قراءات نقدية
سيميائية الأبوّة في رواية على كفّ الأمل أزهرتُ للكاتبة الجزائريّة صليحة زروقي (1)
يقول د. زكي نجيب محمود في مقال له بعنوان " العرب والأدب المسرحي " (.. وناقد الادب – او قل ناقد الفنون بصفة عامة – ينبغي ان يجمع في نفسه نفس مفستوفوليس(2) ونفوس الملائكة جنبا الى جنب، وإنما أردت بذلك شيئا يمكن التعبير عنه بلغة أبسط، اذ اردت ان اقول، إن ناقد الأدب لا بد له من قراءة القطعة الأدبيّة التي هو بصدد ها مرتين: فيقرؤها مرة أولى قراءة الملائكة التي تنصرف بجمال الحياة عن حقيقة عناصرها، ثم يقرؤها مرة ثانية فراءة مفستوفوليس الذي يغوص الى اذنيه في تحليل الحياة الى عناصرها فلا يلتفت الى سحرها وجمالها)
(لا بد للناقد من قراءتين،يستمتع بأولاها ويتذوق، ويحلل بأخراها وينقد، هو في القراءة الأولى يستسلم للمؤلف استسلام الطفل الغرير، وفي القراءة الثانيّة يتصدى له تصدي الخصم العنيد، وهي خصومة قد تنتهي بالود والإخاء) ص 101 – 102. (3).
و بما أنّ العنوان هو العتبة الرئيسة للنص الأدبي بصفة عامة، فقد اختارت الكاتبة صليحة زروقي، عنوانا يحمل في مضمونه روح التفاؤل بغد مشرق. فيه من الأمل بالفرج والميلاد، ما في الطبيعة من الإزهار بعد جدب وجفاف. وهو دليل على عشق البطلة (ياسمين) للحياة، رغم ما واجهته من مآسٍ وكربات نفسيّة، وصدمات اجتماعيّة قويّة، بعد موت أبيها بعيدا عنها، وعن مسقط رأسه وموطنه. لقد كان الأمل سفينتها المبحرة في خضم بحر الحياة، الذي أنقذها من الغرق في قاع التشاؤم المميت..
كما عكس لون الغلاف الرمادي، المزهر، جانبا من نفسيّة البطلة (ياسمين). وهي نفسيّة تأرجحت بين اليأس والأمل، بين القلق والثبات، بين الصبر الجميل والتبرّم والكآبة..
و من هذا المنطلق، سأتناول رواية، أو لنقل السيرة ذاتية " على كفِّ الأمل أزهرتُ " للكاتبة السرديّة الجزائرية صليحة زروقي، الصادرة عن دار حمدة للطباعة والنشر في طبعتها الثانية سنة 2022 م. وهي معمار سرديّ عدد صفحاته 156 ص، وسأدلي فيها بدلوي، بنبرة أجمع فيها بين الناقد والخصم العنيد، ونبرة الاستسلام للمؤلف كالطفل الغرير.
احترت، وأنا أقرأ هذه القطعة السرديّة في نسبها وهويّة جنسها، أأتناولها على أنّها رواية بطلتها شابة، يتيمة الأب، فقدت والدها – الذي توفي في رحلة أداء مناسك الحج – في طفولتها، ذاقت مرارة العيش، وتجرّعت من كأس اليتم، وعاشت محرومة من حنان الأبوّة ورعايتها، وجابهت الحياة القاسيّة بكل قوة وعزم وإصرار، فانتصرت تارة وانكسرت تارة أخرى؟ أم أتناولها كونها سيرة ذاتيّة لشابة فطمت على قساوة العيش وصدمات الواق المعيش، لكنّها صبرت ونجحت وانتصرت على وساوس النفس الأمّارة بالسوء، وعلى محيطها الاجتماعي المحفوف بالمخاطر والتنافضات والمثبّطات؟
ومهما يكن، فإنّ القاريء لرواية أو سيرة الكاتبة والمبدعة صليحة زروقي، سيكتشف – لا محالة – أنّه أمام قلم سرديّ واعد ومتمرّس في رصد الواقع المعيش، وهذا ما يذكّر القاريء الذوّاق بالمدرسة الواقعيّة في الأدب الروسي - قبل ثورة البلاشفة على القيصر – وقاماتها الأدبيّة السرديّة من أمثال: ديستويفسكي وتولستوى وتشيخوف وغوركي ؛ فقد كانت أحداث رواياتهم ملتقطة من واقعهم المعيش، لكن بعيون أدباء مبدعين وعباقرة. فأحداث هذه الرواية / السيرة الذاتية، كلّها – على ما يبدو - ملتقطة من يوميّات الواقع المعيش، إلى درجة، أنّ الكاتبة، طفقت تنقل للقاريء أحداثا – وما أكثرها – عاشتها حقيقية، أو عاشها جيرانها وأصدقاؤها، في أزمنة معيّنة، الطفولة، الشباب، قبل التخرج وبعده، وأمكنة معلومة.، البيت، الحيّ، المدرسة، الجامعة...
إنّ الخيط الذي ربط أجزاء الرواية / السيرة الذاتية، هو وفاة الأب في رحلته إلى الحج. وهي العقدة التي بقيت دون حلّ أو تنوير إلى نهاية السرد.
وبين ضميري الحاضر (ياسمين)، والغائب (الأب). تتفاعل الأحداث لترسم لنا لوحة تراجيديّة، تعبّر عن معالم الغياب القسري وأثره السلبي والإيجابي في أعماق النفس الإنسانيّة. و– لعمري – غياب الجانب الأبوي، بما يحمله من زاد معنوي للبنت أو الإبن. لقد ترك غياب) موت) والد ياسمين فراغا نفسيّا وعاطفيّا رهيبا، فضلا عن الفراغ المادي. المتمثّل في توفير ضرورات الحياة اليوميّة.
لقد تبوّأت شخصيّة الأب مكانتها الفطريّة المناسبة في حياة البنت والشابة (ياسمين). وكانت هي الشخصية الثانويّة الحاسمة، بل لا يقلّ دورها عن الشخصية الرئيسة (البطل) في نسج أحداث الرواية / السيرة الذاتيّة وتحريكها، وقد ارتقت – فنيّا - إلى مستواها من أول النص إلى خاتمته. وبالعودة إلى رمزيّة اسم البطلة (ياسمين)، فهو دال على الرومانسية والنعومة. وقد ارتبطت زهرة الياسمين بالشعراء الرومانسيين، من أمثال نزار قباني، وبأماكن ساحرة كمدينة دمشق التي سميّت " مدينة الياسمين ". والياسمين زهرة قنوع، لا تحتاج إلى ما كثير وعناية كبيرة. وهكذا لم يكن اختيار اسم البطلة (ياسمين) اعتباطيّا، بل هما وجهان لعملة واحدة.
و تبرز شخصيّة الأب (الغائب) بجسده، الحاضر- مطلقا – بروحه وأخلاقه الساميّة، وعلى لسان كلّ من عرفه وتواصل معه، وفي حياة ابنته ياسمين (الحاضرة)، طاغيّة على تصرفات (ياسمن).. فلم يستطع النسيان ولا تعاقب الأيام والليالي، أن تنسيها آلام ذلك الغياب والفقد، بل ولم تمنحها هدنة للملمة تلك المشاعر السوداويّة، التي اتّخذت من اعماقها مأوى أبديا لها، ولم تقو حوادث الدهر، بما فيها من لحظات معسولة، على تطبيب الجراح الغائرة التي استعصت على كل بلسم شاف.
لقد كانت العلاقة بين الأب الغائب (الحاضر) والبنت (ياسمين)، علاقة صوفيّة خالصة. وهي تنمّ عن ميزة فطريّة وطبيعيّة في الإنسان خاصة، وهي تعلّق الأبناء بالآباء والأمّهات، وتغلّق الآباء والأمهات بأبنائهم، في صورة برّ الوالدين في حياتهم ومماتهم، وحضانة هؤلاهم لأبنائهم عاطفيّا وماديّا.
وهي علاقة بعيدة، كل البعد، عن الفلسفة الغربيّة، القائمة على الترّهات النفسيّة في الفكر الغربي. وعن عقدة إليكترا عند الأنثى، والتي تعني تعلق الفتاة اللاواعي بوالدها..
جاء في الصفحة 28: ".. كنت حزينة جدّا يومها وكأنّ إحساسي أنبأني أنّها كانت آخر فرصة لأحظى بعناق وقبلة من أبي..". وفي ص 30: " لو أنّ للزمان كرة، لكنت أخبرتك كل لحظة كم أحبّك وكم كنت فخورة بك وكم كنت والدا رائعا في عيني، لا تتشوّه صورته في ذاكرتي مهما قالوا أو حكوا لي عنك عند الكبر.."
و في ص 31: " لو أنّ للزمان كرّة واحدة فقط يا أبتي، لكنت أخذت من عمري سنوات أزيدها في عمرك.. لتبقى معي زمنا أطول.. لتفرح الطفلة في داخلي بحبّك وتنهل من فيض عطفك وحنانك ذخرا لمواجهة مآسي السنين المتآكلة ".
كما لعبت شخصيّة الأب الغائب (الحاضر) دورا مركزيّا في الرواية / السيرة الذاتية. فقد كانت رمزا للمجتمع الأبوي، الذكوري الإيجابي، اللاقمعي. ولم يستطع حضور الأم وباقي أفراد الأسرة والعشيرة (الأعمام والأخوال والأجداد) ملء الفراغ المعنوي، الذي أحدثه غيابه المفاجيءعن الأسرة والأهل والجيران.
و بقدر ما كان غيابه وموته ودفنه بعيدا عن أسرته وأهله ومحيطه ووطنه - أي في مكّة المكرّمة - مؤلما وقاسيا، بقدر ما كان ذلك الغياب الأبدي، عنصر إلهام وقوّة وتحدٍ، للبطلة (ياسمين). فقد كان والدها الغائب، دائم الحضور في الأتراح والأفراح، في المناسبات وغير المناسبات. كان ظلّها الظليل، الذي لا يفارقها ليلا ونهارا، في غرفة المنزل، وغرفة الجامعة، وفي الحيّ، وأينما حلّت وارتحلت.. وهذا دليل آخر على قوّة الأبوّة الصادقة وأثرها في نفسيّات الأبناء البررة. بل هي منحة ربّانيّة، زُرعت بذورها المباركة، فأزهرت مودّة وحبّا وعشقا صوفيّا...
لغة الكاتبة: لا شك أن العمل الإبداعي، سواء أكان شعرا أم نثرا، لا بد أن تتوفّر فيه مقوّمات معيّنة. ومنها اللغة. إنّ أهم مقوّم هو اللغة، لأنّها حمّالة المعاني والأفكار. فقد جعل الجاحظ عمر بن بحر، الأسلوب (اللغة) هو الشأن لإقامة الوزن، بينما المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي والبدوي والأعجمي. فالأسلوب هو هويّة الكاتب وعنوان إبداعه.. ومن هنا كانت أسلوب الكاتبة زروقي صليحة، مرآة لقدرتها اللغويّة، وسلاسة الجملة السرديّة، الواقعة بين السهولة والامتناع..
و بقدر ما احتوت الرواية / السيرة الذاتيّة من إيجابيات، كالقاموس اللغويّ الثريّ الذي امتلكته، وتمكنها من ملكة السرد، وسلاسة أسلوبها الجميل، إلى درجة أن القاريء يشعر، وكأنّه أمام كاتبة متمرّسة وذات تجربة في ميدان السرد. بقدر مل فيها من مآخذ – لا تنقص من قيمة عملها الإبداعي، مثل: لجوء الكاتبة في فقرات من النص إلى أسلوب التقريريّة والوعظ والإرشاد، بأسلوب السيرة الذاتيّة ونمطها. مثل قولها - على سبيل المثال، لا الحصر - في ص 109: " الذكيّ منّا من يعرف كيف يستغلّ كل المواقف في الحياة لصالحه بشكل إيجابيّ، من يعطي لنفسه فرصة في الاستماع للبشر والتفتيش في حكاياتهم عمّا يرتقي بشخصه ويزيد من حكمته، الإنسان الرائع بنظري هو الذي يشعر بالامتنان حيال كلّ الصدف والأزمات والابتلاءات التي لم يضعها الله بدربه إلاّ لحكمة ترجى منها. "
و قولها في ص 139: " لكل واحد منّا قدر قد يرسم له. قدر لا يمكنك تغيير شيء فيه ".
كما لجأت الكاتبة صليحة زروقي إلى أسلوب التضمين في ص 140، تحت عنوان " قيد الأمل ". فقد ضمّنت كلامها نصّا لشاعر العربيّة، الفلسطينيّة، محمود درويش. ورأت أنّه نص يخدم نصها. وممّا قاله درويش فيه: (أعلى من الغيم إشراقا..و بي أمل..يأتي ويذهب لكن لن أودّعه).
***
بقلم: الناقد والروائي علي فضيل العربي – الجزائر
.....................
هامش:
1 - صليحة زروقي، كاتبة روائية جزائرية معاصرة، من ولاية الشلف
2 – مفستوفوليس
3 - قشور ولباب - ص 101 – ط – دار الشروق -1981.