قراءات نقدية

محمد حسين الداغستاني: قراءة في قصة (كركوك وسوق القورية)

تداعيات المكان في سِفر مدينة

توظيف المدينة أو المكان في نصوصٍ رصينة لإيصال معلومة تاريخية ذات دلالات اجتماعية وسياسية الى المتلقي ضرب من السردية الشائعة التي تناولها الأدباء والكتاب عبر أزمان متعاقبة، وبفضل نتاجاتهم الإبداعية اشتهرت مدن كبيرة وكذلك اخرى صغيرة منسية وخاصة في أعمال عبدالرحمن منيف ونجيب محفوظ وبول أوستر وغابريل ماركيز وغيرهم  وألهمت المدن باحثيها وكتابها سمات وأشكال فريدة في الكتابة عنها وبالخاصة تلك التي تجاوزت هيكلية المدينة كمبان ومنازل وشوارع ومحلات، إلى كونها مسرح حياة تحمل كل أنّات وعبرات وطموح وأفراح ونجاحات من يعيش بداخل أحيائها بل إن العديد من هذه النتاجات غيرت القناعات والمسلمات لدى بعض الناس وأسهمت في تغيير طريقة تفكيرهم ونمط حياتهم.

و(كركوك) المدينة التاريخية العريقة التي تعود الى ١٦٠٠ قبل الميلاد الواقعة في شمال العراق والتي تبعد عن العاصمة بغداد حوالي ٣٠٠ كلم كانت مبعث وهج للكثيرمن الشعراء والأدباء الذين تغنوا بها وكتبوا عنها في قصصهم ورواياتهم وقصائدهم، لكنها اكتسبت خصوصيتها كونها تضم إثنيات واقوام وكيانات متنوعة تمازجت وتآلفت عبر مئات السنين وقارعت معاً الخطوب، بل وتمسكت بنسيجها الإجتماعي المتين رغم كل تحديات ومحاولات التمزيق وسياسات التشتيت والفرقة، فاضاف الكاتب كمال بياتلي المولود في كركوك في العام ١٩٥٨م بُعدا سسيولوجياً وواقعياً إليها في كتابه (كركوك وسوق القورية) عبر قصة طويلة محورها مجيد الحمال تلك الشخصية البسيطة والغريبة في آن واحد، بلغة سلسلة، وانسيابية بديعة، بفضل الترجمة المميزة الى العربية التي تولاها أرشد الهرمزي من التركية، والقصة تتناول فترة ثمانينيات القرن الماضي وابان الحرب العراقية الايرانية حيث كانت حافلة بالأحداث المريرة والوقائع المفعمة بالاحزان المغروسة عميقاً في الذاكرة .

ولا شك أن إختيار سوق القورية من قبل المؤلف لم يأت إعتباطاً فهي أقدم أسواق المدينة وأعرقها، وهي معروفة بغالبية سكانها القاطنين في الأحياء المحيطة بها من التركمان، فوظف السوق نموذجاً لما جرى لهم في المدينة برمتها وما تعرضوا له من تعسف وإجحاف خلال تلك الفترة نتيجة فرض سياسة التغيير الديموغرافي على المدينة والتي لا تزال تأثيراتها السلبية قائمة ليومنا هذا.

تبدأ القصة بخروج مجيد الحمال في كل صباح باكر الى السوق وفي تلك الساعات (كان يمكن أن ترى مجيد الحمال دوماً بثوبه القصير المخطط والسترة التي يلبسها ويكون فتق الخياط ظاهراً تحت الإبط دوماً وبحزامه الجلدي الغليظ والطاقية التي يعتمرها وهي الأخرى تعلوها الثقوب.. كانت عيونه تتابع المارة عسى أن يكلمه احد ليحمل مشترياته في سلته المتهالكة القديمة) على أمل أن يعود بمكسب يعينه وأمه على صروف الدهر . فرغم فيض الحركة الدؤوب في السوق فقد كانت هناك لحظات فوضى ورعب وعنف بسبب ممارسات رجال السلطة المدججين بالسلاح بمسمياتهم المختلفة وأغلبهم كانوا من الطارئين على المدينة وقد استخدمتهم السلطة لتغيير واقعها الاثني فساموا أهلها شتى صنوف الاستعلاء والغرور والبطش بحجج مختلفة سواء بزعم البحث عن المتخلفين عن الخدمة العسكرية اوالهاربين من وحداتهم أو حتى الذين لا صلة لهم بالموضوع سوى كونهم مختلفين عنهم بإنتمائهم القومي ومنهم مجيد الحمال الذي تعرض لواحد من اؤلئك حينما صاح عليه غاضبا وسأله عن هويته فوقف مجيد فاغرا فاه وهو لا يعي ما هي الهوية فامتدت يد الشاب ذي الشارب الكث الى قميص مجيد المتهرئ لتهزه بعنف فيتدخل يوسف البقال لإنقاذه :

(يا سادة، هذا الرجل معوّق لا ضرر منه إطلاقا، إنه رجل قست عليه الدنيا، ثم أنه يتيم ووحيد في دنياه. واضح أنه لا يعلم عن ماهية الهوية إطلاقاً...لم يكد يوسف البقال ينهي كلامه حتى مدّ الشاب ذو السترة السوداء يده لتنتزع طاقية مجيد الحمال بقسوة متناهية شاء حظه أن يكون حليق الرأس وإلا فقد كان من المحتم أن ينتزع الشاب خصلة من شعره لو كانت له بقية من شعر، نظر إلى الطاقية المهترئة بقرف واضح ورماها على الأرض) .

ثمن رصاصات الموت

قدرية ام مجيد كانت قد عانت الأمرين أيضا قبل أن تلد ابنها المعاق الوحيد، فقد غاب زوجها حيدر الفخار دون أن يترك وراءه اي إثر في تلك الفترة التي كان أعداد المفقودين المختفية اثارهم تزداد، لقد كان الكثيرون ممن يغادرون منازلهم أو محلات عملهم يختفون دون أن يظهر لهم أي أثر. وهكذا انتهى البحث بها من طوزخورماتو الى أحد أحياء الفقراء في سوق القورية لكنها تلقت بعد سنوات خبرا وصلته من جيرانها هناك مفاده أن سيارة الشرطة توقفت ذات ليلة (أمام بيت حيدر الفخّار، ولما لم يجدوا أحدا في البيت قاموا بتسليم تابوت إلى الجيران وأخذوا توقيعهم بالاستلام وأبلغوهم بضرورة دفن الجثة ليلاً مع عدم تجمع أي أحد، فقام ثلاثة من سكان الحي بحمل التابوت على جرّار وقاموا بدفن الفقيد. وفي صباح اليوم التالي، حضر أفراد الشرطة أنفسهم مع الورقة الموقعة باستلام الجثة إلى جار حيدر الفخّار وطلبوا منه ثمن خمس عشرة رصاصة، وعندما تم سؤالهم عن السبب قال أحدهم: «لقد كان حيدر الفخّار منخرطا في تنظيم تركماني سرّي معاد للدولة. وقد حكمت عليه محكمة الثورة بالإعدام رمياً بالرصاص وثمن الرصاصات اثنان وعشرون دينارا ونصف الدينار وعليكم دفع المبلغ » .

هزة حب

ولكي ينتشل المؤلف قصته من الرتابة والتجريد السياسي فنراه يضع هيفاء تلك الصبية اليافعة والجميلة أمام مجيد فيحدث العابر لقاءه بها هزةً وجدانية عنيفة افقدت مجيد توازنه، وبذلك فقد اسبغ البياتي لمسة رائعة من الرشاقة والرومانسية، وبُعدا إنسانياً مفعماً بالعاطفة الجياشة على قصته عندما إبتدأ قصة العشق المفاجئ والجارف من طرف واحد (فقد نادته سيدة لم يرها لحد اليوم قبلا ليحمل مشترياتها، وقد اصطحب المرأة بما حملها من أكياس إلى دار قريبة من مسكن اسرة عائلة النفطجي، وعندما أدركت أنه قد مسه التعب فقد أدخلته الدار ونادت ابنتها لتعطيه كأسا من اللبن الرائق حصل ما حصل يومها، فقد التقت نظراته مع نظرات الفتاة عندما ناولته الكأس، فتغيّرت ملامح وجهه ولما سمع الفتاة تقول له: «تفضل!» فقد تغيّر العالم من حوله، ولأول مرة في حياته اكتشف أن شفتاه قد خلقتا لرسم ابتسامة، وشعر بشيء ما في داخله كما أحس وكأنما موجة من الدفء تسري في عروقه من رأسه إلى أخمص قدميه) .

ويشرع المؤلف في قسم كبير من القصة بعرض مكابدات مجيد الذي اكتفي بمتابعة هيفاء في تحركاتها خارج البيت . وهيفاء اسم أطلقه مجيد عليها في خياله فيما تبين بأن إسمها الحقيقي سماء وهي وحيدة والدتها وتعيش معها بعد استشهاد شقيقها عبد الهادي في جبهة الشيب على الراتب التقاعدي الذي خصص لهما .. وفي إحدى متابعاته يسقط مجيد مغشيا عليه في ساحة ألعاب العيد وهو يراقب معشوقته تتأرجح في أرجوحة عالية مع صديقاتها ويرقد في المستشفى وكان المختار محمد بجانبه في حين كانت أمه قدرية تتلظى كمداً على إبنها الذي غاب عنها دون أن تعرف مصيره . وحالما اعاده المختار إليها بعد أيام حضنته المسكينة (وهي بين حالتين من الضحك والبكاء، بدأت تشم رائحته وتقبل عينيه وجبينه ورقبته، إلا أن مجيداً بدا وكأن الأمرلا يعنيه. سحب رأسه من حضن والدته وصعد إلى السطح قبل أن تغرب الشمس لينتظر النجوم ).

ويمضي البياتي في إيراد حالات من المآسي الناجمة عن الحرب ومنها حمل التوابيت التي تضم الشهداء إلى البيوت المفجوعة فيما كان بعضها تضم مجرد قطع من اللحم البشري وكان من الصعب (تحمل رؤية هذا المنظر فيما لو كان الفقيد قد تزوج حديثاً أو كان قد قام بخطبة فتاة في الفترة الأخيرة) . وفي ذات الوقت كانت سوق القورية مسرحا لوقائع مؤلمة نتيجة حالات اعتداء يقوم بها أفراد الشرطة السرية على بعض الناس ومنهم احمد تركلاني صاحب أحد المحلات الذي سحبوه امام أنظار أفراد الشرطة بملابسهم الرسمية فانهالوا عليه بالضرب المبرح فيما كان ابنه الصغير يصرخ من الفزع والخوف على والده فاندفع لينقذ والده إلاّ انه تلقى ضربة من أخمص بندقية أحد أفراد الامن الخمسة فيما كانت جمهرة من الرجال والنساء الوافدين من أحياء المدينة المستحدثة بانتظار إشارة منهم للاستيلاء على بضائع المحل انذاك تملك مجيد الحمال الخوف وهو يرى ما يجري وبدأ يرتجف فأمسك به أحدهم واخذه بعيدا عن المنظر المؤلم.

ويختتم البياتي قصته الطويلة بحدث موجع شهدتها سوق القورية في أحد ايام الجمعة بعد ان تحول الى ساحة هرج واضطراب وفزع شديد بسبب قيام قوة أمنية مسلحة بإطلاق النار عشوائياً بين المدنيين في محاولة للقبض على أحد الهاربين من الخدمة العسكرية فيما كان بضعة من الحمالين بينهم مجيد جالسين تحت أحد اعمدة الانارة مدخل فرع الصاغة القديم في السوق فاصابتهم رشقة من الرصاص الطائش فجرح أحدهم ومات اثنان (بعد حين ذهب أحد الحمالين الذين كانوا يجلسون مع مجيد والذي نجا من الإصابة بأية طلقة إلى قدرية قال لها دون سابق انذار «أصيب مجيد برصاصة في صدره وهو ينتظر النجوم).

لقد أفلح البياتي في قصته الطويلة إختزال الحياة لمدينة كركوك في زمن محدد ورقعة جغرافية محصورة بجزء من سوق القورية لكي يؤرخ للقارئ تداعيات الأحداث على أهلها انذاك، ورغم ان مقصد المؤلف كما أورد في المقدمة كان يكمن في نسج قصة حب بريئة ومستحيلة وعلاقات اجتماعية متماسكة ومصيرية تؤطرها تقاليد وقيم إنسانية ملهمة بين أشخاص عاش بينهم ومعهم  لكن سطوة الوقائع هيمنت عليه وأخذت حيزا واسعا بين دفتي الكتاب . وبذلك تحولت القصة إلى شهادة إنسانية وتأريخية نضرة لفترة زمنية عاصرتها كركوك لتبقى حية في ذاكرة الأجيال القادمة.

***

محمد حسين الداغستاني

في المثقف اليوم