قراءة في كتاب
علي حسين: هل تورطت بقراءة هذا الكتاب

"لا تهتما كثيراً، اعلم انكما لن تفهما" بهذه الجملة انتهى في الثامن عشر من تموز 1929 في كامبريدج في انكلترا، فحص الدكتوراه الشفهي الأكثر غرابة في تاريخ الفلسفة، حيث وقف امام لجنة المناقشة التي تألفت من برتراند لرسل وجورج مور، رجل في الاربعين من عمره ترك ثروة عائلته وامضى سنوات يعمل مدرسا في مدرسة ابتدائية، كان يدعى لودفيغ فنغشتاين، ولم يكن غريبا على الجامعة، حيث كان من قبل يدرس على يد برتراند رسل، وكان معروفا بين الطلبة بحدة ذكاءه وعبقريته.
كان فيتغنشتاين يطرح دائما سؤال: أي جدوى لدراسة الفلسفة ؟ " ويجد ان الفلسفة تتحول الى عبء عندما تمكنك من الحديث: " عن بعض المسائل العويصة في المنطق.. وإذا لم تُحَسن تفكيرك في المسائل الهامة للحياة اليومية " – الاستشارة الفلسفية ترجمة عادل مصطفى.
العام 1922 يصدر فيتغنشتاين كتابه "رسالة منطقية فلسفية"، قال لاحد اصدقاءه: " إن ما لا نستطيع التحدث عنه ينبغي ان نتركه للصمت، وسنجده يغادر انكلترا ليعود الى مدينته فينا، وخلال السنوات الفاصلة بين الحرب العالمية الاولى والثانية مارس العديد من الاعمال، ولم يصغ لنداءات تلامذته للعودة الى الفلسفة، حيث واجه بقرار مفاجئ وهو رغبته بأن يصبح معلماً في إحدى المدارس الابتدائية، بعد ان قرر ان يمنح نصيبه الكبير من ثروة والده المتوفى الى اشقائه، ولم يكن برتراند رسل معجبا بهذا الزهد والتخلي عن الثروة وقد قال له: " مليونير ويعمل معلما في قرية، بالتاكيد مثل هذا الشخص اما منحرف او أحمق ". " اعتقد فيتغنشتاين بعد ان اصدر كتابه " رسالة منطقية للفلسفة " – ترجمه الى العربية عزمي اسلام – ان المشكلات الكبرى في الفلسفة قد حلت حيث كتب في مقدمة كتابه: " إن الافكار التي سيقت هنا يستحيل الشك في صدقها، ولذا فإنني اعتقد ان كل ما هو اساسي في مشكلات الفلسفة قد تم حله نهائيا ". ولانه كان امينا مع نفسه فقد اكتشف عام 1929 خطأ بعض تصوراته وان عليه ان يعيد النظر في موقفه الفلسفي وان يبدأ من جديد وهذا ما فعله، فقد عاد مرة اخرى الى كمبردج ليمارس عمله الفلسفي من جديد، وهذه المرة سيكون مزودا بسؤال جديد عن الفلسفة واللغة، معلنا ان السنوات التي قضاها في تدريس الاطفال منحته تصور جديد للفلسفة، ولهذا نجده في كتابه " تحقيقات فلسفية " – ترجمه عبد الرزاق بنور – يكتشف ان افكاره في الرسالة المنطقية كانت افكارا خاطئة: " لقد اتيحت لي منذ اربع سنوات مضت ان اعيد قراءة كتابي الاول (رسالة منطقية فلسفية) لكي اشرح ما فيه من افكار الى شخص ما. وقد بدا لي فجأة انني يجب ان اطبع هذه الافكار القديمة والافكار الجديدة معا، لأن هذه الافكار الاخيرة لا يمكن فهمها فهما صحيحا إلا إذا تمت المقابلة بينها وبين طريقتي القديمة في التفكير.. فمنذ ان بدأت اعود للاشتغال بالفلسفة مرة ثانية، اضطررت ان اتبين أخطاء جسيمة فيما كتبته في الكتاب الاول " – لدفيج فتجنشتين تاليف عزمي اسلام –
يعود فنغشتاين ولكن هذه المرة ليطالب الفلاسفة نسيان تاريخ الفلسفة والالتفات الى الاشكال المعقدة لحياتنا من اجل ان يدركوا ما هو الانسان ؟
كان فيتغنشتاين يتذكر دوما مقولة نيتشه: "أصل نفسك حربا لا هوادة فيها ولا تهتم بالخسائر والأرباح، فهذا من شأن الحقيقة لا من شأنك أنت. وإذا أردت الراحة فاعتقد وإن أردت أن تكون من حواريي الحقيقة فاسأل".
ولد لودفيغ فتغنشتاين في فيينا عام 1889 لعائلة تعشق الموسيقى، كان بيتهم الكبير يضم سبع آلات بيانو، جميع افراد العائلة عازفون مهرة، ومن اجل شقيقه الاكبر سوف يؤلف الموسيقي الشهير موريس رافيل مقطوعته الشهيرة " بوليرو "، وكان الموسيقار براهامز صديقا حميما لوالده مثله مثل العديد من الرسامين والموسيقيين والادباء، الذين كان يعج بهم القصر كل مساء، الاب كارل ثري جدا، صاحب مصاهر للحديد
في الرابعة عشرة من عمره اخترع ماكنة خياطة تعمل بطريقة الدواليب، كان احد زملائه في الصف واسمه ادلوف هتلر، معجباً بأفكاره العلمية وطموحاته وذات يوم قال له: " أتمنى ان نصنع انا وانت سلاحا خارقا "، بعد سنوات سيتذكر هذا التلميذ وهو يشاهده يخطب بالملايين ويعلن الحرب على اوروبا. في سن العشرين باشر دراساته في مجال الهندسة، وسافر الى مانشستر ليدرس هندسة الطيران، فبدأت الرياضيات تستهويه، كما ستستهويه بعد حين مسائل المنطق والفلسفة، وسوف يتابع في كمبردج دروس برتراند رسل، تحول بعدها نحو الفلسفة، فاقم الصراع مع والده الذي كان يجد فيها مهنة غير مفيدة للعائلة، الامر الذي زاد من مرض العصاب الذي كان يلم به بين الحين والآخر، وذات يوم سأل رسل تلميذه فتغنشتين عندما رآه بحالة دائمة من القلق: " هل تفكر بالمنطق ام بخطاياتك " ؟ وأجابه بكليهما عندها اصبح رسل قلقاً على تلميذه الذي كان يرى فيه خليفته له، من ان يتجه نحو الجنون، ويكتب رسل في يومياته: " فتغنشتاين على حافة انهيار عصبي، وليس بعيدا عن الانتحار " .
كتب اول مؤلفاته في دفتر صغير، وسط ضجيج الآلات والتعب وتقلبات الجو، كانت غايته من الكتاب هو ايجاد حلاً لمشكلته مع الفلسفة، التي أصرّ على ان الجوهري فيه هو علاقة اللغة بحل مسائل الفلسفة والمنطق، فالجمل المجردة من المعنى وحدها تصف وقائع واحداثا تجري في العالم، لكن على اي شيء يتركز العالم ذاته، نسيجا وحضورا هذا هو ما يبقى التعبير عنه مستحيلا: " اذا كان لابدّ من ان أجيب على سؤال ما الأخضر الذي يطرحه شخص لا يعرف عن الأخضر شيئا فلا يمكنني الا ان اقول، هو هذا وانا أشير الى شيء اخضر بامكاننا ان نشير بالبنان الى هذا الواقع الخارج عن اللغة وان نبرهنه لكننا لا نستطيع التعبير عنه ". يُسمي فيتغنشتاين هذا الواقع بالمجازي، والخطأ الأكبر شيوعاً هو ارادة التعبير عن هذا المجازي الذي لا يوصف، لذا يضع مقابل هذا الوهم قاعدة تقول: " ينبغي اخفاء ما لانستطيع قوله".
اعطى اندلاع الحرب العالمية الاولى في العام 1914 فتغنشتاين منفذا لرغبته في الموت، لقد تطوع بسرعة في الجيش، على الرغم من وضعه الصحي، وتراه يكتب بعد سنوات: " ذهبت الى الحرب على امل ان يحميني الموت في المعارك من فكرة الانتحار "، شارك في الحرب بكل قواه، وكان من المرشحين لنيل الاوسمة عدة مرات، ونراه يمجد الحرب في قصيدة قصيرة، ويرسل الى استاذه برتراند رسل، رسالة يسخر فيها من دعواته للسلم، لكن نراه يكتب بعد سنوات: " وجدت نفسي مثل العديد
في الأسر ينتهي من كتابه الأطروحة، وبعد اطلاق سراحه عام 1919 يعود الى اسرته في فيينا، محملا بافكا شوبنهور المحبطة، أمضى ست سنوات في وظيفة معلم القرية، قطعها عام 1926 بشكل مفاجىء، ليعود الى فيينا حيث احتفت به " الجمعية الفلسفية في فيينا " التي اعتبرت كتابه " الاطروحة " لوحاً فلسفيا مقدسا، وكان اعضاء الجمعية ينتظرون بشغف حضور فيلسوفهم الكبير، لكنه خيّب املهم حيث ذهب ليعمل بستانياً في احد الاديرة قرب فيينا، كان يفكر بالالتحاق بالرهبان، لكن رئيس الدير رفض طلبه، لشكوكه بتصرفات فتغنشتاين التي كان يراى انها غربية وبعيدة عن الدين، عام 1929 تقرر جامعة كمبردج اعادته اليها، هناك استطاع بسهولة ان يؤثر باساتذته من جديد وقد وصف رسل الاطروحة بانها عمل شخص عبقري، ومع حصوله على شهادة الدكتوراه حصل على منحة محاضر، ظل فتغنشتاين في كمبريدج حتى عام 1936 ثم رحل الى النرويج حيث تفرغ لمدة عام في تاليف كتابه " ابحاث فلسفية " ثم عاد الى كمبردج ليخلف الفيلسوف مور على كرسي الفلسفة، ولما نشبت الحرب العالمية الثانية شارك فيها فعمل في احد المعامل الطبية، وعاوده القلق من جديد لنراه يعتزل كرسي الفلسفة عام 1947 ليستقر في مزرعة بالريف الايرلندي حيث عاش في وحدة تامة، وهناك اكمل الجزء الثاني من كتابه ابحاث فلسفية.
مرض فتغنشتاين في تلك الفترة مرضا شديدا، وتبين عام 1949 انه كان يعاني من مرض السرطان ليتوفى في 29 ايار عام 1951 وكان اخر عبارة قالها لممرضته: " قولي لهم انني قد عشت حياة رائعة ".
لماذا العودة الى فيلسوف صعب مثل فتغنشتاين ؟ ونحن نريد من الفلسفة ان تحُسن تفكيرنا في الحياة، لان الفلسفة نفسها لم تتمكن من تجاوزه برغم صعوبة كتاباته، حيث تستعد بريطانيا لاقامة ندوة فلسفية عالمية عنه، فيما تفتتح فيينا معرضا عن اعماله وحياته، في الوقت الذي ستصدر فيه عدد من الجامعات طبعة جديدة من كتابه " رسالة منطقية فلسفية ". كانت الرسالة قد نشرت للمرة الاولى باللغة الالمانية في المجلة الفلسفية، لكنها لم تلق الاهتمام إلا ان قام برتراند رسل بتكليف بعض طلبته بترجمتها الى الانكليزية لتصدر في كتاب، كتب المقدمة له رسل شرح فيها فلسفة فتغنشتاين مع تسليط الضوء على المصطلحات التي ضمتها الرسالة.. هكذا يعود فتغنشتاين من جديد، ويتم تسليط الضوء على مهمة الفلسفة التي كان يراها على قدر من التعقيد يكفي لايقاع الحيرة والارتباك ما لم توجد بعض الخيوط التي يمكن تعقبها خلال متاهة الوجود البشري، إن مراجعة للتاريخ الطبيعي للانسان يكشف لنا عما هو الانسان اليوم.
يوصينا فتغنشتاين ان نقترب من الفلسفة ليس من اجل ايجاد اجابة للاسئلة التي تشغلنا، بل من أجل الأسئلة نفسها، لأن هذه الأسئلة توسع تصورنا لما هو ممكن، وتثري خيالنا الفكري.
.في نهاية المناقشة ستوصي اللجنة في تقريرها الموقع من قبل برتراند رسل وجورج مور بان اطروحة الدكتوره المقدمة من السيد فنغشتاين هي من صُنع عبقري ".
هل تورطت مثلي وقررت قراءة كتاب " رسالة منطقية فلسفية " اسمح لي ان احدثك عن معاناتي، في منتصف السبعينيات يقع بيدي كتاب بعنوان " لدفيج فتجنشتين " تاليف عزمي إسلام، وهو الكتاب رقم " 19 " في سلسلة نوابغ الفكر الغربي التي كانت تصدر عن دار المعارف المصرية آنذاك. كان الاسم غريبا ومثيرا في نفس الوقت، دفعني الفضول لاقتناء الكتاب، وعندما وصلت الى البيت كنت متلهفا لمعرفة اسرار المدعو " فتجنشتين "، في ذلك الوقت أدرجت لنفسي، نظاما للقراءة كانت كتب الفلسفة جزء من هذا النظام، اغوص في تاريخ اصحابها، اتمتع بما يتيسر لي فهمه، واصارع احيانا كتباً ملغزة بالمصطلحات، وكنت أجد بعض الاصدقاء لا يقرأون كتب الفلسفة، لأنها مملة حسب تعبيرهم، لا يمكن متابعة قراءتها، وتتعارض لغتها مع متعة القراءة التي يبحثون عنها، في بعض الاحيان اوافقهم الرأي، خصوصا عندما اجد نفسي مع كتب محيرة مثل هذا الكتاب الذي يخبرني مؤلفه عزمي إسلام ان صاحبنا " فتجنشتين " من جماعة الفلسفة للفلسفة، وليس للفضوليين من امثالي، فقد كان يصر على ان عمل الفيلسوف هو أن يكون فيلسوفا للفيلسوف. كانت هذه الجمل اشبه بالاحجية بالنسبة لي، بعدها يوصيني مؤلف الكتاب ان اكون حذرا وانا ادخل عالم فيتغنشتاين الغريب الاطوار الذي ترك مدينته بعد ان تأثر عميقا بكتابات تولستوي عن الاخلاق والدين، فقرر السكن في الريف.
***
علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية