية والسريالية.

2 -الحدث الثاني: الظروف المعيشية القاسية في أزماتها خانقة وتفاقمها نحو الخناق الكلي، تدفع العقل الى الجنون والانتحار (خروجك قبل ثلاثة أيام على الدراجة في الشارع و درجة الحرارة 55 م، لتجلب الثلج بسبب انقطاع التيار الكهربائي، كان خروجك انتحارياً، فما إن عدت الى الدار حتى سقطت مغمياً عليك) ص27.

3 - الحدث الثالث: الظلم الاجتماعي على المرأة بتبريرات اجتماعية ودينية، بأنها ناقصة العقل، او عورة ينبغي لجمها وحصرها في البيت، ومنعها من حقوقها في الكثير من المسائل الجوهرية، اعطى كل شيء للرجل وحرمان كل شيء للمرأة.

4 - شماعة (الدين افيون الشعوب): خرجت من ظرفها وسياقها الزمني ضد الكنيسة المتسلطة آنذاك، وأصبحت سلاحاً في مواجهة المعترضين والمعارضين، وصفهم بالكفر والإلحاد، السلاح الناجح والخطير بيد العقلية السلفية المنغلقة، وتكميم الأفواه وخنق حرية الفكر المتنور، وتشويه السمعة لأصحاب المدنية والعلمانية .

صياغة المضمون الفكري وأبعاده الرمزية الدالة:

تغليف الحدث السردي برؤية فكرية تضع موجودات الواقع الفعلي في مسائله الرئيسية في الشأن السياسي والاجتماعي والديني، هي مهمة في غاية الصعوبة، ان تملك معنى ومغزى ورمز، لابد من مهارة احترافية في التسويق والصياغة بشكل تؤثر لدى القارئ والمتابع، لذلك اختار الاستاذ حميد الحريزي اللعبة السريالية أو الحدث السريالي الواقعي، الذي يتناسب مع سريالية الواقع القائم، وموت بطل الرواية والشخصية المحورية (حامد) لكي يضع مرئياته في الحياة والموت، تحت مشرحة الجدل والمناقشة، في الصراع القائم بين الحقائق والمغالطات في مقولاتهم الفكرية البالية، التي لم تعد تصلح لمتطلبات الزمن الحاضر، بل اصبحت من الزمن الماضي، يعاد تدويرها وانتاجها بشكل مخالف للعقل والمنطق، بل راحت تصب في المتاجرة والربح لصالح المنافع الضيقة، بالضد من المصالح العامة، وما شخصية (حامد) تمثل شخصية المثقف الملتزم الذي لا يساوم على الحقائق ولا يبيع قلمه لمن هب ودب، بغمط مجريات الأمور مقابل مقايضات مالية. لا يمكن ان يصمت أمام معاناة الانسان والوطن. لا يمكن ان يصمت عن الصواب، في تفنيد المفاهيم والتقاليد الاجتماعية والدينية المغلوطة، ان يجابه بالمواقف الصلبة في الرفض والتمرد، وهذه الشخصية (حامد) هي تمثل المؤلف نفسه (تساءل بطل الرواية، ليستعرض عناوين كتبه العزيزة التي لم يتمكن من قرائتها لحد الآن..... أننا أيتامك ايها الغادر) ص5، وهنا يتبادر السؤال: كيف يكون موت المؤلف قبل ان يحدد مصير بطل الرواية ضمن روايته الجديدة، وما صيغة (هذيان محموم) هو عنوان استفزازي يغري القارئ، والعمق الفكري لهذا الهذيان، هو صراخ المثقف الواعي لما يجري من مهاترات وتجارة واسفاف في غسل العقول بالعواطف الدينية المزيفة، ليكون الباطل منتصراً على الحق والحقائق. انها صرخة احتجاج وتمرد على ما يقومون بهدم المجتمع، بالعادات والتقاليد الدينية المتخلفة التي لا تحترم قيمة الإنسان لا في حياته ولا في موته، وهو في سرير الموت حتى مراسيم الدفن ومراسيم اقامة العزاء وتقديم الطعام والموائد خلال أيام الوفاة وفي يوم الأربعين لغيابه عن الحياة، يتناولها بشكل ساخر وانتقادي. هذا الاحتجاج يمتلك مشروعية منطقية (- صرخ حامد بأعلى صوت، يا أحبتي أنا لا اريد أن تقام على روحي الفاتحة وتولم الولائم، يكفيني ان تزرع على قبري شجرة واحدة مزدهرة) وكذلك بدلاً من البذخ في تقديم الطعام، يمكن توزيعه على الفقراء. وأن يكون لمراسيم الجنازة والدفن، قيمة حضارية وانسانية، تحترم المتوفي بالتقدير والإجلال وليس وضعه في (الصندوق الخشبي العفن والضيق ناتئ المسامير الذي سيلقى فيه بعد ان تخمد انفاسه، والادهى من ذلك بأن هذا الصندوق القذر سيوضع فوق سقف سيارة ويربط بالحبال معرضاً لحرارة الشمس اللاهبة و الرياح المغبرة صيفاً ولزخات المطر والبرد في الشتاء دون رحمة ودون احترام من اقرب الناس اليه ومن الذارفين الدموع نفاقاً عليه، فلا يحمل في سيارة خاصة مكيفة كبقية البشر في نقل الجنائز) ص6. هذا المحاور الجدلية لبطل الرواية (حامد) خلال رحلته إلى عالم السفلي (الأموات) تبقى اسئلة عالقة للحياة جديرة بالاحترام، مقولات الفكر الديني السلفي لم تعد تلائم الظرف الراهن، التي تحولت الى التراجيدية الكوميدية. واصحاب الالهة الارض الذين اصبحوا لعبة بيد السلطة الظالمة، كأنهم نزعوا ثوب الدين الصائب بالمسؤولية والنزاهة، بأنهم مبشرين للخير وليس للشر في وجود هذه الالهة (على فرض وجود، فهذه الالهة بوصفها آلهة هي أسمى من أن تهتم بأمرك أيها المسكين المتوهم، أن الالهة في عليائها تنتظر لتموت لتحاسبك، ما وزنك أنت؟ ما قيمتك أنت في هذا العالم اللامتناهي؟) ص17. الجدل في مناقشات بطل الرواية (حامد) اين يقف رجال الدين ومراجعهم؟. اذا كانت تقف مع العدل وإحقاق المظلومين، يكونوا في صف قوى الخير، أما ان يقفوا مع سلطة المال والسلطة الظالمة، يفقدون دورهم كرجال دين مصلحين، وإنما يكونوا اتباع تحركهم شهية المال والنفوذ والسطوة المتنفذة.

أن الحوارات التي يقدمها بطل الرواية (حامد) تدور في ذهن كل مثقف ملتزم بمسؤولية القلم والمواقف الرشيدة. وهي تمثل صراع اليوم بكل تفاصيله الاساسية.. انها حمى الهموم الاساسية للواقع والحياة.

***

جمعة عبدالله

 

في المثقف اليوم