قراءات نقدية
جمال العتّابي: ظهر السمكة.. رواية يكتبها شاعر
نتوقف طويلاً عند رواية حميد قاسم (ظهر السمكة)، على الرغم من قلة عدد صفحاتها،(119 صفحة)، لا نقول عنها قصيرة، انما رشيقة، بامكان القارئ أن يكمل قراءتها خلال بضع ساعات، منشداً لأحداثها، ولغتها، يتأملها بدهشة وتساؤل: كيف تكون الحرب عاملاً في الابداع، الحرب فعل تدمير، تدمير كل شيء، الحياة، والذاكرة، كل الحروب، التي مرّت على البشرية، أو شاركت فيها، هي ضد الانسان، والحرب اعتداء، مهما قدّمت له من مبررات.
من هذا المعنى للحرب، تبرز ضرورة التمييز بين من يصنع الحرب، أو بين من يتخذ من الحروب سبيلاً لقتل الآخر عندما لا تسعفه السبل الاخرى الأقل ضرواة.
حميد قاسم الشاعر، يقف حائراً أمام هذه التساؤلات، في لحظة شروع لكتابة نص، من أي جنس؟ انه لأمر يفوق التصور أن يكون الكاتب شاهداً على حرب يخوضها مكرهاً، مع الآلاف الذين ساقوهم لمحرقة ليست ذات معنى، الكاتب يريد أن يبوح بحكايات من أحترقوا في المواضع، أن يختزل العذاب، وترقب الموت، بلغة مكثفة، موحية، معبرة، صادقة" ماذا أفعل؟ أنا مصمم على كتابة رواية، رواية مثيرة، ليس لي سوى أن اكتبها بالطريقة الوحيدة التي أعرفها"،
بعد عقود من الزمن يستعيد حميد المشهد، منذ ان راح مسرعاً لبيت عمته في مدينة الثورة، وقد جيء بابنها (علي) ملفوفاً بالعلم العراقي، شهيداً في معارك شرق البصرة عام 1982. كان حميد مندهشاً لتماسك عمته ورباطة جأشها، حين وضعت رأسه في حجرها، حدّقت في عينيه المغمضتين، سحبت رأسه صوب صدرها بهدوء مميت، أخرجت بيدها الاخرى ثديها الضامر الأعجف، واسندت رأسه الى صدرها، مدّت اصبعها الوسطى والسبابة الى فمه لتفتح شفتيه قليلا، انحنت على وليدها القتيل، ودسّت حلمة ثديها بين شفتيه المنفرجتين لترضعه.
هذه الصورة وحدها قادرة ان تنقلك الى الايقاع المأساوي لواقع الحدث، بابداع نمط سردي، بسيط غير معقد، في تعدد المشاهد، والانتقال من مكان الى آخر، لا يفقد فيه السياق السردي تواليه، ولا ينغلق، في محاولة لبناء فضاء قائم على تكرار المشهد، ينعطف، يستدير، كما الرؤية، أو كما الرصاصة، وقذيفة المدفع التي تستهدف الجميع تقتلهم.
لحظة الكتابة تبدأ منذ ان عثر الكاتب مصادفة، على دفتر يوميات صديقه (سليم غانم سلطان)، ورفيقه في الراقم 684، اليوميات كانت منقذه الوحيد، لتحقيق حلمه القديم في نبش صندوق صديقه المهمل، وهو يتساءل: أترون انها لعبة ماكرة، لكنها لعبة ذكية لجأ اليها الكاتب، من دون ادعاء ان اوراق سليم، هي مذكراته، يمكن ان يقدمها كنص قابل للقراءة حسبما يعتقد، يقولها بتواضع، لانه الناجي الوحيد بين افراد فصيله من الجنود، لم يبق منهم سوى هذه الاوراق، بينما نجد في هذا النص بوصفه رواية، اللغة الشعرية المجنحة تعبيرها الأرقى، وشكلها الاسمى، يزدهر هذا النص الشعري على حساب السردي في أكثر من موضع، الجنود على مذبح الموت، ما من ملجأ يلجأون اليه تحاصرهم سيول الانهار، وهطول الامطار المتواصل، والريح العاصفة، ليس امامهم سوى الصعود الى قمة جبل يشغلها الخصم في الجبهات الامامية، يبدو مظهره من بعيد على شكل ظهر سمكة. في هذه اللحظة نفسها كانت القذائف تمشط الفضاء وسط سيول الامطار المنهمرة، واصوات الرعد التي تعقب البروق المتواصلة، يخرج سليم من الملجأ قبيل الفجر، يمم وجهه صوب بغداد، وكل المدن التي تمتد على خارطة البلاد، من هذه النقطة معلقاً بين المطر السماوي والطوفان الارضي:
" اواه يا بغداد المدينة التي تشبه أجمل النساء، نعم المدن نساء، نساء طيبات، أمهات في العادة، مع قليل من الاستثناءات، استعيد بغداد كمدينة نافرة لم تفلح الحروب في اخفاء اشراقة وجهها الحزين، او شعرها المتهدل المسترسل، مثل اغصان الصفصاف عى ضفاف دجلة."
ظهر السمكة، المكان الآمن الذي لجأ اليه الجنود الايرانيون، والعراقيون، في لحظة جنون الطبيعة، وفّر لهم الأمان، بعد ان كانا يتبادلان رصاص القتل قبل ساعات، لا معنى للموت، والقتل على ظهر السمكة، لا معنى للحرب كذلك، عشرون (مقاتلاً) من الجانب العراقي، وثمانية من الجانب الايراني، غاب عنهم السؤال عن الموت الذي كان يتربص بهم قبل حين، في موضع السلام الجديد، يتبادل بعضهم نفس اللغة مع الجنود العراقيين، يتشابهون، في اللهجة والسحنة، يحبون الاغاني، والشعر، تتشابه وجوه الامهات، ومشاعر حب للنساء، وحنين للأولاد، وربما الطباع والهوايات.
وسط حالات الوجوم والترقب، يسود القلق والخوف، وهم يواجهون مصيراً واحداً، يتقاسمون بقايا الخبز اليابس كأصدقاء، عيونهم لا تقوى على المسرات، فتدمع نزفاً كالمطر، يرددون : كلنا لانتهاء، حين يأتي مخاض الحروب، وأثناء لحظات ضجر، وتساؤل عن المأزق الذي وجدت المجموعةنفسها فيه :
" توهمنا اننا في مملكة مستقلة بين جمهوريتين تتقاتلان على امتداد 1458 كيلو متراً، باستثناء مئات الامتار تحيط بموقعنا هذا، يجهل الطرفان الموجودان هنا، سببه أو نهايته."
تنسحب مياه السيول عن المواضع الاولى، فيترك الجميع ما في ايديهم، وبلا شعور، تفرّق 28 جندياً عراقياً، ايرانياً، عشرون منهم يحدقون في الافق الغربي، فيما يتطلع الثمانية المتبقون صوب الجبال المهيبة المتلفعة بالضباب من جهة الشرق، الشفلات تتقدم نحوهم من جهتين متعاكستين، صوب الراقمين، تتوجه الهاونات بوقت واحد صوب المكان، الاوامر واحدة، الهدف واحد، لا اختلاف سوى لغة ايعاز القتل (شليك كن)، بالفارسية، و(ارم) بالعربية. الموت والجحيم، يفغران، يا هولهما! هنا نهاية الرواية، اختزال الصورة الوحشية للآتي المثير، المرعب.
(ظهر السمكة)، تحريض ضد حرب لا حق واضح فيها، ولا باطل واضح، هل كانت نهايتها انتصاراً للحرب؟ أم ان الموت انتصر على الحياة والزمن؟ ولئن كانت الكتابة الابداعية هي، أساساً تعبيراً عن مأساة، بمعنى انها تعبير عن انتصار وهمي على موت حتمي، فان هذه المأساة تزدوج في الحروب، لان القتل موت يتقدم الموت، وان تواجه الكتابة الحرب، هي ان تواجه موتاً في موت، وأن تكون لغة لمأساة مزدوجة.
***
جمال العتّابي