قراءات نقدية
حسين عجيل الساعدي: "بُلبالة" السومرية.. شاعرة أم مغنية؟
تعتبر حضارة وادي الرافدين، رائدة في مسيرة الحضارة الإنسانية، فمنذ الألف الرابع قبل الميلاد، وهي الأكثر تأثيراً في الحضارة الإنسانية، ومن فضائل هذه الحضارة أنها أبتدعت الشعر، ولم يسبقها فيه سابق.
في القرن التاسع عشر الميلادي، ظهر أهتمام متزايد في تاريخ بلاد الرافدين من قبل علماء الآثار الغربيين، من خلال القيام بأعمال تنقيب بحثاً عن أدلة مادية لإثبات صحة الروايات التوراتية في كتاب العهد القديم.
في عام 1845م قام عالم الآثار البريطاني "أوستن هنري لايارد" بأعمال التنقيب في منطقة كالح/النمرود، في نينوى، عثر على مواقع وردت أسماؤها في التوراة. ونتيجة التنقيب تم العثور على الموقع الحقيقي لمدينة نينوى مابين عامي 1846 و 1847م، وعلى مكتبة الملك الآشوري "آشور بانيبال" (668-627 ق.م)، وألواح طينية تضمنت نصوص مسمارية ترجم بعضها عالم الآثار البريطاني "جورج سميث" ومن هذه الالواح قصة آدم، الطوفان الكبير، ملحمة الخلق، ملحمة كلكامش وغيرها من القصص. مما شجع الكثير من البعثات التنقيب في البحث عن مواقع أخرى ذكرت في التوراة. علماً أن هذه القصص لم تكن قصصاً أصلية عندما ورد ذكرها في (سفر التكوين) أو في (سفر نشيد الأنشاد)، في كتاب التوراة، بل هي حكايات رافدينية كُتبت قبل كتابة التوراة، الذي كان يُعتبر أقدم كتاب في العالم، لأن الحضارة السومرية كانت سباقة في إبداع الاشعار وأغاني الحب.
ومن الأستكشافات التي تم العثور عليها قصيدة (الحب من اجل شو–سين) التي تنسب الى الشاعرة أو المغنية السومرية "بُلبالة" مدوّنة على لوح طيني بالخط المسماري، يعود تاريخه إلى الألف الثالث قبل الميلاد، عام 2100 قبل الميلاد، أي أنها كتبت قبل ما يقرب من خمسة آلاف عام، والتي تُعتبر أقدم قصيدة حب كُتبت في التأريخ، بل الأقدم والأولى في التاريخ بعد أكتشافها في نينوى. ويعتقد علماء الآثار أنها أول من غنت في التاريخ، وكان ذلك في عام 3500 ق.م. فهي مغنية وموسيقية وراقصة في معبد عشتار. ومن المحتمل أن يكون مدوّنين عبرانيين أقتبسوا قصيدة "بُلبالة" وأعادة صياغتها أثناء فترة سبيهم في بابل، ثم أدراجها في التوراة تحت مسمى (سفر نشيد الأنشاد) أو المعروف باسم (نشيد سليمان)، وعليه لم يعد (سفر نشيد الأنشاد) أقدم قصيدة حب كُتبت في التأريخ، بل هو سفر مقتبس عن قصيدة الحب السومرية، وليس العكس، لأنها أقدم من التوراة في الظهور.
عندما عُثر على اللوح المسماري لهذه القصيدة في نينوى، نُقل مباشرة إلى متحف "آركولوجي" في إسطنبول/تركيا، حيث حُفظ في أحد أدراج المتحف، ولم يحاول أحد التعرف عليه أو ترجمته. وفي عام 1951م ، حضر الى المتحف عالم السومريات الشهير "صموئيل نوح كريمر"
(1897-1990)، لترجمة بعض النصوص القديمة، فوجد قصيدة حب سومرية منقوشة على لوحة مزخرفة، تشيد بالجمال والحب، ومن أبيات موزونة، يصف "كريمر" تلك اللحظة في كتابه (التاريخ يبدأ في سومر)، من خلال المقطع التالي:
(كان اللوح الصغير الذي يحمل الرقم 2461 مُلقى في أحد الأدراج، محاطاً بعدد من القطع الأخرى، وعندما وقع نظري عليه لأول مرة، كان محتواه قد جذبني اليه بقوة. سرعان ما أدركت أنني كنت أقرأ قصيدة شعرية إباحية، مقسمة إلى عدد من المقاطع التي تتغنى في الحب والجنس والجمال بين عروس سعيدة، وملك يدعى (شو ـ سين) الذي حكم أرض سومر منذ ما يقرب من أربعة آلاف عام. قرأتها مراراً وتكراراً، لم يكن هناك خطأ في مضمونها. ما حملته في يدي كان من أقدم قصائد الحب التي كتبتها يد إنسان)، "صموئيل كريمر، التاريخ يبدأ في سومر، ص 245". هذه القصيدة لم تعتبر مجرد قصيدة حب بل كانت جزء من الطقوس المقدسة التي تُجرى كل عام، والمعروفة باسم (الزواج المقدس)، الذي يتزوج فيه الملك رمزياً من الإلهة "إنانا"، وذلك لضمان الخصوبة والتكاثر في العام الذي يليه. كتب "كريمر" عن هذا الطقس، التعليق التالي:
(يُجرى هذا الطقس؛ مرة واحدة في السنة وفقاً للاعتقاد السومري. وكان الواجب المقدس للملك أو الحاكم، الزواج من كاهنة المعبد للإلهة "إنانا"، إلهة الحب والإنجاب، من أجل ضمان خصوبة التربة والرحم)، "صموئيل كريمر، التاريخ يبدأ في سومر، ص 245".
يفسر البروفيسور البريطاني ”جيريمي بلاك” القصيدة بنفس المعنى، فكتب تعليق عنها: (هذه واحدة من عدة قصائد شعرية عن الحب، مُؤلفة خصيصاً لهذا الملك، والتي تعبر عن مدى علاقته الشخصية الوثيقة جداً مع إلهة الحب والجمال "إنانا". في بعض القصائد من هذا النوع ؛ يبدو أن اسم الملك يُذكر خلال مراسيم الطقس فقط، بدلاً من "ديموزي" عاشق "إنانا" السماوي في الأساطير. ومن شبه المؤكد أن القصيدة تُلقى في سياق بعض الطقوس الدينية التي يشار إليها بأسم (الزواج المقدس)، يميل الأعتقاد الى أن الملك عندما يرتبط بعلاقة حميمية مع الإلهة، هذا يعني حتمية الإيمان بألوهية ملوك تلك الفترة)، "صموئيل كريمر، التاريخ يبدأ في سومر، ص88-89".
إن إلقاء القصيدة من قبل (العروس)، يعتبر خدمة وظيفية دينية في الدولة بغية الأستمرار في الخصوبة وتكاثر النسل. ويُعتقد أن إلقاء القصيدة بصوت أنثوي، له تأثير محبب لدى المتلقي، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالعبارات الرومانسية. غيّر هذا الإنجاز الأثري، الطريقة التي يمكن بها فهم التاريخ والعالم القديم.
تولى "شو- سين" العرش ملكاً على مدينة أور عام (1972 ـ 1964 ق.م)، فهو الأبن الأصغر للملك "شولچي" الذي حكم مدينة أور (2029-1982 ق.م). والدته أسمها ”بسمتي”، وزوجته “كوباتوم”. وحسب رأي البروفيسور ”ستيڤن پيرتمان” (كان شوـ سين من الذكور الذي له صلة مع مجموعة من القصائد المثيرة خلال المرحلة الأكدية، والمكتوبة على شكل حوارات، مشابهة لسفر (نشيد الأنشاد) التوراتي الذي كُتب فيما بعد)،"نفس المصدر السابق ص105".
تقام مراسيم الزواج المقدس في البلاد وتحت أشراف الكهنة، وكان زواج الملك الأله من الكاهنة (الألهة) يتم في جناح خاص في المعبد، يعد فيه للمتزوجين سرير، ويجهز بفراش وثير وأغطية جذابة، وعندما يتم تقديم الملك الى عروسه تبدأ الأخيرة بترديد أغنية عاطفية تتضمن دعوة سافرة الى (الوصال الجنسي) بأعتباره العنصر الأساسي الذي تدور حوله عقيدة الخصب، وما تمخض عنها من طقوس، وخلال هذه الأغنية التي هي أنشودة “بُلباله” لإنانا التي تبوح بها العروسة الى عريسها الملك والمعبرة عن شوقها العميق وعن فرحها بلقائه ومن ثم تدعوه الى أن يبادلها (الحب) على سرير الزواج.
تقول "بُلبالة" السومرية في قصيدتها، والتي يظهر من خلالها أنها كانت تغني ضمن فرقة "إنانا" في البلاط السومري، الذي قام المؤرخ “صموئيل كريمر" بترجمتها من السومرية إلى الإنكليزية، ثم بعد ذلك ترجمها المؤرخ العراقي “طه باقر” إلى العربية عام 1983، بصيغة تُذكر ب“نشيد الإنشاد”. وقد ترجمت بالشكل التالي (الحب من اجل شو–سين)، وهي كما وردت في كتاب (التأريخ يبدأ في سومر، لمؤلفه صموئيل نوح كريمر".
هذا النص المكتوب يتوفر على أعلى المقومات الفنية للقصيدة الشعرية، فعلاقة الحب التي تتحدث عنها الأغنية السومرية، تأتي في سياق وبناء شعري متقدم، من خلال التكرار والتقطيع. تخاطب "بُلبالة" فيه حبيبها وهي عاشقة راعية، بينما المعشوق هو الملك، قائلة:
(أيها العريس الحبيب إلى قلبي
جمالك باهر حلو كالشهد
أيها الأسد الحبيب إلى قلبي
جمالك باهٍ حلو كالشهد!
لقد أسرت قلبي فدعني
أقف بحضرتك وأنا خائفة مرتعشة.
أيها العريس! سيأخذونني إلى غرفة النوم
لقد أسرت قلبي فدعني
أقف بحضرتك وأنا خائفة مرتعشة
أيها الأسد ستأخذني إلى غرفة نومك،
أيها العريس دعني أدللك
فإن تدليلي طَعِم وشهي
وفي حجرة النوم الملأى بالشهد
دعنا نستمتع بجمالك الفاتن.
أيها الأسد، دعني أدللك
فإن تدليلي أطعم وأشهى من الشهد!
أيها العريس! لقد قضيت وطر لذتك مني
فأبلغ أمي وستعطيك الأطايب
أما أبي فسيغدق عليك الهبات
وروحك، أنا أعرف كيف أبهج روحك،
وقلبك، أنا أعرف كيف أدخل السرور إلى قلبك!
أيها العريس، نَم في بيتنا حتى انبلاج الفجر،
أيها الأسد، نم في بيتنا حتى انبلاج الفجر،
وإنك لأنك شهواني
هبني بحقك شيئاً من تدليلك وملاطفتك.
يا مولاي الإله، ويا سيدي الحامي
موضعك جميل حلو كالشهد فضع يدك عليه
قرب يدك عليه كرداء الجشبان
أوقفني وأمسك بقدمي
كان لمعانه شديدا
رجل ولا كل الرجال
وفي جميع البلدان
كانت روعته هي الأكثر جمالا
جرني إلى أسفل الجبل
وأعطاني ماء لأشرب
وكان قلبي مسرورا)
تنحو هذه القصيدة منحى إيروتيكياً، وهذا ليس مستغرب في ذاك الزمن، خاصة أن طقوس (البغاء المقدس)، كانت معروفة ومنتشرة، لذا كان الوصف الغريزي الجنسي حاضراً مع الوصف العاطفي. تصف الشاعرة شعورها بعد لقائها بحبيبها وهي تقول في صيغة ذات رموز وأيحاءات إيروتيكية:
(أوقفني وأمسك بقدمي
كان لمعانه شديدا
رجل ولا كل الرجال
وفي جميع البلدان
كانت روعته هي الأكثر جمالا
جرني إلى أسفل الجبل
وأعطاني ماء لأشرب
وكان قلبي مسرورا)
في سفر "نشيد الأنشاد" في العهد القديم يعتبر النقاد إن أكثر الآيات في هذا السفر آيات إباحية، تتناغم مع نص قصيدة "بُلبالة":
1- لِيُقَبِّلْنِي بِقُبْلاَتِ فَمِهِ، لأَنَّ حُبَّكَ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ.
2- مَا أَجْمَلَ رِجْلَيْكِ بِالنَّعْلَيْنِ يَا بِنْتَ الْكَرِيمِ! دَوَائِرُ فَخْذَيْكِ مِثْلُ الْحَلِيِّ، صَنْعَةِ يَدَيْ صَنَّاعٍ.
3- سُرَّتُكِ كَأْسٌ مُدَوَّرَةٌ، لاَ يُعْوِزُهَا شَرَابٌ مَمْزُوجٌ. بَطْنُكِ صُبْرَةُ حِنْطَةٍ مُسَيَّجَةٌ بِالسَّوْسَنِ
4- ثَدْيَاكِ كَخَشْفَتَيْنِ، تَوْأَمَيْ ظَبْيَةٍ.
من الملاحظات التي أثارها “صموئيل كريمر" حول القصيدة، وجد فيها الكثير من الشبه بين النص السومري القديم و "نشيد الأنشاد" في كتاب التوراة، من خلال أستخدام نفس المفردات، أضافة الى أن النص (يجمع بين الحوار والمونولوج، وتُختتم مقاطعهُ باللازمة التي يرددها الكورس).
يرجح "كريمر" بأن "نشيد الأنشاد" هو (نص منقح ومُطور عن نصوص سومرية)، كما أنه يضع فرضية (أن يكون العبرانيون قد أطلعوا على هذه الأناشيد في مرحلة السبي البابلي، ثم حملوها معهم إلى مصر ثم فلسطين).
تُنسب قصيدة (الحب من اجل شو – سين) إلى الشاعرة أو المغنية "بُلبالة السومرية" التي لا نعرف عنها إلا القليل، ولا يمكن الجزم هل أنها شاعرة ام مغنية؟ وذلك لشحة المصادر التاريخية حولها، فقط الذي يعرف عنها أنها كانت مغنية ضمن فرقة "إنانا" للإنشاد، وكانت تغني في البلاط السومري أواخر القرن الثالث قبل الميلاد، أي حوالي 2100 ق.م. وقد ورد ذكر أسمها في نهاية القصيدة: (إنها قصيدة غناء بُلبالة.. من قصائد إنانا).
كذلك يتكلم بعض الباحثين ومنهم الآثاري “صموئيل كريمر" عن هذه القصيدة أنها ليست من نظم "بُلبالة" فهي على أغلب الظن أنها من نظم إحدى البغايا المقدسات اللواتي كن يخدمن في أحد المعابد البابلية.
***
بقلم: حسين عجيل الساعدي
...................
- صموئيل كريمر، التأريخ يبدأ في سومر، ترجمة ناجية المراني.
- صموئيل كريمر، الواح سومر، ترجمه طه باقر
- صموئيل كريمر، أساطير سومرية. ترجمة يوسف داود عبد القادر.
- د. إحسان هندي، أشهر شاعرات الحب في بلاد الشرق والغرب
- د. فاضل عبد الواحد علي، عشتار ومأساة تموز
- د. فاضل عبد الواحد علي، سومر أسطورة وملحمة
- د. فوزي رشيد، الأمير كوديا
- سفر نشيد الأنشاد، العهد القديم