قراءة في كتاب
منى الصالح: الدرس الفلسفي في المدارس الدينية.. الواقع وأفاق الانتظار
اليوم أنهيت كتاب المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي: (الدرس الفلسفي في المدارس الدينية الواقع وأفاق الانتظار)1. حيث أخذني بين طياته برحلة سلسة للوقوف على تاريخ الدرس الفلسفي في مدارسنا الدينية بطريقة موضوعية، وبعيدا عن التقديس أو التقليل. من شأن من نتفق أو نختلف معهم.
يحسم الدكتور الرفاعي موقفه بصراحة في مقدمة كتابه بتشديده على إعطاء العقل مرجعية محورية، عندما يقول: "كلُّ شيء يخضع لمُساءَلة العقل ونقده وتمحيصه، العقل نفسه يخضع لمساءلةِ العقل، وتمحيصِ مفاهيمه، وغربلةِ أحكامه، وطريقة تعريفه لنفسه، وتفسيره لحقيقة معرفته، ومصادرها، وقيمتها. لا يضع الحدودَ للعقل إلا العقلُ، العقل يرسم حدودَه وما هو داخلٌ في فضائه، ويتدخل ببيان حقيقةِ ما هو خارج حدوده. لا يصدق التفكيرُ فلسفيًّا إلا لحظةَ يكتفي العقلُ في تصديقاتِه وحججِه وأحكامِه بذاته، فيكون هو مرجعية تمحيصِ تفكيره، ومرجعية ما سواه، والحكم عليه إثباتًا أو نفيًا. عندما يصمت العقلُ ويكفُّ عن وظيفته، تدخلُ الروحُ والعاطفةُ في متاهات".
كتاب الدرس الفلسفي في المدارس الدينية يعطيك فكرة دقيقة وواضحة لأبعاد وملابسات فكرة إبعاد الفلسفة عن الدراسة الدينية في بعض مراحل معاهد التعليم الديني، مع الوقوف على الدور الهام الذي لعبه بعض أساتذتها في حقب معينة بترسيخ دروس الفلسفة وعلم الكلام والعرفان النظري والسلوكي. الكتاب يفيد كل طالب في معاهد التعليم الديني ومثقف ومحب للفلسفة ومدرك لأهميتها رغم عدم تعمقه بها. فهو يتحدث عن دور الفلاسفة المسلمين، والإضافات التي قدموها في مسيرة الفلسفة، ثم ينعطف لنقد وتقويم الدرس الفلسفي في الحوزة بوصفها مثالا للفلسفة في معاهد التعليم الديني التقليدية.
بعد حديثه في الفصل الأول عن مكاسب دراسة الفلسفة في الحوزة يكتب الرفاعي عن خبرته الشخصية في الدراسة والتدريس للفلسفة لمدة 40 عاما في الحوزة والتأليف فيها، ويؤشر بصراحة للثغرات الأساسية التي تواجه الدرس الفلسفي في هذه الحاضرة الدينية، فيبسط البحث في التأشير على هذه الثغرات ويشخصها في: اختزال الفلسفة في الإسلام بملا صدرا الشيرازي، والافتقار للغات الفلسفة الغربية الحديثة، وتمركز الهوية الاعتقادية في التفكير الفلسفي في الحوزة، والارتهان بالمشاغل التقليدية للفلسفة، وعدم مواكبة إنجازات الفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة، وندرة النقد وعدم الجرأة على تجاوز الفلسفة الصدرائية، وقصور اسلوب التعليم التقليدي في تدريس ودراسة الفلسفة.
ما دمنا لسنا طلاب فلسفة، فنحتاج لمثل هذه الكتب، لنتعرف على موقعنا في خريطة تاريخ الفلسفة وأمام الفلسفة الغربية الحديثة وبكثير من الموضوعية، وخاصة حيث نعيش تحديات التقدم المتسارع للذكاء الاصطناعي، وكما يوضح الدكتور الرفاعي أنه: 'ينتج حالة لايقين شاملة تطول القيم والمعتقدات والثقافات. كلما تضخم اللايقين واتسعت مدياته اتسعت الحاجة لحضور فاعل للعقل الفلسفي. الأسئلة الوجودية الكبرى، وأزمات العقل والروح والعاطفة ليست من اختصاص العلم، ولا تقع في فضاء المادة والتجربة، من ينسى الفلسفة تنساه أعياد التاريخ".
"تنبعث الفلسفة لحظة إيقاظ العقل. الفلسفة إيقاظ متواصل للعقل وتحرير له من تسلط المعتقدات، والايديولوجيات، والهويات. التفكير الفلسفي يبدأ لحظة يتحرر العقل من أنماط الوصايات المتنوعة". بهذه الكلمات وبين سطور الكتاب الذي وجدت فيه نفسي، وقد أعادت لي طفولتي وصباي، حيث العقل المشاكس الذي ينقلني من حالة لأخرى دون هوادة، حيث كثيرا ماكنت أشكك بنفسي، لم لست كالأخريات؟! تستمع فترضى وتستقر، لم كل حادثة، أو مقولة، كل محاضرة وخطاب يأخذ من فكري مأخذا؟!
تتهاوى التساؤلات كبركان هائج يرمي بحممه النارية، يحيلني لساحة من العراك والسجالات الفكرية ، بل كل سؤال كان يفتح لي أبوابا لمئات الأسئلة، وهذا ماحدا بي نحو الكتب التي تعنى بالفلسفة، والكتب التي تحترم عقولنا فتثير وتنمي فيها ملكات التفكير النقدي والتحليلي، فالبيئة والثقافة التي تهتم بالفلسفة هي بيئة حاضنة لصنوف العلوم، وحضارة قادرة على أنتاج العلماء، كما يقول الدكتور : (لم يولد العلم إلا في أحضان الفلسفة).كل من حرمّ الفلسفة، وأتهمها بالكفر والزندقة بقصد أو بدون قصد إنما هي دعوة لتجميد العقل وتسطيحه، بحيث يصبح من السهل السيطرة عليه وأدلجته واستعباده.
***
منى الصالح - كاتبة سعودية
لندن 6-2-2025
......................
1- صدر الكتاب عن دار تكوين في الكويت، ودار الرافدين في بيروت، 2024.