قراءة في كتاب

جمال العتّابي: صلوات الانسان من سومر إلى الإسلام

الصلاة في اللغة، اسم، وجمعها صلوات، تأتي من الجذر "صلّى" وتعني الدعاء والابتهال، وفي الاصطلاح الشرعي" أقوال وأفعال مخصوصة"كوسيلة للتواصل مع الخالق.
بدأت حاجة الإنسان للصلاة منذ العهود القديمة مع تطور الوعي الروحي والديني، تعدّ من أقدم أشكال عبادات الإنسان للتواصل مع الآلهة . في العصور الأولى كان الإنسان يعبّر عن حاجته الروحية من خلال الطقوس البسيطة والتواصل مع القوى الطبيعيةـ أو ما اعتقد أنها قوى خارقة، مارس الطقوس كنوع من الشكر والاعتراف بالقوى الطبيعية مثل الشمس والمطر،
اهتم الباحثون في هذا الشأن بشكل واسع ومعمّق بوقت متأخر، وبدأت الدراسات السسيولوجية والانثربولوجية التي تطورت بشكل محسوس في القرن التاسع عشر بالانتباه الى الصلاة والعبادة مع تطور علم الأديان والدراسات المقارنة. فكان "ماكس مولر" و"إميل دوركايم" قد ركزوا على فهم الممارسات الدينية المختلفة في الحضارات القديمة، بما في ذلك الصلاة، في هذا الوقت بدأت الدراسات المقارنة بين الأديان في محاولة لفهم تطور العبادات والطقوس الدينية عبر الزمن، وتواصل هذا الاهتمام عبر القرون اللاحقة حتى أصبح موضوعاً بحثياً رئيساً في العديد من التخصصات الأكاديمية.
حينذاك تمكن الباحثون من معرفة ان الأدب السومري والأكدي يضم نتاجاً هائلاً من الصلوات والأدعية. في الحضارات السومرية والبابلية والمصرية كانت الصلاة تقام في المعابد الضخمة المعروفة بالزقّورات. ومع ظهور المجتمعات المتحضرة بدأ الانسان يعتقد بوجود آلهة تمثل قوى كونية، يعدّ التواصل معها حاجة أساسية لضمان التوازن في الحياة والمجتمع عبر الصلاة. وبظهور الأديان، أصبحت الصلاة جزءاً لا يتجزأ من العبادة والفعل المنتظم.
ضمن هذا السياق تأتي دراسة الكاتب فالح مهدي " صلوات الانسان من سومر إلى الإسلام" الصادرة في كتاب عن المركز العلمي العراقي 2009، لتشكّل إضافة مهمة ضمن الدراسات في حقل الأديان المعاصرة.
قدّم فالح مهدي جهداً علمياً شاملاً يستحق التقدير والثناء، ذهب بعيداً في التحري والتحقق والتحليل والمقارنة، والبحث في المصادر الأجنبية سعياً منه إلى إغناء موضوعه بالمضمون والمعنى، وهكذا دأب فالح في أغلب مؤلفاته من أن ينطلق نحو الأفكار والرؤى والمواقف، لا تلزمه لغة معينة ولا أسلوب محدد، ولا إملاء يعدّ قسراً على حرية الكاتب.
تتبع فالح الصلوات منذ النصوص السومرية الأولى، وصلوات الحيثيين، ثم صلوات الاوغارتيين، والمصريين القدماء، والصلوات الإيرانية القديمة، واليهودية، والمسيحية، وصلاة المسلمين، ثم الصلاة الصينية واليابانية، والهندية القديمة، وصلوات أمريكيا ما قبل كولومبيا، وصلوات الأقوام والشعوب السوداء.
هذا التتبع المتأني، بالتفاصيل الدقيقة يكشف للقارئ مقدار الجهد الذي بذله فالح، ومثل هذا الكتاب يحتاج الى من يناقش ما ورد فيه من آراء وأفكار، ولاسيما أن المعرفة تتسع لمزيد من الاختبارات. من هنا كان البحث عملاً متميزاً على درجة من الأهمية أثار فينا فاعلية السؤال والجدل. له فضيلة اقتحام القناعات في هذا الميدان، الأمر الذي جعلنا نراجع معرفتنا فيه بتأمل وبصيرة.
في التمهيد الذي تصدّر الكتاب، ينقل فالح مهدي قولاً للزعيم الهندي "المهاتما غاندي" يذكر فيه " الصلاة هي اعتراف بضعف شأننا، لله ألف اسم، أعني بذلك عدداً لا يحصر من الأسماء، فربما نغني نشيداً، أو نقوم بصلاة له باستعمالنا أي اسم نراه مناسباً، البعض يعرف باسم "راما" والبعض الآخر باسم "كرشنا"، وآخرون يسمونه الرحمن، مع أن البعض يسميه رباً. في كل تلك العبارات ليس هناك إلا كائن مقدس واحد. يبدو من خلالها أن الصلاة هي رغبة القلب في أن يكون جزءاً من الخالق، انها الدعوة إلى رحمته.
ما أراد فالح الوصول اليه هو ان الصلوات رغبة يراد بها الاتصال بالقوى الروحية للكائنات المقدسة عبر الديانات التوحيدية وغير التوحيدية، الأكثر قدماً كالسومرية، والأكثر حداثة المتمثلة بصلوات السود في الولايات المتحدة. والشعائر التي تنطوي عليها الصلاة تمثل ضرورة للشرط الإنساني منذ أقدم العصور للاتصال بقوى السماء، والشرط الانساني بذاته مرتبط بالثقافة العامة السائدة في لحظة ما من التطور الاجتماعي والاقتصادي والعلمي والتكنولوجي المرافق لتلك اللحظة .
استطاع الباحث أن يأخذ بالقارئ إلى عدّة تصنيفات للصلاة على وفق المنهجية التي اعتمدها، وضمن السياقات المختلفة يمكن أن تُفهم كـ "نص" و "موضوع " وتناولها من خلال جوانب متعددة سواء كانت دينية، أم لغوية، وثقافية، أو فلسفية.
الصلاة كـ "نص":
الصلاة تُعد نصًا دينيًا في جميع الأديان التي تمارسها. يتكون من كلمات وأدعية محددة تتم تلاوتها أو ترديدها خلال أداء الصلاة، ويمكن أن يكون النص ثابتًا أو متغيرًا حسب الدين والمذهب. في الإسلام: تلاوة سور من القرآن، وابتهالات وأدعية. في المسيحية: نصوص من الصلاة المعروفة "أبانا الذي في السماوات" وفي اليهودية: ترانيم وأدعية. الجانب النصي في الصلاة يتضمن الكلمات والعبارات للتعبير عن العبادة والتواصل مع الخالق.
الصلاة كموضوع:
تُعد الصلاة نقطة انطلاق لفهم العلاقة بين الإنسان والإله. فهي موضوع غني بالمعاني الروحية والرمزية، وتعكس حاجة الإنسان للتواصل مع الخالق. تتضمن الصلاة موضوعات مثل: العبادة، التوبة والتطهير والمغفرة، الشكر، الطلب والدعاء لتحقيق أماني الحياة.
الصلاة ليست فعلاً تعبدياً فحسب، إنما هي عملية تأملية وروحية تُترجم من خلال كلمات وأفعال تمثل الأبعاد الأساسية للممارسات الدينية. فضلاً عن جمالية النص في سرد المضامين، في الاسترحام والشكر والامتنان والتوسل والشفاعة والاعتراف والتوبة.
في تصنيف ثالث نتوقف عند الصلاة كـ" فعل" بمعنى فعل إنساني يراد به الاتصال بالمقدّس، هذا الفعل لا ينطوي على اللغة كوسيلة، فحركة اليدين، ثني القدمين، السجود، الركوع، الابتهال، المناجاة... الخ، كلها وسائل تمكّن ذلك الفعل من أداء عمله الذي يراد له أن يسهّل الاتصال بالإله أو الروح المقدسة..
وعلى وفق التصنيفات التي أوردها فالح مهدي، كيف لنا قبول فكرة الإيقاع والتكرار في الصلاة بوصفها مشابهة للموسيقى الكلاسيكية بكل تنوعاتها في سمفونيات بيتهوفن وباخ، وفي موسيقى الجاز عند "السود" يعيدون صلواتهم القديمة عبر تلك الايقاعات المتكررة؟ بينما الإيقاع الذي يعنيه المؤلف هو الإيقاع الحركي، والصوتي (تكرار الأذكار والتراتيل والأدعية) بشكل منتظم. ثم إيقاع الكلمات، تلاوة القرآن بطريقة التجويد مثلاً.
تشير الدراسات إلى أن الصلوات المتعلقة بالتضرع والابتهال هي الأكثر انتشاراً بين الشعوب والأكثر قدماً، انها تضع الانسان في مواجهة قوى الطبيعة في الكون.
وعلى الرغم من اختلاف الطقوس والتقاليد، فأن الصلاة في جميع الأديان والحضارات القديمة كانت ومازالت وسيلة ارتباط روحي وسعي إلى الطمأنينة والقوة الداخلية، تطورت أشكالها عبر الزمن، لكنها بقيت عنصراً جوهرياً في حياة البشر.
***
د. جمال العتّابي

في المثقف اليوم