قراءة في كتاب

عبد السلام فاروق: التاريخ المصري بعيون أمريكية

يرسل إصدار المركز القومي للترجمة للطبعة العربية من كتاب "سعد زغلول والوطنية المصرية" ترجمة الدكتور رفعت السيد، أكثر من رسالة ثقافية تاريخية مهمة. منها أولا أن العودة إلى شخصية زعيم ثورة 1919، ومن خلال عين باحث غربي كتب رسالته الجامعية قبل أكثر من سبعة عقود، هي أشبه باستعارة استراتيجية من مخزون الذاكرة الجماعية لمواجهة أسئلة راهنة تثقل كاهل المصريين اليوم. ثانيا: إنها محاولة لاستدعاء "روح" ذلك الزمن، لفحص جوهر ما كانت عليه الوطنية المصرية في لحظة تأسيسية حاسمة.

ما يلفت الانتباه على الفور، كما تذكر مقدمة الكتاب، هو "الرؤية الغيرية" للباحث جورج دونام بيرس. فكتابة رسالته في عام 1949، أي بعد ثلاثة عقود فقط من الأحداث، ومن خلال وثائق الطرفين، المصري والبريطاني، تمنحنا نافذة نادرة. إنها رؤية ليست محايدة تمامًا – فالحيدة المطلقة أسطورة – لكنها محايدة نسبيًا، خالية من "شحنات" الوطنية المصرية الملتهبة أو تبريرات الاستعمار البريطاني.

هذا التموضع في "المنطقة الرمادية" بين الموقفين هو بالضبط ما نحتاجه اليوم للخروج من ثنائيات الصديق/العدو التي تسطح فهمنا للتاريخ. إنه يذكرنا بأن التاريخ ليس حكاية أبطال خير مطلقين وأشرار مطلقين، بل هو مسرح لصراع إرادات ومصالح معقدة، وكان سعد زغلول لاعبًا بارعًا في هذا المسرح.

وهنا تكمن العبقرية الاستراتيجية للزعيم سعد زغلول، كما يقدمها الكتاب. لم يكن كفاحه مجرد خطاب حماسي ضد المحتل، بل كان مشروع دولة. لقد أدرك أن مواجهة الاستعمار لا تكتمل بهتافات الجماهير فقط، إنما ببناء مؤسسات تحد من الاستبداد الداخلي، سواء كان ملكيًا أو غيره. لذلك فإن "الحكومة الدستورية الأولى" التي ناضل من أجلها لم تكن مجرد طقس ديمقراطي شكلي، فقد كانت آلية لنقل الشعب، كما تشير المقدمة بدقة، "من حالة الضعف والأمية إلى نشر التعليم والتنوير". بمعنى آخر، كانت الوطنية عنده مشروعًا تحرريًا مزدوجًا: تحرير الأرض من المحتل الأجنبي، وتحرير عقل المواطن من الجهل والخضوع. كانت "الوطنية" هي الجسر الذي يربط بين المقاومة السياسية والنهضة المجتمعية.

يقودنا هذا إلى سؤال فلسفي عميق: ما هي الوطنية في زمننا هذا؟ أهي مجرد انتماء عاطفي إلى رقعة جغرافية، أم هي التزام نشط ببناء الإنسان والمكان؟

 إن قراءة سيرة سعد زغلول تدفعنا نحو التعريف الثاني. أي أن الوطنية التي تجلت في ثورة 1919 كانت حركة شعبية عضوية، قادها محام خرج من الصفوف الوسطى للمجتمع، فجسدت حلمًا جماعيًا في الكرامة والحرية والدستور. بالتالي فإن إعادة نشر هذا الكتاب الآن، تحت رعاية وزارة الثقافة وفي إطار "نشر الوعي"، هو إيحاء غير مباشر بأن معركة الوعي تلك لم تنته بعد. فإذا كانت الوطنية في ذلك الزمن كانت معركة ضد الأمية والاستبداد المطلق، أليست معركة اليوم هي معركة ضد أمية من نوع آخر: أمية التفكير النقدي، والانفصال عن التاريخ، والاستهلاك السطحي للثقافة؟

توفير هذا الكتاب للقارئ العربي هو أيضًا ضرب لنوع من "الاستعمار الفكري" المستتر. فغالبًا ما تكتب تاريخنا الوطني بلغات أخرى وتحفظ في أرشيفات بعيدة. ترجمة مثل هذه الدراسات، حتى لو كانت بمنظور غربي، هي استعادة لجزء من روايتنا. إنها خطوة نحو تملكنا لسرديتنا التاريخية، لا كأسطورة مقدسة، بل كموضوع للفحص والتحليل والنقد. إن قراءتنا لرؤية بيرس للزعيم سعد زغلول هي بمثابة حوار مع الذات عبر مرآة الآخر. قد نرى فيها تشوهات، وقد نرى فيها إضاءات لم ننتبه إليها من قبل.

بالطبع العودة إلى سعد زغلول عبر هذا الكتاب هي إعادة تموضع للحاضر. إنها تذكير بأن الأوطان تبنى ليس فقط بالبطولات الاستثنائية في لحظات الأزمات، وبالإرادة اليومية لصناعة دستور يحمي الناس من طغيان السلطة، وبالتعليم الذي ينير العقول، وبثقافة تحترم العقل والنقد. إن صدى صوت سعد زغلول، ذلك الصوت الذي هز عرش الاستعمار وناضل من أجل دستور يكبح جماح القوة، لا يزال يتردد حتى اليوم، كذكرى أو كسؤال مطروح على أجيال لم تنته معاركها بعد. والكتاب الذي بين أيدينا هو دليل جديد في هذه المعركة الفكرية المستمرة.

السؤال الأكثر إلحاحًا الآن هو: ما الذي حدث لتلك "لروح ثورة ١٩ " بعد رحيل سعد زغلول؟ هنا تتحول القراءة من تأمل سيرة فرد إلى تشريح مسار أمة. يدفعنا كتاب بيرس، بقربه النسبي من الأحداث و"عيونه المحايدة"، إلى تأمل ظاهرة "استعصاء" النموذج الذي قدمه زغلول على الاستمرارية.

المفارقة التاريخية التي يكشف عنها الكتاب، ربما دون أن يقصد، هي أن النجاح الباهر لسعد زغلول في تعبئة الشعب وتحقيق استقلال شكلي للدولة، قد زرع بذور إخفاقه على المدى البعيد. لقد نجح "زعيم الأمة" في قيادة "ثورة شعبية" عارمة، لكن الآلية التي حكم بها - "الحزب الحر الدستوري" أو الوفد لاحقًا - تحولت تدريجيًا من تجسيد للإرادة الشعبية إلى مؤسسة شبه أبوية. لقد تحول الزعيم التاريخي إلى "أسطورة" يصعب على من يخلفونه مجاراتها، فانتهى الأمر بتحويل السياسة من "فعل جماعي" إلى "إرث" يدافع عنه، ومن "مشروع نهضة" إلى "ذكرى مجيدة" يتم استدعاؤها في المناسبات.

هنا تبرز إشكالية "القيادة الكاريزمية" في المجتمعات التي تخرج من حقبة الاستعمار. فسعد زغلول، بثقافته الأزهرية-الفرنسية، وبلاغته الآسرة، وتجسيده لكرامة المصري المقهور، كان "ظاهرة استثنائية". ولكن ماذا يحدث عندما تتحول الاستثنائية إلى نموذج قياسي؟ الإجابة نراها في الصراع المرير الذي أعقب رحيله بين "الوفد الجديد" والقصر، وبين مختلف التيارات.

لقد غاب "المشروع المؤسسي" الحقيقي الذي يفوق شخصنة السياسة، فسهل على القوى المنافسة – سواء القصر المدعوم من الخارج، أو قوى صاعدة أخرى – تفكيك إرثه قطعة قطعة تحت شعارات جديدة. إنها المعضلة ذاتها التي تواجهها العديد من الحركات التحررية: كيف تتحول من "ثورة" إلى "دولة" دون أن تفقد روحها أو تتحول إلى نظام شمولي؟

عصر ما بعد الوطنية

يقودنا هذا إلى تحول مفهوم "الوطنية" نفسه، وهو التحول الأكثر إثارة للفكر. الوطنية المصرية لدي سعد زغلول كانت مرتبطة بفكرة "الأمة" ككيان سياسي واع بذاته، له إرادة جماعية تجسدت في المظاهرات والعصيان المدني والمطالبة بالدستور. كانت الوطنية فعل مقاومة وبناء في آن واحد.

أما في عصرنا الحالي، ما بعد-الكونيالية وما بعد-العولمة، فإننا نشهد ما يمكن تسميته "تصحر" مفهوم الأمة. لقد تم استبدال "الوطنية السياسية" بـ "الوطنية الانفعالية". الوطنية اليوم، في خطابها السائد، لم تعد تعني المشاركة الفاعلة في صنع القرار أو محاسبة الحكام، بل تحولت إلى نوع من "الولاء العاطفي" للرمز، أو للعلم، أو للقائد. لقد تحول المواطن من "فاعل" في الأمة إلى "منتمي" إلى قطيع كبير. وهذا التحول لم يأت من فراغ؛ فهو نتاج تراكمات تاريخية من الإحباطات السياسية، وتراجع التعليم النقدي لصالح التعليم التلقيني، وصعود وسائل الإعلام التي تبيع المشاعر بدلاً من الأفكار.

إصدار هذا الكتاب الآن هو محاولة – واعية أو غير واعية – لمواجهة هذا "التصحر". إنه يذكرنا بأن الوطنية الحقيقية كانت يومًا ما مشروعًا فكريًا قبل أن تكون هتافًات وشعارات. مشروعًا يقوم على التساؤل: ما حدود السلطة؟ كيف نحمي الحقوق؟ ما معنى الدستور؟ إن ترجمة كتاب أكاديمي نقدي عن بطل قومي هي في حد ذاتها رسالة: أن حب الأوطان لا يكون بتقديس الأساطير، بل بفهم التاريخ بكل تعقيداته وتناقضاته. الفهم هو أعلى درجات الاحترام.

***

عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم