قراءة في كتاب

شمس الدين العوني: فسحة في الكتاب الشعري "فسيفساء الظل والألوان"

للشاعر البشير المشرقي

الشعر هذا النهر القلق القادم من نبع البدايات حيث الكلمات والمعاني عناوين بوح وحلم وسفر تقصدا للقول بجواهر الأشياء وكنهها النابض وبالعناصر والتفاصيل وهي تمنح الأمكنة والجهات والعوالم شيئا من عنفوان بهائها .. والشعر هذا الساكن دواخل الكائن يعلي فيه وبه شؤونا وشجونا حيث اللغة تدعو بهاءها النادر في كثير من رفعة وجمال .. وحسن لا تضاهى..

هكذا نمضي مع القصيدة وهي تأخذ صاحبها الى شواسع شتى .. بما في النفس من عنفوان العواطف والذكرى والحنين .. صاحبه صاحبنا الشاعر الذي مضى من عقود خمسة في سفرح المخصوص مع الشعر حبا وهياما ودربا بث في الكلمات ما بنفسه من حتى.. من أحاسيس مقيمة بين اللذة والانكسار والألم والحب والأمل في رحالة بادخة من رومانسية تقول بشاعرها كائنا هائما بين الجمال والطبيعة والذكرى والحنين والحسرة وفق اشتغال فني وجمالي دقيق وعميق على القصائد التي مثلت بالنهاية عوالمه المثلى بما حوته من هشاشة ورهافة هي من نظرات الشاعر ورؤاه وهو يتقصد افصاحا بينا عن ذاته الحالمة والمنكسرة والمتحسرة على ما ضاع من جمال الأحوال كل ذلك في خيال تغذيه نعومة العبارات وحسن الكلام.. وهو الشاعر الذي مضى في رومانتيكيته المتأنقة بين الشعر الحر والعمودي وبفرط حساسيته لدرجة أن البعض من الشعراء يرونه على غرار الشاعر الفرنسي الكبير ألفونس دي لا مارتين Alphonse de Lamartine)‏ / 21 أكتوبر 1790 - 28 فبراير 1869) أحد أكبر شعراء المدرسة الرومانسية الفرنسية.

و هكذ ايضا نلج عوالم الشعر عند الشاعر البشير المشرقي الذي تعددت عناوين دواوينه ومنها هذا الذي نحن بصدده ونعني كتابه الشعري الممهور ب " فسيفساء الظل والألوان " الصادر حديثا عن دار خريف للنشر والتوزيع في 223 صفحة من القطع المتوسط وهوعمل شعري أبان فيه المشرقي عن توغله في تجربته الشعرية وفق رؤيته للشعر وللقصيدة باعتبار الوعي الناجم عن أعماقه وفق احساس جارف بالحنين وبالغربة وبالحلم الذي يظل مقيما لديه في القصائد وفي الحياة التي يرنو الى الجميل فيها والمشرق .. فالكتابة الشعرية لدى البشير ظلت ولعقود عدة بمثابة المحاولات المستمرة للارتواء والخصب والاخضرار في عوالم متحولة ومربكة تغذي ما في الكائن من اغتراب ووحدة ونزوع نحو الاحباط والتداعيات المريبة.. والشاعر نا في هذا الحنين الجارف يظل على قلق الانتظار واقفا يمجد هذا المكوث في بحار الاشتياق (ص38):

" أحقا في غد سيعود طير

و يهمي في قوافينا

و حين أرى طيرا يغني

و نجما في ليالينا ينير

و أسمع صوتهم في الأذن همسا

و موسيقى وأوزانا تغير

و أرجع بين جنبي اشتياق

كشوق الطير أرهقه الهجير

سلاما يا ليالي الأنس قلبي

على نار يؤججها الزفير

سأبقى واقفا والوقت يعدو

بمنديل الحنين لهم أشير.. ".

ان قصائد الشاعر في هذا العمل الشعري وفي غيره من مدونته الثرية بمثابة الطاقة المواجهة للحزن والكآبة المهيمنان على انسان هذه الأزمنة حيث خراب الأمكنة والحروب والصراعات التي هي نشاز عن الواقع الأمثل والطبيعة المحلوم ببهائها والأحوال المفعمة بالنشيد.. نشيد الذات في احتفائها بالجمال وفي عنفوان ألقها وهيجانها الرجيم على الرديء والدنيء وما يعكر صفو الذات وانسجامها مع الكون الجميل.. هذه الذات القائلة بشاعرها القلق الغائم كصباح في الطريق الطويل حيث الأفق بمثابة النفق ولا مجاك عند ذلك غير الشجن وبحار الذكريات، (ص48):

".. غائم كالصباح

و ممتلئ كالقلق

و الطريق طويل

و أفق الفؤاد

نفق

لا عصافير تشدو

على شجر

لا غناء يبدد

وحشة هذا

النهار

و لا قمر في

السماء يلوح

الشتاء على

قاب قوسين

و العمر نوارة

في مهب الرياح

و وجهك غائمة

قسماته

سيجارة

في يدي

كالربيع الذي

قد مضى تحترق

و شجون وبحر

من الذكريات

على ساحل الروح

هاطلة

أين نمضي اذن

قلت للقلب

و الطرقات معطلة

و الخطى أخطأت

دربها.. ".

هذا الكون المكلل بالأسى وبالحلم دفعة واحدة .. فيه للحلم الجميل مكان وفيه للشجن المعتق أمكنة حيث للطير هنا فسحة حرية وتشوف وآمال هو عين رغبات الشاعر البشير المشرقي الذي يحاول ويحاورالعناصر والتفاصيل بأرض الشوق الممتدة وما فيها من أمنيات جمة وأغنيات مبهجة بعيدا عن قتامة الأشياء والسواد المحزن واليأس .. (ص 124-125) :

".. ورأيتني في الحلم طيرا هائما

بين الخمائل في حماهم ينشد

يهمي الحنين على جناحه أنهرا

و الشوق في أحشائه يتوقد

و فتحت أسفار الهوى فوجدتها

خضراء يانعة كغصن البان

فيها من الشوق الكبير جحافل

و سحائب تهمي على أغصاني.. ".

هذا هو كون الشاعر البشير المشرقي وهو المفصح في نشيده الخافت وفي شجن عظيم عنوانه الحلم في شوق هائل وبهجة وانكسار .. وهو كون الأحاسيس المبينة في كل ما تحيل اليه من أريحية للنفس وهي تتمرد على سلبيات الحياة والكائنات لأجل عالم يمقت الاحباط واليأس ويعلي من ثورات الوجدان .. الوجدان الشاعري في تعدد نظراته وعواطفه النبيلة تجاه الآخرين .. تجاه العالم.اها رحلة الشاعر ومغناته في دروب الحياة بما يشبه الملحمة .. أو لنقل انها ملحمة الشاعر.. الملحمة المشرقية في شؤونها وشجونها حيث الغناء ايقاع القصائد وسلوى الشاعر وبوحه المخفي من قدم في الضلوع.. (ص 62) :

 " غنيت لم أطلب جزاء أروعا

من أن أغرد في الحياة وأبدعا

حاشا ضلوعي أن تكون ضنينة

بالبوح كم فيها العبير تضوعا.. ".

و هكذا .. فان عمل الشاعر البشير المشرقي الذي نحن بصدده ونعني كتابه الشعري الممهور ب " فسيفساء الظل والألوان " مجال جديد ومتجدد للقول الشعري المنسجم مع تجربة الذات والحياة لشاعر عرف ضمن جيله الثمانيني بهذا الدأب والحرص ضمن نهجه المتقصد كتابة وأسلوبا والشعر هنا يسير وفق خيط ناظم هو وجدان الشاعر ونظرته المفعمة بالتأملات والأحاسيس العميقة في أزمنة السقوط والعبور وبذاءة الحال.. والأحوال.. شعر ينفذ سريعا وعميقا طوعا وكرها الى الدواخل حيث الروح المتشظية بين الوجيعة والحلم والجمال .

***

شمس الدين العوني

في المثقف اليوم