قراءات نقدية
الزنزانة رقم 7.. سيرة ذاتية تمجّد الحُب والمقاومة وتشحذ الخيال
صدرت عن دار لندن للطباعة والنشر في العاصمة البريطانية السيرة الذاتية المعنونة بـ " الزنزانة رقم 7.. مذكرات سجين سياسي" للشاعر والروائي الأحوازي محمد عامر الذي سبق له أن أصدر أربع روايات وهي على التوالي: "الاغتيال"، "طيور الأحواز تحلّق عاليًا"، "سبعة أيام حُب"، و"ملحمة عِشق أحوازية". وتأتي هذه السيرة الذاتية بمثابة تتويج لجهده السردي الذي يتطوّر سنة بعد أخرى ليصل إلى هذا المستوى الاحترافي الذي يأخذ بتلابيب القارئ سواء أكان متعاطفًا مع القضية الأحوازية أو مُناهضًا لتوجهاتها ونبرتها التحررية، وسعي أبنائها المشروع لحق تقرير المصير.
يمكن قراءة هذه السيرة الذاتية كسيرة روائية أيضًا لما تنطوي عليه من ثيمة رئيسة وأفكار مؤازرة تصبُّ في النهر السردي الكبير وترفده بالكثير من الموضوعات السياسية والاجتماعية والعاطفية. كما تحتفي هذه السيرة بالعديد من الشخصيات المساندة لشخصية البطل كراويةٍ وكائن سردي في الوقت ذاته، وطبيعة تعالقه مع الحبيبة والأهل والأصدقاء والأقارب الذين يروون قصصهم وحكاياتهم الفردية والجماعية في آنٍ معًا. وقد وصل عدد الشخصيات إلى أكثر من 40 شخصية تدور في فلك البطل أو تحاذيه أو تتعاطى معه مُستجوبة أو مُقاصِصة أو مُحاورة؛ بعضهم يؤازره وينتصر له، وبعضهم الآخر يُبغضه ويناصبه العداء حينما يكون في بيئة عنصرية وشوفينية حاقدة.
تنقسم السيرة إلى 12 فصلاً تختلف أحجامها بحسب الأحداث والظروف المأساوية التي يمرّ بها البطل الذي يتبنى الفعل السردي الذي تشاركه فيه الأم تارة، وبعض الشخصيات الأخرى التي تدخل في حوارات مباشرة معه بوصفه الشخصية المحورية في النص السردي والعصب النابض فيه.
أدب السجون.. ثنائية الضحيّة والجلاّد
تنتمي هذه السيرة إلى أدب السجون تحديدًا الذي لا يختلف كثيرًا عن البلدان المجاورة التي تشترك مع إيران في ثنائية الضحية والجلاد وإن اختلفت درجات القمع والتعذيب ومصادرة الحقوق الفردية والجماعية.
يستطيع الناقد الحصيف أن يؤشّر بسهولة الثيمة الرئيسة لهذا النص السيري وهي التشبث بالمبادئ الوطنية والأخلاقية التي تحث صاحبها على التضحية بالغالي والنفيس من أجل الوطن والشرف والكرامة الإنسانية حيث يقول الراوية:"لابدّ من الاعتراف أنّ المبادئ التي اعتنقتها وانغرست في خلايا دمي وجوارحي هي التي دفعتني إلى هذا المكان". ويقصد به السجن بزنزاناته الفردية والجماعية التي تضعه أمام خيارين لا ثالث لهما "إمّا الموت، أو الخروج سالمًا"، ولا مجال للتأرجح أو المراوغة التي لا يسمح بها القائمون على السجون القمعية بعد أن أيقظوا الوحوش النائمة في أعماقهم وأشرفوا بأنفسهم على قتل ضمائرهم ومشاعرهم الإنسانية المُرهفة.
قبل الخوض في تفاصيل هذه السيرة لابد من الإشارة إلى أنّ قساوة بعض الضباط الأحوازيين من أصول عربية هي أكثر بكثير من فظاظة ووحشية الضباط الإيرانيين سواء من الفرس أو من بقية القوميات الأخرى التي تعيش ضمن حدود "الجمهورية الإسلامية الإيرانية" الحالية ويمكن الإشارة إلى عنجهية ووحشية الضابط الأحوازي عيسى عبيات الذي يصفه الإيرانيون بأنه كلب من كلاب رئيس إدارة السجون ينقل له أخبار الضباط والمراتب وكل ما يدور في أروقة السجن من حوادث مهما كانت صغيرة أو كبيرة.
من يقرأ روايتي "سبعة أيام حُب" و "ملحمة عِشق أحوازية" لمحمد عامر سيكتشف جانبًا من سيرته الذاتية المشرِّفة التي وصف فيها بصدق معاناته الشخصية في السجون الإيرانية ولكنه لم يرد الإشارة إليها كي لا يقع في "مطبّ" التكرار. ومن يعرف محمد عامر على الصعيد الشخصي سيكتشف من دون لأيٍ وعناء حُبّه للعراق والعراقيين، وربما للنَفَس العروبي الذي يكتنف هذه البقعة الجغرافية من العالم العربي، ولكن هذه المحبة العميقة سوف تهتز ما إن يُقدم النظام العراقي السابق على غزو الكويت واحتلالها للأسباب الاقتصادية والأخلاقية المعروفة التي برّر فيها هذا الاجتياح وأعاد العراق مئة سنة إلى الوراء في أقل تقدير.
إذا كانت الثيمة المركزية الأولى هي المبادئ التي اعتنقها الكائن السيري فإن الثيمة المؤازرة التي تأتي بعدها مباشرة هي مهنة الراوي وطبيعة عمله كمترجم من اللغة الفارسية إلى العربية، فهو من جهته يدّعي بأنه يعمل في دائرة التوجيه السياسي التابعة للاستخبارات العسكرية العراقية حيث يترجم نشرات الأخبار التي تبثّها محطات الإذاعة الإيرانية، والبرقيات المهمة والعاجلة، وخُطب الجمعة، وتصريحات كبار المسؤولين الإيرانيين، وأحيانًا الترجمة الفورية للاجئين والأسرى الإيرانيين الذين تمّ جلبهم إلى بعض معسكرات الأسْر العراقية. وقد ظلّ مواظبًا على المهنة طوال سنوات الحرب العراقية- الإيرانية حتى غزو الجيش العراقي للكويت في 2 أغسطس / آب 1990م واحتلالها كليًا خلال يومين حيث اشتركت قوات النخبة من الحرس الجمهوري وبسطت نفوذها على كامل التراب الكويتي وبحره وسمائه. هنا تتشكّل العقدة الثانية، أو الثيمة الموازية للقيم والمبادئ الوطنية التي يؤمن بها الكائن السيري وراوية النص حيث يرفض المشاركة بأي شكل من الأشكال في احتلال الكويت حتى وإن دخل إليها بصيغة مترجم بعد أن تسلّم كتاب الإيفاد ولم ينفّذه فعدّته السلطات الأمنية العراقية هاربًا وأخذت تطارده في منطقة الدجيلي التي يقيم بها الأحوازيون في مدينة "واسط" ويستجوبون شقيقته بوصفه مطلوبًا للعدالة وخارقًا للقوانين المرعيّة الأمر الذي يدفعه لأن يستجير من الرمضاء بالنار فيقرر الهروب من العراق والعودة إلى الأحواز ثانية حيث يُقبض عليه ويودع في سجون متعددة تبدأ بعبادان وتمر بسجن "القدس" في الأحواز وتنتهي بسجن كارون وما يتخللها من زنزانات وكرنتينات انفرادية منعزلة. وقد صدر عليه الحُكم بالسجن لمدة 13 عامًا وسوف يقضي ثلثي عقوبته في السجن ويُخلى سبيله بعد سبع سنوات عجاف وبضعة أشهر مليئة بالقسوة والمرارة والقرف.
في كلٍ منّا لسانَ لهيب وعمود دخان
هذا هو العمود الفقري للسيرة الذاتية المكتوبة بأسلوب تعبيري صادق وشديد التأثير لكنّ أهميتها كنص سردي تكمن في التفاصيل التي توزعت على 12 فصلاً قال فيها كاتب النص وبطله كل ما يعتمل في نفسه ويدور في خاطره، ولكن القرّاء كعادتهم قد يتفقون معه أو يختلفون مع آرائه وخاصة الإشكالية منها، ويستطيع كل قارئ أن يختبر الآراء الواردة في النص السردي على انفراد ويتوصل إلى النتائج المنطقية بعيدًا عن تأثيرات الكاتب وهيمنته اللغوية والأسلوبية إذا ما أعتبرنا هذا المتلقي قارئًا عضويًا يتفاعل مع النص السردي تفاعلاً حيويًا ولا يقبل بآلية التلقي السلبي ففي كل منّا، كُتابًا ومتلقين، لسان لهيب وعمود دخان.
على الرغم من الأجواء الإشكالية التي كان يعيشها الراوية في طفولته ويفاعته ومرحلة نضجه الفكري والنضالي إلاّ أنه لم ينسَ الحُب بوصفه إكسيرًا للحياة، ولم يتخلَ عن فكرته الرومانسية التي تتوهج في أعماقه، وتتلألأ في تلافيف دماغه فلا غرابة أن يحتضن هذا النص السيري قصتيّ حُب شهيرتين وإن لم ينتهيا نهاية سعيدة، وكلاهما ضمن الإطار الأُسَري، فالأولى هي قصة حُب والده، الشيخ عامر الذي كان في سن الخامسة عشرة ووالدته التي كانت تصغره بعامين لا غير. وسوف تنتهي هذه القصة، مع الأسف الشديد، بالانفصال والقطيعة رغم إنجابها لولد واحد وأربع فتيات. كما تنتهي قصة الراوية، وهو الذي يصف نفسه بالموظّف البسيط الذي أحبّ "حنانًا" وهي ابنة ضابط ركن كبير في الجيش العراقي يتوفر على غلاظة في السلوك وقسوة ملحوظة سواء في التعامل مع أفراد أسرته أو الناس الآخرين الذين يعملون تحت أمرته العسكرية. ورغم توافق المُحبَّين وانسجامهما في جوانب إبداعية وثقافية وفنية عديدة إلاّ أنّ رفضه المشاركة في غزو الكويت تحتّم عليه الهروب من جحيم العراق، كما يصفه، إلى ظلم الحكومة الإيرانية التي لا تجد ضيرًا في احتجازه وتغييبه لسنوات طوالا في سجونها ومعتقلاتها السرّية والعلنية.
يسلّط الروائي محمد عامر الضوء على عقلية السلطة الحاكمة وطريقة تعاطيها مع المعارضين لها والمناوئين لتوجهاتها السياسية والفكرية سواء من الفرس أنفسهم، أو من القوميات الأخرى التي تعيش ضمن حدود الجمهورية الإسلامية في إيران وخاصة العرب والكورد والبلوش والأذريين وغيرهم من القوميات التي تبحث عن مساحة أوسع من الحرية والديمقراطية والعيش الكريم. فثمة أناس فرس مغضوب عليهم ولا يختلفون كثيرًا عن الشخصيات المعارضة من القوميات غير الفارسية الذين تبتلعهم السجون وتنهال عليهم الهراوات والعصيّ المكهربة صباح مساء. كما يغيب القضاة المدنيون ليحلّ محلهم رجال الدين الذين ينفِّذون الأحكام الصادرة من وزارة الاستخبارات والأمن الوطني "إطلاعات" ولا يفعلون شيئًا سوى قراءتها على المُتهمين ولكن ذلك لا يمنع بعضهم من أصحاب الضمائر أن ينتصروا للحق في بعض المواقف الإنسانية التي لا يمكن نسيانها أو تفاديها كما حصل مع الراوية الذي زُجّ به في الكرنتينة لمدة عام وثلاثة أهشر حيث انتشله قاضٍ معمّم من شدق الموت وأعاده إلى زنزانة جماعية يقضي فيها ما تبقّى من عقوبته التي شارفت على الانتهاء.
يتعرّف قارئ هذا النص على طرق وأساليب التعذيب في السجون الإيرانية وخاصة المخابراتية منها. ففي الفصل الأول يتم اقتياد الراوية مع شخص آخر يُدعى مهدي العسكري من عبادان إلى سجن دائرة المخابرات في الأحواز وقد تعمّد القائمون على السجن ترك مكيّف الهواء مفتوحًا في شهر ديسمبر البارد. لا تزيد وجبة الطعام عن كسرة خبز يابسة، وبيضة مسلوقة، وكأس بلاستيكي فيه ما يشبه الماء. تداعت إلى ذهن الراوية أساليب التعذيب الرائجة في سورية والعراق وهي الجلد، والحرق، والفلقة، والتعليق، والخلع، والسلخ وكل ما من شأنه أن يحطّ من كرامة الإنسان ويقلل من قدره ككائن بشري. وبعد ستة أيام يُنقل الراوية إلى زنزانة أخرى وسوف يعترف عليه مهدي العسكري ويدلي بمعلومات لا يعرفها سواه وخاصة فيما يتعلق بهوية الاستخبارات الحقيقية، وهوية الجهاز الأمني الخاص المزيفة التي أصدرها له ضابط صديق مقابل أن يعلّمه اللغة الفارسية. وسوف تكون هذه الهوية المزيفة سببًا في الإيغال بتعذيبه.
مساهمة الشعب الأحوازي في إسقاط نظام الشاه
يتضمن الفصل الثاني بعض الحوادث المهمة من بينها القبض على والده الشيخ عامر من قِبل عشرة جنود على خلفية مشاركته في ثورة المحمّرة ودوره الريادي فيها بعد انتصار الثورة الإيرانية سنة 1979م، ومساهمة الشعب الأحوازي مساهمة فعّالة في إسقاط نظام الشاه في إيران، وسوف يُحكم عليه بخمس سنوات سجن، ويُنفى إلى مدينة "هاني" التي تبعد عن الأحواز 304كم، وتُفرض عليه الإقامة الجبرية مدى الحياة. كما تأتي مجموعة من العساكر للقبض على السيد حسن طاهر الغرابي لكنّ حسّه الأمني كان يقظًا جدًا حيث أطلق ساقيه للريح وفرّ هاربًا قبل مداهمة المنزل لكنهم سوف يقتلون زوجته العلوية حسنة أم ناجي. وبالتزامن مع هذه الأحداث يصل الشيخ صدّام الحامد من العراق، وهو من أهم المطلوبين للسلطات الإيرانية إثر مشاركته في الانتفاضة ودفاعه المسلّح عن مقر المنظمة السياسية. وحينما يشتد القصف على قرية "الغجرية" يقترح عليهم الدخول إلى العراق مع عوائل تسع قرى أحوازية أخرى.
ما يميز الفصل الثالث هو حديث السجناء عبر فتحة التهوية وهي الوسيلة الوحيدة المتاحة للتغلّب العزلة والضجر. كما نتعرّف في هذا الفصل على قصة الحب التي نشأت بين الراوية وحنان التي يعشقها كما يعشق الأحواز لكن ثمة أوامر مشددة تمنع زواج الأحوازي من عراقية إلاّ بعد موافقات متعسفة لا يمكن الحصول عليها في أغلب الأحيان. ومع ذلك فهو يقول:"كانت حنان تُحبني من دون أسئلة، فيما أحبّها من دون أجوبة". فهي أشبه "بقطعة السُكّر الوحيدة في أيامه المرُّة".
على الرغم من مرارة غالبية أحداث هذه السيرة الذاتية إلاّ أنها لا تخلو من مفارقات عديدة تمنح النص نكهة كوميدية ساخرة. فقد سُجن ذات مرة أستاذ من جامعة "جندي سابور" في الأحواز لأن طالبًا ضعيف البصر يجلس في نهاية الصف سأله عن شكل الجهاز التناسلي للجنين الأنثوي فرد عليه الأستاذ بأنه يُشبه الشعار الموجود على علم الجمهورية الإسلامية الإيرانية فصدر عليه الحكم بالسجن لمدة عام واحد، وفُصل من وظيفته، ونُقل إلى السجن المركزي. تبدأ أولى التحقيقات مع الراوية في هذا الفصل، وقد أشرنا إلى بعضها سلفًا، وقلنا بأنّ مهدي العسكري هو من وشى به، وهو الوحيد الذي يعرف معلومة الهُويتين الأمنيتين اللتين كانتا بحوزته.
ينفِّذ المهرّب رزّاق كريم عملية الدخول إلى الأحواز لكنهم ما إن يقعوا في حقل كبير للألغام حتى يتبنى الراوية مهمة القيادة والعبور الآمن إلى الضفة الأحوازية فهو يفضِّل الموت على ثرى وطنه وبين أهله وذويه.
يشتد التحقيق في الفصل الخامس وتحتدم فيه الاتهامات الموجهة إلى الراوية الذي لا يريد المُشاركة في غزو الكويت؛ البلد الذي ساند العراق في حربه ضد إيران بينما يشارك في الهجوم على الجمهورية الإسلامية كلما تهيأت له الفرصة وتوفرت سانحة الحظ. وحينما يفقد الراوية أعصابه ويتهمهم باحتلال بلده، ونهب ثرواته، ومصادرة حقوق شعبه العربي، يتعرض لنوع غريب من التعذيب حيث يمسك الجلاد قدمه اليسرى ويغرز إبرة طويلة تحت أظفره بينما يطفئ الجلاد الواقف خلفه سيجارته في قفا الضحية. ثم يعاود الكَرّة فيغرز الإبرة تحت ظفر قدمه اليمنى فيُغمى عليه.
العجز عن اجتراح الحلول
يقدّم الراوية مبرراته التي تمنعه من المشاركة في غزو الكويت تحت أي حجة أو ذريعة مُبينًا تناقضات السياسة العراقية، فتصريحات صدّام حسين تنصّ على عدم استخدام أي جيش عربي ضد دولة عربية أخرى فكيف قام باجتياح الكويت التي ناصرته ودعمته في حربه مع إيران؟ كما يعزّز وجهة نظره بأنّ الكويت هي من بين الدول العربية القليلة التي منحت الأحوازيين حق العمل والإقامة على أراضيها فليس من العدل والإنصاف والمروءة أن يساهم بأي شكل من الأشكال في احتلالها. ثمة موقف لا يخلو من النفس الكوميدي الساخر الذي يحدث في أثناء مطاردة الراوية من قبل ضابط المخابرات حامد المشهداني حيث دلف في بيت أحد الأصدقاء وخبأته زوجة صديقه تحت سرير النوم ولمّا عاد زوجها محمد قال له:"اطمئن لن أدعهم يقبضون عليك، أنا من سيسلّمك لهم". يشهد هذا الفصل اللقاء الأخير بينه الكائن السردي وحبيبته حنان حيث يلتقي بها في فندق "الخيام" في الديوانية بعد أن صار مشرّدًا ومُطارَدًا وغريبًا ويعترف لها بأنه عاجز عن اجتراح الحلول ومع ذلك فإنّ حبها راسخ في القلب وأنها معه في كل رمشة عين، وفي كل نبضة قلب.
يمكن إيجاز الفصل الثامن بسادية الجلاد حينما يتهمون السارد بالتجسس والتعاون مع "المنافقين" ويأخذونه إلى البرية مع مجموعة من المتهمين الذين يتعرضون لإطلاق النار غير أنّ الأوامر تأتي فجأة وتأمرهم بالتوقف عن الإعدام لكن أحد الحرّاس الذي بدا متعاطفًا معه يقدّم له كأسًا من الماء البارد فيشربه دفعة واحدة ثم يغيب عن الوعي، وحينما يفيق يجد سبّابته ملطخة باللون الأزرق الذي يوحي بأنه قد بصم على شيء لا يعرف كنهه.
تنضاف في محكمة الثورة في الأحواز التُهم الغريبة للراوية وهي محاربة الله ورسولة، والإفساد في الأرض، والتعاون مع النظام البعثي المعادي للجمهورية الإسلامية، ورغم الحيرة الكبيرة التي وقع فيها إلاّ أنه وقّع على هذه التُهم خشية من العودة إلى الجلاد الأحمق. وبعد صدور الحكم على الراوية بـ 13 سنة وبضعة أشهر سمحوا له بزيارة الأقرباء من الدرجة الأولى، فزاره الأب أول مرة واطمئن عليه لمدة 45 دقيقة ثم ستزوره الأم التي لم يرَها منذ 17 سنة في الأسبوع الذي يليه. وقد نجح محمد عامر في تصوير المشاعر المرهفة لهذه الأم التي حُرمت من فلذة كبدها قرابة عقدين من الزمان. وسوف يروي الكائن السيري القصة المؤلمة لتعنيف الأب لزوجته التي رفضت بشكل قاطع أن يقترن بامرأة ثانية ووافقت على الطلاق بالتراضي شرط أن تتخلّص من نظرات الزوج المتخمة بالكراهية. تقول والدة الراوي في هذا الصدد:"لم يُوجعني ضربه المبرّح بقدر ما أوجعتني نظرات الكراهية التي لمحتها في عينيه". ثم تتساءل مستغربة:"كيف تحوّل هذا المخلوق اللطيف الذي كان يتنفس الحُب والغرام إلى وحشٍ يتلذّذ بالعذاب؟".
استنشاق عبير الحرية
بعد صدور الحكم النهائي على الراوية وتحسن علاقته بصالحي، الضابط الرفيع في الحرس الثوري، يُنقل إلى العنبر السابع الذي يتسيّد فيه ضابط أحوازي يُدعى قاسم جاسم مدلول الذي تربطه علاقة جيدة بعيسى عبيات، أحد ضباط السجن المتنفذين الذي يغلق باب العنبر في الساعة العاشرة الأمر الذي سيدفع بالراوية إلى تحريض السجناء عليه لكنه في النهاية يعصب عينيّ السارد وينهال عليه بالضرب المبرح بما في ذلك المنطقة الحساسة فيصيب فحولته ثم يقرر إيداعه في زنزانة انفرادية معزولة لمدة 15 شهرًا يرى فيها ما يشيب له الوِلدان لكن أحد القضاة ينتصف له ويعيده إلى الزنزانة الجماعية ويظل منتظرًا قرار العفو العام الذي يشمله ضمن 135 سجينًا. وبما أنه لم يكن مطلوبًا لقضية أخرى يختم الضابط على يده ختم الإفراج ويأمره بالتوجه إلى باب الخروج لينهي محمد عامر سيرته الذاتية بجملة ختامية شديدة الدلالة حيث يقول:"استنشقتُ عبير الحرية، فهل ستتنفس الأحواز عبير حريتها؟".
كثيرة هي الملحوظات والظواهر التي يدوّنها كاتب النص السيري محمد عامر من بينها ظاهرة التبعيّة الإيرانية الذين ارتكبوا جرائم النصب والتزوير والاحتيال وأودِعوا على إثرها في السجون والمعتقلات، وهؤلاء الناس تمّ ترحيلهم من العراق في أواخر سبعينات القرن الماضي عبر الحدود البريّة إلى إيران فتحاملوا على كل ما هو عراقي وعربي حيث يقول المؤلف عن تجربة ملموسة: "أنّ هؤلاء يحقدون على العرب حقدًا عجيبًا لا حدود له، مُدّعين بأنهم ليسوا عربًا وإنما من القومية الفارسية، في حين كان الفرس ينظرون إليهم باحتقار ويزدرونهم واصفين إيّاهم بالعرب الحُفاة". وهذه الملحوظة الدقيقة تستحق الانتباه والدراسة المختبرية المتفحصة مع العلم أن قضية الترحيل القسري قد قام بها النظام البائد وحزبه الحاكم ولم يكن للشعب العراقي بكل مكوناته أي دخل فيها على الإطلاق.
مَنْ يقرأ هذه السيرة بعمق ويتأملها جيدًا سيكتشف من دون عناء ظاهرة العمالة أو التواطؤ مع المحتل، فبعض الضباط الأحوازيين في السجون والمعتقلات الإيرانية لا يجدون ضيرًا في خيانة وطنهم وقيمهم الأخلاقية والاجتماعية ويتحولوا بين ليلة وضحاها إلى مرتزقة ومأجورين يشكلون خطرًا كبيرًا على أبناء جلدتهم ولعل الضابط عيسى عبيات هو أنموذج لهذا النمط الخائن من البشر. وقد سبق لنا أن كتبنا عن هذه الظاهرة اللافتة للانتباه في رواية "الاغتيال" لمحمد عامر نفسه ودعونا فيها إلى تنظيف البيت الأحوازي أو العربستاني من هؤلاء الخونة والمتواطئين الذين يشكِّلون خطرًا، في بعض الحالات، أكثر من جنود الاحتلال أنفسهم.
وفي الختام لابد من القول بأنّ هذه الدراسة النقدية تتصدى للجوانب الفنية والتقنية التي نجح فيها كاتب النص السيري ومُبدعه ولكنها لا تهمل، في الوقت ذاته، الجوانب السياسية والفكرية والنفسية التي عالجها الروائي محمد عامر وبرع في تقديمها بغض النظر عن درجة اتفاقنا معه أو اختلافنا مع آرائه ووجهات نظره الخاصة التي تبلورت في هذه السيرة الذاتية التي تبقى مُشعّة في ذاكرة القرّاء لأمدٍ طويل.
***
عدنان حسين أحمد