قراءات نقدية

غزلان هاشمي: البحث عن المضمر في كتاب سرد ونقد للأستاذة سليمة لوكام

قدمت الناقدة الجزائرية والأستاذة بجامعة سوق أهراس أ. د. سليمة لوكام للساحة النقدية العربية والجزائرية على وجه الخصوص العديد من المؤلفات المهمة منها: تلقي السرديات في النقد الغاربي، سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في كتابات الفرنكوفونيين العرب، الآخر في الثقافة والأدب حضور واستحضار، متون وهوامش، وآخرها كتاب "سرد ونقد"، وكتاب :كتابة الرواية الجزائرية باللغة العربية والفرنسية" ..

في كتابها الصادر عن دار سحر للنشر، قدمت الباحثة دراسات مختلفة في السرد والنقد، وقد حاولت أن أجد الخيط الرابط بينها رغم أنها تركت عنوانه على إطلاقيته معبرا عن تجاوزه وعدم خضوعه للاتحديد ربما من أجل الخروج من مأزق التصنيف والتوصيف، أو من أجل تحفيز المتلقي لدخول عوالمها القائمة على التعدد وكأنها تخاطب العقول قبل الأذواق، وترفض أن ينغلق الباحث على تخصص بعينه، لذلك تدعوه لأن يخوض مغامرة النبش في كل الخطابات على تغايرها واختلافها ..، وهذا ما يصنع مع جملة مزايا فرادته وتمايزه..، بل حتى ورود اللفظتين في صيغة إنكار ـ دون ألف التعريف ـ يشي بالاحتمالية ويغامر بالسؤال عن المبتغى :أي سرد؟ وأي نقد؟، تحفيزا للقارئ حتى يعيش مغامرة القراءة، وبصيغة أخرى، ينطلق من سؤال مضمر :كيف تحيا قارئا؟أو كيف تؤسس لدهشة القراءة ورحلة التأويل؟.

فعن قراءة النصوص السردية أشارت في مقدمة كتابها أن بعض النقاد حينما استعاروا المناهج، أخذوا منها ما أعانهم على قراءتها، والكشف عن دلالاتها المغيبة، بينما أغرق البعض في النزعة المدرسية التي تعول على تطبيق القواعد، وتبرر ذلك بقولها:"ليصل الجميع إلى النتيجة نفسها التي تقيم الدليل على نجاح النظرية، فكان أن ماخلصت إليه تلك الدراسات أشبه بالقوالب الجاهزة المفرغة من المتعة التي نستمرئها عند مطالعاتنا للقراءات النقدية التي تنبري لفتح النصوص لا إغلاقها، وتحسس ملامح شعريتها لا تكليسها"ص6.

وكأنها هنا تركز على العلاقة الحميمية بين النص وقارئه، وتتجاوز المناهج بعدتها الإجرائية الصارمة، التي لا تجد فيها مايحقق المتعة ولا ما يستكشف أسرار النص، لذلك تطالب بنوع من الحوارية التي تنفتح على المتعدد وترفض الوصاية النقدية أو الفكرية ..، ولربما لون العنوان يحمل دلالة الحميمية، وتقديم اسم الناقدة عليه بخلاف ما عهدناه يشرعنها ويؤكد مركزية القارئ، رغم أني أجدها أحيانا تحاول مغالبة تخصصها الدقيق فيغالبها حينما تستخدم بعض المصطلحات النخبوية المتعلقة بالسرد وإجراءاته في قراءة بعض النصوص.

موضوعات متعددة تناولها الكتاب :نماذج عن الخطاب الاستشراقي، رواية المرأة في الألفية الثالثة، سرد الآخر، المنجز السردي والنقدي الفلسطيني، سرد الخيال العلمي ونقده...

تبدو النبرة الاحتجاجية والاعتراضية في خطاباتها النقدية لكنها ترتكز على العقلانية التي لا تخرج بها إلى دائرة الانفعال، وإنما تسمها بالهدوء والموضوعية وتبرئها من التحيز، نورد مثالا عن ذلك فيما كتبته في صيغة اعتراض عن رواية الخيال العلمي، إذ يلخص الاقتباس الذي سنورده رؤيتها التي تتحفظ على ارتياد عوالم إبداعية لم يحن وقتها بعد في ظل هذا الراهن الموبوء فقط بدافع الاستعارة واللهاث وراء المنجز الغيري في محاولة للحاق به وإن على المستوى الإبداعي فقط :"وقد جرت هذه الخصيصة الرواية لأن تطأ مواطن قصية، أو خروجها من دائرة ما تتعاطاه من تيمات تتناغم مع المعطيات الفكرية والحضارية والثقافية القائمة أو الممكنة، إلى فضاءات تبدو أنها غير مؤهلة بعد لاحتواء محكيات روائية تمعن في التحليق بعيدا عما يمكن أن يشغل، حقيقة روائيا عربيا في ظل سياقات خاصة تؤطر رؤيته للعالم والأشياء، وأيضا ما يحتمل أن يشكل أفق انتظار القارئ العربي"ص133.

فمثلا عن الاستشراق وتحت عنوان "الرواية العربية استشراق ونقد " قسمته إلى عنوانين:رؤية استشراقية فرنسية للرواية العربية:بين جاك بيرك وأندريه ميكال ـ رواية المرأة العربية في الألفية الثالثة:تثبيت حضور أم تأسيس لاختلاف.

ففي: رؤية استشراقية فرنسية للرواية العربية:بين جاك بيرك وأندريه ميكال" أرادت أن تفكك خطاب الاستشراق المعاصر وان تكشف عن تناقضاته ومضمراته،

لقد ركزت الناقدة على جاك بيرك الذي وجدت أنه رفض مسمى المستشرق مفضلا عليه اسم المعرب، لأن الأول ذو حمولة إيديولوجية تؤكد المركزية الأوروبية، هذا ويفضل أنه يعرف نفسه بأنه "عابر الضفتين"، وقد ذكرني ذلك بمقال كان قد كتبه عبد الكريم الخطيبي عام 1976 عن هذا المستشرق الذي كان موظفا ساميا للاستعمار بعنوان"الاستشراق الضال عن السبيل" وقتها كانت المغرب تعيش الكثير من الأحداث منها محاولة تصفية الاستعمار وبناء الهوية ..، وهذا المقال يمكن إدراجه تحت ما يسمى النقد المزدوج، حيث يفترض نبل هدف الاستشراق والمتمثل في إقامة علاقة بين الشرق والغرب قائمة على قوانين الضيافة، لذلك فهو يبرئه من تهمة أنه وريث الإيديولوجيا الكولونيالية بل يعتبره، على العكس من ذلك، "منظرًا" لتصفية الاستعمار أكثر خطرًا من فرانز فانون..

رغم ذلك نجد الأستاذة لوكام لا تطمئن للجاهز وإنما تبحث في مضمرات خطابه، حيث تتبدى نية مغايرة لما يظهره نصه، ففي مقدمته لترجمة دراسة ندى طوميش حول الرواية عاد إلى الفترة الهيلينية والقبطية وفي الفترة الإسلامية اكتفى بالحديث عن المذهب الشافعي والفترة المملوكية، ترتاب الباحثة في نصوصه، حيث تورد مقتطفا من حديثه حينما قال:"إلى زمن قريب منا، زمن اللقيا المتوسطية فيما بين الحربين، التي تدين بطبيعتها وبطاقتها المرجعية إلى ثقافات قارتين أو ثلاث قارات في آن واحد"ص16، لذا تتساءل عن سبب عودته إلى تاريخ مصر القديم رغم أن المؤلفة لم تتحدث عنه وإنما بدأت دراستها من عصر النهضة.

لقد خلصت الباحثة إلى ميل المستشرق إلى فكرة الالتقاء والتقاطع أو "مكان التلاقي" بعد الغياب، إذ تجد أن ذلك يجعل منه مستشرقا لا يقرأ الحاضر أو يعنى بالماضي القريب فقط وإنما ينبش في التاريخ باحثا عن المرجعيات، ويعود إلى الأصول، حيث أدرك أن هناك ارتباط بين ثقافة العالم العربي الإسلامي والماضي القريب والبعيد، وتقول بخصوص ميله الواضح عن هدف الدراسة الأصلية :"كنا ننتظر بعد ذلك أن يمضي بيرك للحديث عن هذا الإبداع الأدبي النثري، لكننا ألفناه ينصرف إلى إضاءة تاريخية اجتماعية لا تدعو للاستغراب بقدر ما تحفز على الرغبة في تقصي أنحاء النظر في هذه الرؤية الخاصة"17.

انشغلت الناقدة بنقد العديد من الأفكار الاستشراقية التي نقلها النقاد العرب فيما بعد وعوملت على أساس أنها من البديهيات، فالانتقاء واضح والتحيز للغرب واضح في خطاب بيرك، الذي اعتبر النهضة هي التي جلبت الحركية إلى مصر ومعها رجال الثقافة والمعرفة، حيث اعتبر حديث عيسى بن هشام أولى ثمرات هذا التلاقح، وفي ذلك حسب الباحثة إغفال لدور البعثات المصرية إلى أوربا وخاصة فرنسا.إذ تم التركيز على الطرح السوسيولوجي التاريخي، تقول:"ارتكزت قراءة بيرك على مايصنع الأدب، والجنس الأدبي، أكثر من الجنس الأدبي نفسه، فلم يجرؤ على التطرق لإرهاصات الرواية، أو كيف تشكل جنس الرواية مالم يقدم السياقات التاريخية التي أحاطت والعوامل السياسية التي أسعفت..".

وتؤكد على انتقائيته وتحيزه من خلال بعض المقاطع التي تبدي تنكرا واضحا لأن تكون الرواية العربية المعاصرة امتدادا للتراث أي للمحكيات العربية القديمة .

أما عن أندريه ميكيل بينت أنه في مقاله "الرواية العربية المعاصرة" "حاول فيه أن يربط بين الرواية والحداثة، والرواية والشرط التاريخي، والرواية والتراث الحكائي العربي، أو ما يسميه التقاليد"ص22.بعد رصد نقاط التقاطع بين المستشرقين تنتهي الناقدة إلى أن هناك نقطة اختلاف بينهما في تعاطيهما مع الأدب العربي، إذ تجد أن كلام ميكال فيه من الوصاية والتعالي المركزي الأوروبي الذي يبتعد به عن الموضوعية ويعمق من الهوة بينه وبين الشرق، تقول:"ويشير الى حضور المؤثرات الأجنبية بعيدا عن الرؤية الاستشرافية الممعنة في التعالي، بل إننا على العكس من ذلك نجد نوعا من الحنين إلى تاريخ هذا الشرق الذي ولد بين أحضانه، ورأى النور على أرضه"ص24.

لكن بعد قراءتي لهذا النبش وجدتني أتساءل :إن كان المستشرقان قد سقطا في الفخ ذاته، وهو فخ التحيز، ولم يستطيعا التحرر من مرجعياتهما في قراءة التراث والأدب العربي الحديث والمعاصر، فلماذا تنتصر الأستاذة للأول وقد وقفت على الكثير من المضمرات التي تدل على إظهاره عكس ما يخفيه ؟هل فعلا كان الأول أكثر موضوعية وتحررا من المركزية الغربية كما تقول ؟، قرأت مقالا بعنوان حديث المستشرق الفرنسي للدكتور أحمد شتيوي يقول فيه أنه تظاهر فقط بالدفاع عن النص القرآني والتراثي، في حين يذهب البعض إلى اعتباره مجرد محب للعرب وليس مستشرقا، وبين الرأيين يظل الرهان قائما على القراءة والنبش عميقا.

في دراستها"رواية المرأة العربية في الألفية الثالثة ـ تثبيت حضور أم تأسيس لاختلاف؟

اعتمدت على تحقيب يتمثل في:الألفية الثالثة والروائيات المخضرمات "من كتبن بين نهايات القرن الماضي والألفية الثالثة" ـ الألفية الثالثة والروائيات النسويات ـ الألفية الثالثة وروائيات الأكثر مبيعا، وجدته تحقيبا بارعا ينم عن وعي نقدي، عن المثال الأخير تجد أن رواياتها لا تتميز بكثافة المعنى ولا بغزارة الرمز، فهي تركز على الحكي لذلك لا تهم غير الشباب لأنها تهتم بالتجارب العاطفية والإنسانية، تتميز بعناوين مغرية، تهتم كاتباته بأن تكون رواياتهن أكثر مبيعا فقط، وبعدد طبعاتها، كروايات خولة حمدي ...، ورغم أني أتفق معها إلى حد بعيد لكن أجدني أتحفظ على هذا الرأي حينما يتعلق الأمر ببعض رواياتها مثل :غربة الياسمين التي انشغلت فيها بقضايا المرأة ..، إضافة إلى قضايا المغتربين العرب... ورواية أين المفر التي نجد فيها تمثيلات للربيع العربي ..

ما وددت قوله في الأخير أن ما وجدته في قراءة الأستاذة عقلانية هادئة بعيدا عن الجزم واليقينية والنزعة الوثوقية، وكأن بها تنتصر لحوار معرفي بعيدا عن أحادية التفكير، فهي لا ترغب في أن تقنع القارئ أو تمارس عليه الوصاية بقدر ماتريد أن تشرع له أبواب التأويل وتحفزه على الاختلاف والاستنطاق، ولربما لون غلاف الكتاب ينزع إلى هذا التوصيف، فالأزرق السماوي في علم النفس يدل على الهدوء أثناء تقديم القراءة، وهو ماتفضله قناعة وممارسة.

***

بقلم: د. غزلان هاشمي

في المثقف اليوم