قراءات نقدية
حميد الحريزي: الرواية القصيرة جدا.. موجبات الولادة وأشتراطات التجنيس
الأبداع الأدبي مرتبط إرتبلطا وثيقا بحياة الأنسان ومنذ أقدم العصور، كحاجة روحية تعيد للانسان توازنه، وحتى قبل أن يعرف الكتابة، كان يرسم ويقرأ مدلولات صوره على الأحجار وفي داخل الكهوف وعلى جذوع الأشجار، حيث يبدو في طفولة البشرية الفن كوسيلة سحرية لتلبية حاجات مادية وروحية أنسانية، ترتبط بالطبيعة وفيما ورائها، وقد كان الشعر أي الكلام الممغنط والمموسق المتلائم مع ما تفرزه الطبيعة من أصوات المطر والرياح والشلالات وخرير المياه، وتلاطم أمواج البحر، وحفيف أوراق الأشجار بالأضافة الى أصوات الطيور والحيوانات ...
تطور الآداب مرتبط مع تطور حياة الناس من حياة القطيع والصيد والألتقاط الى الزراعة وأكتشاف النار، الى صناعة الأدوات الحجرية البدائية، وأكتشاف المعادن كالحديد والنحاس... التطور من مرحلة المشاعية الى مرحلة الأقطاع وتشكيلاته الى عصر النهضة وهيمنة البرجوازية من خلال الثورة الصناعية في عصر النهضة، وهيمنة البرجوازية على السلطة والثقافة، فقد تطورت الفنون كافة من حال الى حال الرسم من الأنطباعية الى التجريد والسريالية والدادائية، والشعر من الوزن والقافية الى التفعلية فالنص النثري والومضة والهايكو ..، والسرد من الملحمة الى الرواية وهي مقصدنا هنا وهي شكل متطور من التفاهم البشري مع ذاته ومع الأنسان الآخر ومع الآلهة معبرا عن هذه الرغبة للتواصل مرة بالحركة والايماءة والرقص، ومرة بالصورة، وفي مرحلة متأخرة ومتطورة باللغة والكتابة، ففي البدء كانت الرواية الخيالية وحكايا الجن والآلهة الى الرومانسية ثم الرواية الواقعية بمختلف أهدافها، وكل هذا يرافق ظروف الحياة الأنسانية المعيشة في كل مرحلة وكل أسلوب أنتاج وعلاقات الأنتاج،وحسب متطلبات وحاجات وثقافة كل طبقة أجتماعية...
فالرواية كما هو معلوم هي ملحمة البرجوازية بأمتياز، هي الطبقة التي عاشت في بحبوحة من الرفاهية والكسل والتمتع بوقت فائض، حيث تعتاش وتعتصر جهد وفكر ووقت الطبقات الكادحة من العمال والمهندسين المهرة، فهذا الوقت الفائض بحاجة الى مايشغله فكانت الرواية أحدى هذه الوسائل وقد تمت كتابتها باسهاب كبير بحيث كانت بعشرات الالاف من الكلمات والمئات من الصفحات عنها فمثلا رواية البحث عن الزمن المفقود 1200000 كلمة لمارسيل بروست، زمن انعزال الشعوب عن بعضها البعض، مما أدى الى عدم معرفة تفاصيل حياة وثقافة كل منها، و أختلاف المعمار بين مختلف القوميات والشعوب والطبقات الاجتماعية، مما يستدعي من الروائي الإسهاب في ذكر أدق التفاصيل حول الشخصية الروائية كالبطل والشخصيات الثانوية من حيث الشكل العام للجسم ولون البشرة والعيون والطول والقصر وقوة أو هزال البنية العضلية، طبيعة الحركات والسكنات للشخصية وما يميزها عن غيرها، شكل الملابس وموديلاتها لكل طبقة وفئة اجتماعية ومايميزكل طبقة عن غيرها وكل قومية عن سواها .
هذا كان في بداية نهوض البرجوازية وعدم تطور وسائل الأنتاج ووسائل النقل والمواصلات بين القارات وبين الشعوب، وصعوبة التواصل حتى بين مناطق ومقاطعات البلد الواحد .
وما أن اشتد ساعد البرجوازية وتمكنت من انتاج المزيد من المنتجات الجديدة والمتطورة حتى أخذت تبحث عن الأسواق الخارجية لتصريف الفائض وللحصول على المواد الأولية بأسعار رخيصة، فكان الأستعمار وأحتلال البلدان، مما تطلب تطور وسائل النقل والتواصل كالبواخر والقطارات والسيارات فوفر للشخص في هذه البلدان مزيدا من المعلومات عن الآخر في قارة أخرى وشعب آخر وبلد آخر غير بلده وقومية غير قوميته، مثلا تعرف معلومات عن الشرقي العربي والمسلم والزنجي الأفريقي والهندي الأحمر والصيني والياباني وووالخ، كما أطلع على شكل معمار السكن والعمران والطرق وما اليه من عادات وتقاليد ... وبذلك انتفت الحاجة بالنسية للروائي للأسهاب في ذكر هذه التفاصيل كما وصفها أول من شاهدها وكتب عنها، من التعريف والتوصيف للأشخاص والأماكن، فالقاريء والمتلقي قد استبطنها مسبقا وبذلك تطلب الواقع أختزال الكثير من حجم الرواية حيث تطور وسائل النقل والمزيد من وسائل التواصل بين القارات والشعوب، وضع الأديب والفنان أمام خيار لابد منه الا وهو الأبتعاد عن الأسهاب الزائد فكانت الرواية القصيرة هي المعبر عن مثل هذا العصر حيث تترواح صفحاتها بين اقل من 100 صفحة الى 200 صفحة وعدد كلمات قد لاتزيد عن 20000كلمة.حيث توفرت وسائل النقل متوسطة السرعة وانتشار التلفزيونات والسينما والسفن البخارية والسيارات، وإمكانيات السفر التي تستغرق أياما أو أسابيع أحيانا ... رافق كل هذا أفرزت الحياة متطلبات حياتية متواضعة نسبياً لاتشغل أعظم وقت الأنسان الأعتيادي، وعدم هيمنة ثقافة الأستهلاك والتسليع كما سيكون لاحقاً، مما أتاح للمثقف والأنسان من الطبقة المتوسطة وبعض طبقة العمال المهرة الوقت قد يمتد لساعات للأهتمام بالغذاء الروحي متوسط الجم والكلفة كالرواية مثلا ن فاتت بحجم يتلائم تماما مع وقته المتاح .
أما في عصرنا الحالي حيث الآلاف من الفضائيت التي تبث عن طريق الأقمار الصناعية التي تغطي كل الكرة الأرضية، والتوصيف والتعريف بأدق تفاصيل عادات الشعوب والقوميات وتقاليدها وشكل معمارها وحتى نوعية المأكل والملبس لكل منها، وحتى لشكل غرف الضيافة وغرف النوم والحدائق والمتنزهات والشوارع والساحات، والثورة الهائلة التي أحدثها الانترنيت وسهل التواصل بين شرق الأرض وغربها خلال ثوان معدودة، وبث الملايين من اليوتيربات التي تتناول أشكال وعادات وطرق حياة كل شعب من شعوب العالم من الاسكيمو الى اقصى غابات أفريقيا .
كذلك تميز عصرنا الحالي عصر العولمة الرأسمالية بهيمنة ثقافة الاستهلاك وتسليع كل شيء، مما خلق حاجات متزايدة في حياة الانسان اليومية، توفرها كنار تلنهم وقت الانسان المعاصر من أجل توفر الحد الأدنى منها.
هذا الواقع يتطلب المزيد من ضغط الوقت لكل فعالية إنسانية، في عالم لاهث راكض، خاطف السرعة في كل شيء في العمل والأكل والحديث والتمتع بما هو كمالي ومن ضمنه الغذاء الروحي للأنسان كالافلام القصيرة والكتب المختصرة ومنها الرواية لتكون بحجم يناسب وقت وجيب المتلقي للأنسان الراكض دوما، وهنا كما نرى يطرح الواقع نوعا شديد الاختزال من الرواية وما اسميناه ب الرواية القصيرة جدا ...
حيث وفر الواقع العلمي والثقافي للروائي المزيد من أمكانية الحذف والاختزال لما اصبح شائعا ومعروفا ومتداولا بين الناس من شكل الملابس وتوصيف المساكن وأثاثها، وتوصيف شخصية البطل بأقل الكلمات، وعدم وجود حاجة الى الأسهاب في سرد الحوار المضمر الداخلي للفرد التي تعبر عن مشاعره وهواجسه وتطلعاته حيث أصبح الانسان في العالم الرأسمالي معلوم الهواجس للمثقف وللعامل والرأسمالي والطالب والرجل والمرأة، وكذلك في العالم الثالث أو مايسمى بعالم الأطراف، فاختزال هذا الكم الهائل من الأشكال والمشاعر والتصورات التي إستبطنها القاريء المتلقي من خلال وسائل التواصل الأجتماعي والفضائيات واسعة الأنتشار فلا داعي أن يعرضها الروائي أمام انظار القاريء، نعم لاحاجة لي بما تعرضه لي بما يشرب ويلبس ويسكن ويفكر أنا الأسيوي صديقي من فرنسا الذي ألتقيه كل يوم عبر الصورة والصوت بواسطة الأنترنيت وربما أعرف أدق التفاصيل حول حياته الشخصية وحتى حياة عائلته .
فحينما يذكر الروائي برج ايفل أو الساحة الحمراء أو نصب الحرية في العراق أو ناطحات السحاب أو مسرح البولشوي، سرعان ما تظهر بكل وضوح كل تفاصيلها في مخيلة المتلقي لأنَّه تعرفها أما من خلال سفره الذي اصبح ميسرا لأغلبية الناس أو من خلال الفضائيات، وكذلك عند ذكر اسم أحد الأعلام في السياسةأو الأدب أو الفلسفة في العالم مثل جيفارا او ماركس او جورج واشنطن أو بوتين أو ماكرون أو بايدن أو نيرودا واراغون وكذلك مشاهير الرياضين تحضر كل تفاصيل وتاريخ هذه الشخصية في مخيلة القاريء والمتلقي لأنه شاهدها ربما آلاف المرات في التلفاز وفي وسائل التواصل الأجتماعي حيث أصبح كل بيت في العالم لايخلو من جهاز التلفاز وتوفر شيكة الانترنيت وأمتلاكه لجهاز نقال ينقل له كل شيء ...
فعندما يتحث الروائي في عصرنا الراهن حول عمارة سكنية مثلا ليس بحاجة الى توصيف وعرض محتوياتها وتأثيثها ولكنه يكتفي بعضر (الماكيت) أي النموذج المصغر للعمارة دون الدخول في تفاصيل محتوياتها من حيث السلالم والتأثيث ووسائل الإنارة والتبريد والستائر ... الخ كما كان يسرده بأدق التفاصيل الروائي في العصور السابقة على العولمة، حيث أن المتلقي قد استبطنها مسبقا من وسائل التواصل الحديثة أو عن طريق السفر المتيسر .. فلاحاجة الى توصيف الشخصية سوى ذكر علاماتها الفارقة ...
وبذلك فالرواية القصيرة جدا بحجمها المختزل كثيرا الى كتيب أو كراس جيب صغير لاتحتاج أكثر من وقت الجلوس في قطار سريع متنقل بين المدن أو زمن سفرة تمتد لساعة أو اكثر من بلد الى أخر أو سيارة على خط سريع، هذا الوقت المتاح للأنسان في عصر العولمة الحاضر، هذه الرواية التي لاتزيد كلماتها على 5000 كلمة ولاتزيد صفحاتها كما نرى على 50 صفحة وقد تكون اقل من ذلك بكثير، فالأنسان في عصرنا الحالي مشغول دوما بالعمل من أجل توفير متطلبات الحياة المادية اليومية، لاتترك له المشاغل اليومية ألا حيزاً محدودا جدا من أجل تأمين احتياجاته الروحية ومنها الرواية والفنون عموما ً.مما جعل الرواية القصيرة جدًا من متطلبات الحياة الواقعية الحالية لتوفير مايمكن من الغذاء الروحي للانسان، وحمايته من الوحدة والتوحد وجفاف الروح وتصحر المشاعر وغلاضة السلوك ..
فالرواية القصيرة جدا هي رواية وامضة وليست قابضة يكون السائد فيها التلميح وليس الأسهاب والتصريح، شخصياتها الثانوية خفيفة الظل مختزلة الكلام ومؤقتة المقام أثناء تواجدها في متن الرواية، تقول ما عندها بما قل ودل وترحل مسرعة حتى لايفوتها قطار السرد فائق السرعة ولايتضايق منها القاريء المتلقي . وهي لاتمسك بالقاريء لوقت طويل لساعات طويلة وربما لأيام كما في الرواية الطويلة والرواية القصيرة ..
وهنا بالضبط تكمن الصعوبة بالنسبة لكاتب الرواية القصيرة جداً تفوق صعوبة كتابة القصة القصيرة جدا بكثير، حيث بجب أن يمتلك الروائي الحنكة والتجربة وقوة المفردة الموحية الجذابة حتى لايسهب مراعياً شروط الرواية المعروفة كتعدد الشخصيات، وتحولات الأحداث ـ وتغيرات الزمان والمكان على الرغم من الألتزام بالاختزال الشديد والتكثيف، مع عدم التفريط بالمضمون العام للرواية، أي أن يتمكن الروائي من تقديم وجبة غذاء روحية غنية بالمضمون وبالشعرية اللغوية بأقل عدد مكن من الصحون والمقبلات.
وبذلك فنوع الرواية القصيرة جدا رشاقة لاتعني الهزال،ومضمون يستدعي سعة الخيال وحبكة لاتفرط باشتراطات جنس الرواية .
في الختام أو أن أنوه الى مايلي:
- أنا لا أدعي إني أول من كتب هذا النوع من الرواية فبالتأكيد قد كتب بعض الأدباء في العراق وخارجه الرواية ضمن الأشتراطات التي ذكرتها في هذا المنشور أو ماسبقه، ولكن حسب علمي ليس هناك من عنون روايته بالرواية القصيرة جدا وطبعها في مطبوع كما فعلت أنا منذ 2019 حيث طبعة مجموعة روايات قصيرة جدا كما ارفقها مع مقالتي هذه، سأكون ممتنا لمن يمتلك معلومة تفيدني في هذا الشأن استجابة للامانة الأدبية حول سبق الريادة .
- يسعدني كثيرا أن تحفز مقالتي هذه الزملاء النقاد وكتاب الرواية لطرح آرائهم وتصوراتهم حول هذا النوع من جنس الرواية سواء اتفقوا أو اختلفوا معي الى ماذهبت اليه، كلي أمل في أمكانية شرعنة هذا النوع الروائي وتقعيده ونشره والجمال والأبداع من وراء القصد .
***
الأديب حميد الحريزي – العراق