قراءة في كتاب
نورالدين حنيف: سؤال التلقي والتأويل في كتاب الأنساق الذهنية
سؤال التلقي والتأويل في كتاب: الأنساق الذهنية في الخطاب الشعري.. التشعب والانسجام.
(إن النص لا يكشف أسراره ما لم يتهيّأْ له متلقٍّ كالْغوّاص الماهر) الجرجاني1
تمهيد:
إن البحث في في تجربة الباحث والمبدع جمال بندحمان النقدية يقودنا توّاً إلى السؤال عن احتمال التراكم المنهجي القاضي منطقيا بالسيرورة نحو بناء نظرية ممكنة في مجال اشتغاله النقدي. وقولنا بالتراكم هو حكمٌ يخرجنا من التتبع الكمي لحجم المخرجات أو أعدادها التي راكمها الباحث جمال بندحمان عبر مساره النقدي الطويل، في توجّهٍ بحثيّ يستنكف الكمَّ ويقحمنا في نوع هذا المنجز وجودته، إن شئنا حكم القيمة، وفي عمقه العلمي إن شئنا حكم الموضوعية. ومن هنا فالحديث عن نظرية نقدية نستشرفها في برامج اشتغال هذا الرجل هو أمر وارد ووممكن جدا. وقبل هذا وذاك فهو أمر مُنصف. وأنا أعتبره أقل ما يمكن أن يُقَدَّم لهذا المبدع الموسوم بالحركية الاستثنائية في البحث العلمي المستمر دون هوادة في الساحة الثقافية المغربية والعربية على حدّ سواء .
وأما بيانه الشاهر في وجهنا سيف التواضع، فنرده عليه ردّاً ناعما برفضٍ من حرير. قال الباحث جمال بندحمان: (إننا لا ندّعي أننا بصدد إنشاء نظرية في التحليل، فذلك حلم بعيد المنال في ظل مجتمعاتٍ لا تلتفت إلى البحث العلمي، ولا تجعل الثقافة انشغالاً جماعيا. لذلك فإن ما نقدمه ليس سوى اجتهاد فردي، فإن أصاب فله أجران، وإن لم يصب فأجر اجتهاده يغني عن حمل وزره)2.
وهو هنا يصرح بعكس ما نذهب إليه. وتصريحه هذا لا يعدو أن يكون مزيداً من التركيم النبيل لحجم القيم الإيجابية في سجل عطاءاته الجادّة علما والمتواضعة خلُقا وقيمة، ولا يعدو أن يكون أيضا دفعاً لمشروع النظرية في سمت الباحث \ الإنسان الذي لا يقول: ها أنذا. وإن شئنا صوابا فالمنطق القيمي السليم يفرض عليه أن يقول (ها أنذا) في غير صلفٍ أو نرجسٍ أو ادّعاء .
و المصداقُ في قولنا هذا، أستدعيه من الذكر الحكيم على لسان النبي يوسف عليه السلام: (قَالَ ٱجْعَلْنِى عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلْأَرْضِ ۖ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ)3، وهو يقف في وجه الفساد ويحول بينه وبين أن يحتكر فاسدٌ \ نكرةٌ هذا المنصب الحساس في دولة كبيرة ليعيث فيه وفيها. ومن هنا أقول إن دولة النقد عندما يطالها الفساد والعيّ يصبح على كل ذي قوة علمية حافظة وأمينة أن يقول: ها أنذا، وأنا أهلٌ لها وجديرٌ بها. وإن لم يجد الجرأة على قولها نقولها نحن بدلاً عنه وقلوبنا مطمئنة .
سؤال التلقي والتأويل في كتاب الأنساق الذهنية
البحثُ في قضايا التلقي والتأويل لناقد من النقاد، سواء أكان عربيا أم من الغرب، من القدامى أم من المجايلين، هو لعمري أمرٌ شاقّ للغاية، لأننا لا نتعامل مع الخطاب النقدي باعتباره متنا إبداعيا خاماً. بل نتعامل مع متن يشتغل على متون أخرى وبالتالي فلغتنا التي نتوسلها هنا أداةَ فهم واستيعاب وتفكيك وتحصيل وتخريج وغير ذلك، هي في صميم الموضوع آلة تشتغل على آلة أخرى، هي بدورها تشتغل على آلة أولى هي أصلٌ في العمل .
من هنا مشقة قراءة النقد وصعوبة تشريح العمل النقدي في توجهه العلمي القاضي باستبعاد مسألة العشق والانطباع في البناء والتركيب والتخريج والتأويل، وبالتالي فنحن في هذا المبحث نواجه عدّة أنساق ثقافية ومعرفية تفرض علينا كل الحذر والاحتراز في استنطاق المعطيات واستخلاص التأويلات خارج منطق العرض المسطّح الذي توجّهه هدفية الجرد التي لا ننكر قيمتها وحضورها، ولكننا سنسعى إلى قراءة المفاهيم المتعلقة بالتلقي والتأويل في خصوصية الناقد وفي ظلال مرجعيته الفكرية وكذلك في استشراف تطلعاته القرائية المسكوت عنها. وهي المشقّة ذاتها النابعة من انتصاب الناقد أمامنا بطرحه الخارج من أتون شخصه الخاص وتكوينه الأخص ورؤيته الأكثر خصوصية. بمعنى أننا، وعلى سبيل المثال، نقرأ متونَ الشاعر ابن خفاجة، موضوعَ بحثِ الكتاب لا في أنساقه الذهنية وحدها، بل نقرؤها في أنساق الناقد الذهنية أيضا، وبالتالي نكون في موقع القارئ الإشكالي الذي يضيف إلى تصورنا للمتن الأصلي تصورَ الظاهرة المدروسة وتصورَ الناقد الدارس. إذن هي ثلاثة أنساق يضعنا الباحث \ الناقد في أتونها:
- نسق النص الرئيس، في زمنيته وذاتيته
- نسق المفاهيم، في علميتها وخصوصية بنائها
- نسق القارئ، في تلقيه الجمالي الإشكالي
أمام هذا الزخم القرائي لا يسعنا إلا أن نقول: حسبنا من هذا أن نقول ما قاله أستاذنا جمال بأن بحثنا هو في آخر المطاف مقولاتُ اجتهادٍ لنا أجرُ صوابِه الذي يكفينا وِزرَ أخطائه.
ما أسهل ان نمارس جرداً كمّيّاً لقائمةً بالمفردات والمقولات والمفاهيم المرتبطة بالتلقي والتأويل الواردة في غضون كتاب الأنساق الذهينة في الخطاب الشعري. وما أيسر تبويبها وتصنيفها وفق سلّم مقامي معين نستنتجه من احصائية تواردها داخل المرجع أعلاه. والأجدر بنا أن نقرأ هذا الإركام داخل رؤية الباحث النقدية الخاصة وداخل مشروعه النقدي الذي يتجاوز فيه فكرة الكتابة من أجل الكتابة، ويتخطى فيه أيضا حدود التركيم الموضوعاتي في خزانات النقد. الأمر أبعد من هذا وذاك لأن سياق الأمانة العلمية يفرض علينا البحثَ عن مداخل مناسبة لقراءة السؤال حتى ننسجم مع تصورات الكاتب الفنية والنقدية وحتى الفلسفية التي ينطلق منها في تبئير مشروعه النقدي وفي بلورته وفي امتداداته .
يتعامل الباحث ج بندحمان مع مفاهيم التلقي والتأويل بانفتاحٍ واعٍ كل الوعي بلحظته التاريخية وبحتمية انقطاعها أو استمرارها الإبستمولوجي عبر الأزمنة. وينتهي المفهوم بين يديه إشكالاً مفاهيميا ينيخ رحلته طائعاً طيّعاً ومنسابا في عمليات الأجرأة والتظهير. وطريقة الباحث (ج بندحمان) لا تكتفي بالتنظير، بل تردف الدراسة بالتظهير دون الغلو في التجريد. فيكون همّه دائما هو توظيف المفاهيم والمصطلحات للإضاءة، وبالتالي فهو لا يركبها لجمال صهوتها ولكن يركبها لنجاعة وظيفتها باعتبارها مطيةً لا غاية، وأداةً لا منتهىً، ووسيلةً لا بؤرة معرفية يقف عندها الباحث ويوقف من معه من القراء ابتغاء ظهور أو شهرة أو التقاط صورة للتأريخ .
ومن جليل التواضع العلمي والعلمية المتواضعة، حرص الباحث على إضاءة المفاهيم والمصطلحات في ثقافة التنسيب، بحيث لا يعلن بدءاً بمطلقيتها أو بدلالتها القطعية، وإنما يسيّجها داخل عملية علمية تهب العمل النقدي بعده النظري الصرف وبعده التظهيري المطمئن على نتائجه .
1 – في سلطان التأويل:
أوّلَ القدماءُ الشاعرَ ابن خفاجة تأويلاً نمّطه في صورة الشاعر الجنّان الملتصق إبداعه بوصف الطبيعة. وهو تأويلٌ منقوص أدّى إلى بترِ إبداعه ردحاً من الزمن تغوّل فيه هذا التأويلُ وعُدَّ البديهةَ التي هيمنت على تمثّلات المتلقي العربي، ووجّهته في مساراته التأويلية حتّى بدا له الخروج عنهُ فريةً عجيبة وبدعة رهيبة . من هنا يفترض الباحث جمال بندحمان أن ابن خفاجة (لم يكن شاعر الطبيعة، بل كان شاعر وجود عام يعبر عن رؤيا فلسفية عميقة ويجادل أهل زمانه في شؤونهم العامة والخاصة، ويساهم في تقديم تصوراته ومعتقداته وتمثلاته السياسية والمذهبية ...)4.
2 – في المفهوم:
القراءة والتلقي والتأويل نشاط مكثّف وفعل مشترك، وتوليد يحاول سبر أغوار النص واستكشافها في اتجاهيْن: من النص إلى القارئ ومن القارئ إلى النص. والعملية في هذا النشاط دائما مزدوجة تقوم أساسا على فعليْ التلقي والتأويل.
والتلقي هو نقل المعنى من داخل البنيات النصية الصغرى والكبرى إلى المتلقي الذي يبدأ العملية بالتعرف على معاني النص ثم أبعاده ثم علاقاته.
و التأويل هو تحديد المعاني اللغوية عبر آليات التحليل وإعادة صياغة المفردات لتوضيح مرامي العمل الفني بشكل عام، ومقاصده باستخدام آلة اللغة دائما... التأويل عملية بحث مستمرة عن أمثل شكل للفهم والاستيعاب، على اعتبار أن كل فهم يفتح طريقا إلى التساؤل وإلى تنشيط الفكر.
3 - رصد الظاهرة:
و نقصد بذلك تتبع الإركام الحاصل في كتاب الأنساق الذهنية والمتعلق بمقولتيْ التلقي والتأويل، إن بشكل مباشر أو بصورة ضمنية . ولقد حصدنا من هذه العملية أكثر من سبعين محطّة يتحدث فيها الباحث ج ب عن التلقي والتأويل في صيغ مختلفة ومتنوعة ودقيقة على مستوى التناول والطرح. وتقوم هذه المحطات أساسا على الاختراز والحذر من السقوط في التأويل المشطّ والسائب. فهو لا يني يقيّده بشروط لغوية ونفسية ومعرفية تجنبنا الوقوع في مطبّات التأويل المفرط وفي شساعاته العائمة المنفلتة من كل رقابة منهجية. ونجد لذلك مثالاً لا حصرا في قول الباحث في مقدمة الكتاب (والمتلقي يستند إلى خلفيته المعرفية من أجل إدراك وفهم هذا القصد المباشر، وفتحه على مقاصد أخرى يحتاج في التدليل على صحتها إلى التقيد بشروط تجنبه كل تأويل إسقاطي)5.
ومنها قوله (وقصدت بالثاني ما هو مبني من قِبل المتلقي استنادا إلى معرفته الخلفية ودرجة تطبيع علاقته مع النص ضمانا لعدم تناقضه وتعبيره عن رؤى موحدة وثوابت متضامّة)6.
ومنها أيضا قوله (فالمحلل ينطلق من المعطى ليبني المراد على مسار تأويلي يمكنه من إعادة تقدير المعنى)7.
4 – معالم تأويلية الأنساق:
= المَعْلم الأول:
النظر إلى الخطاب في ذاته لا في خارجيته، ونقصد بذلك النظر إلى الخطاب خارج المؤثر الآخر القابع في وجهة نظر تكتسي بفعل العادة طابع الهيمنة. وهذا ما حدا بالباحث جمال بندحمان إلى القول في مقدمة كتابه (معظم الدراسات التي تناولت ابن خفاجة اقتصرت أحكامها على صفة "جنّان الأندلس" وشاعر الطبيعة مما قادها إلى بتر إبداعه وتكرار القراءات والأحكام نفسها...)8.
من هنا فجمالية التلقي والتأويل لا تسمح فقط بإدراك الخطاب وشكله بالكيفية التي تمّ فهمها على نحوٍ تطوريٍّ عبر التاريخ، بل تقتضي أيضا أن يُصنّف كل خطاب ضمن سلسلته الإبداعية التي ينتمي إليها، حتى يتم تحديد وضعه التاريخي ودوره وأهميته في السياق العام للتجارب الأدبية، وحتى يتم التصنيف الموضوعي في غير خطل وفي غير إجحاف.
إن تلقّينا للمنجز الخفاجي ينبغي أن يدخل في حكم السيرورة التي تنتقل فيها القراءة من التلقي السلبي الموجّه والخاضع لخارجية النص الصرفة، إلى التلقي الإيجابي المرتبط أساساً بإنتاج الجديد في تعالق جدلي مع دينامية التطور.
= المعلم الثاني:
يقدم الباحث ج ب تأويليته داخل داخل مفهوم النسق، إخلاصا للنسغ العام لكتاب الأنساق الذهنية، والمقروء داخل مقولة الانسجام أولاً بأوّل.
و معنى ذلك أن الانسجام قبل أن يكون شرط وجود في الخطاب هو شرط وجود في عمليات التأويل. قال الباحث:(وقصدتُ بالانسجام ما هو مبني من قِبل المتلقي استناداً إلى معرفته الخلفية، ودرجة تطبيع علاقته مع النص ضمانا لعدم تناقضه...)9.
والمسألة ترتبط بالتوافق المنهجي بين المقدمات والنتائج من جهة، وبين أحكام القارئ\ الناقد، مُنتج الخطاب النقدي وبين المتلقي\ القارئ، مؤوّل الخطاب، في اتجاهٍ لا يبحث عن انسجام كلي بين المخرجات هنا وهناك، فهذا ضربٌ من المستحيل وعطب في التصور النقدي، بقدر ما الأمر متعلق أساساً بإنتاج سقف معقول من التأويلات المطبوعة بخاصيتيْ الانسجام والتشعب في اتجاه الإخلاص لا لنسغ الباحث النقدي ولكن للنسغ العام للخطاب النقدي وهو يقرأ ابن خفاجة قراءة جديدة تروم الكشف عن التعسف الذي طاله زمناً طويلا...
= المعلم الثالث:
يعي الباحث في كتاب الأنساق الذهنية كل الوعي حجم المسؤولية القابعة خلف عمليات التأويل. ومن ثمة فالباحث لا يجترح التأويل خارج سند معرفي، لأن التأويل في عمق المطاف ليس مغامرة أو ضرباً من الرأي يُهتدى إليه بوساطة الخواطر والتأملات الذاتية التي تبنيها الأهواء والانطباعات خارج مقولات الاتساق.
إن المتلقي القادر على عمليات التأويل هو القارئ المتوفر على الشرط الإبستمولوجي الذي يمكنه من رصد مرجعية الخطاب وحركيته المنتجة والمؤوّلة. قال الباحث (وأما الشرط الابستمولوجي فيُبنى على خلفية تحديدية أو معرفة سابقة)10.
= المعلم الرابع:
في إطار المقصدية يؤمن جمال بندحمان بانفتاح التأويل على جهتين من الفهم والإدراك، ويتعلق الأمر بفهم القصد المباشر من الخطاب\الأم، كما يتعلق بفتح هذه القصدية على مقاصد أخرى. ذلك أن النصّ المؤوّل ليس نصاً مالكاً للحقيقة، بقدر ما هو رؤية خاصة ونسبية للحقيقة، وفي آخر المطاف فهو مجرد تأويل أولي للواقع. تأتي بعده تأويلات أخرى من شتى المتلقين على اختلاف مشاربهم المعرفية. والفرق هنا بين التأويليْن أن صاحب النص – ولنأخذ ابن خفاجة كمثال – لا يؤوّل ذاته بل يقدم لنا رؤيته للوجود وللحقيقة. فيما التأويلات اللاحقة بعده فهي تمارس قراءاتها على مقولٍ لا على واقع. من ثمّة نفهم لِمَ صرخ نيتشه صرخته القائلة(لا توجد حقائق، بل تأويلات فقط)
ويذهب الباحث ج ب في هذا الصدد مذهب الناقد الحريص على تحقق الانسجام بين مقاصد كل من المبدع والخطاب والمتلقي في وعيٍ نقدي لا يفصل بين هذا الأطراف. قال (والأمر مقترن في نهاية المطاف باختيارات وقرارات منهاجية يتحكم فيها المتلقي والخطاب ومقاصد المتكلم)11.
= المعلم الخامس:
التأويل المقيّد... يتكرر هذا الشرط المتهجي في غضون الكتاب أكثر من مرة، محدثاً تركيما واعيا بضرورة تبنّي التأويل المعتدل تجنباً لأي انزلاق خارج المنهج. قيّد ج ب التأويل داخل مواضعات سماها بالقوانين اللغوية والنفسية والمعرفية. وفي هذا السياق يدرك الباحث حق الإدراك مسؤولية التلقي والتأويل مستنداً في ذلك إلى العلم لا الحدس أو الانطباع والمغامرة. لهذا نجده يقيّد التأويل بقوانين لغوية ترتبط بالتركيب، ونفسية ترتبط بالمؤوّل، ومعرفية ترتبط بالمشتَرَك... وهذا من شأنه أن يحدّ من تسيّب التأويل المفرط ويوجّه مسار القراءة نحو مقومات معينة...
هكذا يضع الباحث التأويل المفرط تحت مجهر المساءلة تجنباً للسقوط في عشوائية التخريج والتي يختلط فيها المدلول بالمدلول والتشابه بالتشابه والترابط بالترابط حذرا من الانزلاق فيما سمّاه أمبرتو إيكو بـ"الورم الإيحائي"... وهو الورم الدلالي الذي يشطّ بالقارئ بعيداً عن مقصدية الخطاب. وخير مثالٍ لهذا الحذر المنهجي قول الباحث (يعتمد المدخل الأول معطيات اللغة وقوانينها الصوتية والصرفية والتركيبية... ويعتمد الثاني الأعرافَ والأحكام العامة المستندة إلى الثقافة المشتركة، ويعتمد المدخل الثالث على معطيات المحيط والسياق وشروط الإنتج)12.
المعلم السادس:
تحدث الباحث جمال بندحمان عن التشييد حديثا تركيمياً في سياقات مختلفة حتى ظننتُ أنه المفهوم المركزي في منظومة الأنساق الذهنية... إن الأخذ بالنسق المغلق (لن يقود إلا إلى فهم جزئي وتحديد فرعي للخطاب. وهو الأمر الذي تناولته دراسات متعددة جعلت الانسجام معطىً ثاوياً بين ثنايا الخطاب ومنحت المتلقي، بقدراته التأويلية ومعطياته التداولية، شرعيةَ بنائه وتشييده)13.
و غرضنا من هذا العرض هو مفردة التشييد الواردة في آخر الاستشهاد والتي تحتل في مقام الدراسة شأنا ذا بال. إن الباحث ج ب ربط فهم الخطاب في أنساقه المتعددة بقدرة المتلقي لا على التأويل فقط، وإنما بالقدرة على التشييد لمفاهيم جديدة تغني التخريجات والنتائج والخلاصات.
ولو تتبعنا تراكم هذا المفهوم في سياق الكتاب لما وسعنا المقام، وحسينا من ذلك الاستئناس بالتشييد لا بإركامه وتراكمه، بهدف الوقوف على منظورات الناقد المركزية.
و فيما يلي بعض محطات التشييد على لسان الباحث تصريحاً وتضميناً:
- إن رفض التناقض يُبنى انطلاقاً من المتلقي وليس من الأشياء... ص 19
- للمتلقي دور في إعادة بناء التناقضات المختلفة وإرجاعها إلى أصولها... ص 43
- المتلقي قادر على إعادة تشييد العلاقات وبناء المقولات... ص 80
- يكون تشييد التشاكلات أعمّ من تلك المعطاة شريطة الاستعانة بمؤوّلة تبعدنا عن التأويل المفرط... ص 108
- كل حقيقة هي حقيقة تصورية مشيّدة، غير أن هذا التشييد ليس متطرفا لأنه لا يلغيالعوالم الأخرى بل يساوي بينها... ص 137
وفي هذا المقام يفسح الباحث ج ب باب النقد على مصراعيه وهو يوسع في مفاهيم البناء، عبر تركيزه على مفهوم التشييد لاعتبارات منهجية نلخصها فيما يلي:
- التشييد باب نقدي تأويلي يحسم في مسألة القطعية وثبات النتائج على اعتبار أن مخرجات العملية النقدية لا ينبغي أن تأخذ طابع الدوغمائية، بقدر ما هي دعوة مفتوحة على الاحتمال النقدي التأويلي الممكن.
- التشييد مفهوم نقدي مرن يتيح للمؤوّل شساعةً في التحليل والتفكيك والتأويل. ويهبُه نوعاً من الانسيابة النقدية القاضية بنسبية المنتج، وبالتالي سحب فكرة الهيمنة التي قد تتأتّى من إحساس المؤوّل بالعجب، وهي مسألة وجدانية أكثر منها علمية.
- التشييد فكرة تنسجم مع منطلق الباحث وفرضياته الأولى التي تذهب مذاهب الترابط المنهجي بين مكونات الخطاب، وتفاعل عناصر الخطاب.
هكذا فالتأويل فعلٌ قرائي يُشيّدُ ويروم بناء المعنى استناداً إلى أدوات ومرجعيات وقواعد... داخل رؤية نقدية مفتوحة ومنفتحة، يكون فيها التمثل هو الفهم، والتأويل هو المفتاح.
5 – تظهير:
نختار نموذجاً لتأويلية كتاب الأنساق الذهنية، ونقصد بذلك نسق الجهاد المرابطي:
وهو النسق الثاني بعد نسق الاستمتاع، وهو نسق يكذّب مقولة ابن خفاجة الجنّان.
يمارس الباحث جمال بندحمان داخل هذا النسق رؤيته التأويلية المحكمة والعلمية داخل مقوّم الانسجام وتشاكل مكوناته. والقصيدة مطلعها:
الآن سحّ غمام النصر فانهملا \\ وقام صغو عمود الدين فاعتدلا
داخل هذا التظهير يمارس الباحث تأويليته باقتدار علمي أخلص فيه لمخرجات بحثه في انسجام منهجي قويّ. فهو يقرّ في تحليله أن النصر بؤرة وما تبقى في القصيدة مجرد إطار. وهذا تأويل مقيّد ومشروط شرطه الباحث بقرائن تستند إلى المعنى المعطى والمفتوح على المعنى المبني والمشيّد. فإذا كانت الاستعارة\الأم هي (سحّ غمام النصر) فما تبقى تفريع لها عن طريق المشابهة أو الترادف أو المجاورة أو التضاد... واعتمد في تأويليته على إجراءات منهجية مصوغة من فكرة التشعب والانسجام:
- التفريع المقولي
- الانتقال الاستعاري (من الاستعارة القاعدية إلى الفرعية)
- مساءلة المقاصدية (يتم ذلك داخل المشترك الثقافي كالقرآن والحديث النبوي)
- اعتماد اللاحق لتأكيد السابق (وهو نوع من التشارح)
- تنويع التأويلات (استقبال قراءة القصيدة في دلالة الجهاد واستقبالها أيضا في الدلالة على الدنيا)
- المعطيات النصية (ويتعلق الأمر بالتأويل المبني داخل معطيات النص وخاصة التركيبة المفضية إلى أكثر من دلالة حسب سياقاتها المتعددة)
اكتفينا بهذا القدر من التظهير لأن هدفنا من المقالة هو بيان تأويلية الباحث المنتهية إلى إنصاف الشاعر ابن خفاجة من التأويل التاريخي المُنمِّط...
ختم:
التأويلية في كتاب الأنساق الذهنية تعقّبٌ حثيثٌ وسعيٌ دؤوب وراء الفهم، وتحيين لإرث السابقين في شخص المنجز الإبداعي شعرا ونثرا لشاعر قديم هو ابن خفاجة الذي نمّطه التأويل التاريخي داخل أحادية المعنى الواصف للطبيعة، فيما الرجل شبكة من المواقف الوجودية – لا بالمفهوم الفلسفي – تجاه شتى قضايا الوجود، ترجمها شعره ونثره وتقصّاها الناقد جمال بندحمان بمباضع نقدية عالمة تحفر في فسيفساء التراث بأدوات وآليات ذكية ممنهجة تمتح من قلب الحداثة في مصطلحاتها المُطوَّعة باقتدار، كما توظف الأصالة التراثية في بلاغتها وبيانها ورؤاها النقدية في تطويعٍ مسؤول... من هنا أقول في وعيٍ منّي إن كتاب الأنساق الذهنية كتاب حمّال حسنات وهي ثرّة وغنية وأجملها في هذا المقام أن ابن خفاجة ينبعث فينا حيّاً وكأنه ابن اللحظة كلما قلّبنا صفحات كتاب الأنساق.
***
بقلم أبوشامة نورالدين حنيف
.........................
إحالات:
1 – عبدالقاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ت محمود محمد شاكر، دار المدني ط 1، ص 141
2 - جمال بندحمان، سيمياء الحكي المركب، البرهان والعرفان، (رؤية) للنشر والتوزيع، ط 1، 2015، ص 12
3 - سورة يوسف، الآية 50
4 – جمال بندحمان، الأنساق الذهنية في الخطاب الشعري، التشعب والانسجام، منشورات TOP EDITION الدارالبيضاء، ط 1، ص 15
5 – كتاب الأنساق، ص 19
6 – كتاب الأنساق، ص 37
7 – كتاب الأنساق، ص 104
8 – كتاب الأنساق، ص 15
9 - كتاب الأنساق، ص 37
10 - كتاب الأنساق، ص 99
11 - كتاب الأنساق، ص 106
12 - كتاب الأنساق، ص 101
13 - كتاب الأنساق، ص 18