قراءة في كتاب

طه جزاع: مدارات فلسفية... مقابسات مسكويه في تهذيب الأخلاق

على الرغم من ان مسكويه " 325 – 421 ه " قد ترك ما يقرب من ثلاثين مصنفاً تنوعت بين كتاب ورسالة ومقالة، لكن أغلبها تعرض للتلف والضياع باستثناء كتب قليلة اهمها " الفوز الاصغر"، و" الحكمة الخالدة" الذي هو بمثابة تقديم لكتاب " تجارب الامم وتعاقب الهمم"، و" ترتيب السعادة"، وكتاب "تهذيب الاخلاق وتطهير الأعراق"، وهو كتاب "الفوز الأكبر" ذاته، كما يرجح الدكتور عبد العزيز عزت، خلافاً لما ذهب اليه كل من كتب عن مسكويه .

في هذا الكتاب كثيراً ما يأخذ أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب "مسكويه" بآراء تربوية واخلاقية تعود الى افلاطون وارسطو جعلها ضمن دستوره الاخلاقي لتربية النشأ التربية الصحيحة، انطلاقاً من ان مهمة التربية الحقيقية تكمن في اعادة تشكيل حياة الانسان والمجتمع، كما انه ينظر الى احداث التاريخ على أنها يمكن ان تحدث احياناً بالوضع والايقاع نفسيهما "التاريخ يعيد نفسه" لذلك ينصح العاقل ان يتخذ من التاريخ درساً وعبرة. وهناك من الباحثين في تاريخ الفلسفة الإسلامية أمثال هنري كوربان يؤكدون أنه يمثل ذلك النوع من الفلاسفة الذين يتذوقون بشكل خاص دراسة العادات والحضارات والامثال والحكم، كما يلاحظ ماجد فخري بغرابة اننا نكاد لا نجد في الفكر العربي قديمه وحديثه بحثاً واحداً في الاخلاق اذا استثنينا كتابي يحيى بن عدي، ومسكويه في "تهذيب الاخلاق" اللذين نسجا فيهما على منوال ارسطو والرواقيين من الفلاسفة اليونان، كما يشير الى أن بعض المؤرخين، لسبب نجهله، اصطلحوا "على قصر ابحاثهم على طائفة محظوظة من الفلاسفة، كالكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن خلدون، فتجاوزوا عن عمد أو غير عمد، عدداً من أئمة الفكر العربي، كأبي بكر الرازي ومسكويه". وقد نوه أحمد امين في كتابه " الاخلاق" الذي اصدره عام 1920 بمسكويه اذ عده "اكبر باحث عربي في الاخلاق" مشيراً الى أنه في كتابه "تهذيب الاخلاق" حاول ان يمزج تعاليم افلاطون وارسطو وجالينوس بتعاليم الاسلام، ولكن لم يسر كثير من علماء العرب على منواله. ويرى محمد عابد الجابري ان مسكويه ينتمي كمعاصره العامري الى جماعة "المقابسات" وينطبق عليه ما ينطبق عليهم: "لقد خاض في موضوعات شتى، واقتبس من هذه الثقافة او تلك، ونقل عن هذا المؤلف وذلك"، وهو يَّعدُ كتاب "تجارب الأمم" عبارة عن نقول حرفية من الطبري ومن معاصريه، اضافة الى مشاهداته، اما كتابه "الحكمة الخالدة" فهو يشتمل على وصية تحمل الاسم نفسه "جاويذان خرد" لملك فارسي يوصي بها ولده من بعده، اضافة الى حِكَم ومرويات من كل الامم ابتدأها بحِكَم الفرس والهنود والعرب والروم، ثم حكم الاسلاميين المحدثين، ويختمها بأقوال أفلاطون ووصايا ابي الحسن العامري وكلمات للجاحظ. ويعرج الجابري على كتاب تهذيب الاخلاق ويصفه بانه تأليف بين آراء افلاطون وارسطو وجالينوس وغيرهم: "يعتمد نظرية افلاطون في ما يخص النفس وطبيعتها وقواها والفضائل المقابلة لهذه القوى، اضافة الى افعال ينسبها لأرسطو وهي لأفلاطون، هذا الخليط من الآراء والمرجعيات صاغه مسكويه صياغة فريدة بمظهر علمي ارسطي، ومضمون متنوع يتناقض كثير منه مع الروح الأرسطية، انها ظاهرة المقابسات تفرض نفسها هنا حتى على ما اريد منه ان يكون خاضعاً لمنهج علمي".

عوضاً عن كتبه المهمة هذه، فإن لمسكويه مصنفات ورسائل وكتب اخرى، ذكر بعضها القفطي في اخبار العلماء بأخبار الحكماء مثل كتاب "أنس الفريد" وهو في الحكايات القصار والفرائد اللطاف، وكتاب" الادوية المفردة"، و"في تركيب الأطعمة"، كما يذكر له ياقوت الحموي كتباً مثل "الجامع" و"السيرة" و"مختار الشعر". أما رسائله فيحصيها الدكتور عبد العزيز عزت في كتابه الشامل "أبن مسكويه فلسفته الاخلاقية ومصادرها" وبعض هذه الرسائل قصيرة إذ لا يتعدى الواحدة منها الصفحة الواحدة، أو الصفحتين فقط مثل "رسالة في الطبيعة"، و"رسالة في اللذات والآلام"، و "رسالة في جوهر النفس"، و"مقارنة في النفس والعقل"، و" مقال في اثبات الصور الروحانية التي لا هيولى لها "، و"تعريف الدهر والزمان"، و "الوصايا الذهبية" لفيثاغورس، و"وصية لطالب الحكمة" وهي ضمن كتاب "صيوان الحكمة" لابي سليمان المنطقي. ويُصنف كتاب مسكويه" تهذيب الاخلاق وتطهير الأعراق" كواحد من أهم كتب الفلسفة الاخلاقية والتربوية، وقد اعيد طبع هذا الكتاب مراراً سيما في مطابع القاهرة وطهران وبيروت، ومن أشهر الطبعات تلك التي حققها قسطنطين زريق ونشرت في بيروت عام 1966 مع تقديم للشيخ حسن تميم. ويلخص مسكويه غرضه من تأليف هذا الكتاب بقوله: ان نحصل لأنفسنا خلقاً تصدر به عنا الافعال كلها جميلة، وتكون مع ذلك سهلة علينا لا كلفة فيها ولا مشقة، ويكون ذلك بصناعة وعلى ترتيب تعليمي، والطريق في ذلك أن نعرف اولاً نفوسنا ما هي ؟ وأي شيء هي؟ ولأي شيء أُوجدت فينا ؟ أعني كمالها وغايتها، وما قواها وملكاتها التي اذا استعملناها على ما ينبغي بلغنا بها هذه الرتبة العلية، وما الاشياء العائقة لنا عنها، وما الذي يزكيها فتفلح، وما الذي يُدَّسيها فتخيب. وبذلك يشير الى قوله عز وجل في الآيات 7،8،9، 10، من سورة الشمس: "ونَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أفْلَحَ مَن زكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا". لكن كيف يفلح من زكى نفسه، وكيف يخيب من دسَّاها ؟ هنا يبدأ مسكويه برنامجه التربوي والاخلاقي والنفسي الذي لابد ان يقوم على صناعة وترتيب وتخطيط ونظر متأمل في قوى النفس ومكانتها التي اذا ما وجهها الوجهة الصحيحة فإنها تقود الى بناء الانسان الصالح، اي انه يقوم ببناء برنامج تربوي سيقوم بعرضه في مقالات كتابه المؤلف من سبع مقالات هي على التوالي : تعريف النفس الإنسانية، الاخلاق والطبائع، الفرق بين الخير والسعادة، اعمال الانسان، أنواع المحبة، الامراض النفسية، واخيراً المقالة السابعة التي تحمل عنوان الطب النفساني .ويبحث في المقالة الاولى في الفرق بين النفس والجسم متوصلاً بالأمثلة والنظر الفلسفي الى أن النفس ليست جسماً ولا جزءاً من جسم ولا عرضاً، وانها تشوق الى ما ليس من طباع البدن وتحرص على معرفة حقائق الامور الالهية، وتميل الى الامور التي هي افضل من الامور الجسمية، ولأن النفس ايضاً تقبل صورة الاشياء كلها على اختلافها من المحسوسات والمعقولات فأن الانسان يزداد فهماً " كلما ارتاض وتخرج في العلوم والآداب "، وبذلك يؤكد مسكويه دور التعلم في بناء الانسان من خلال صقل النفس التي تمتلك من القوى والملكات ما يجعلها قادرة على التعلم وتحصيل المعارف والعلوم والآداب ومؤهلة للتعرف على حقائق الامور وجواهرها. ويعود الى تأكيد ذلك في المقالة الثانية عن الاخلاق والطبائع بقوله "ليس شيء من الاخلاق طبيعياً للإنسان، ولا نقول انه غير طبيعي، وذلك أنا ننتقل بالتأديب والمواعظ اما سريعاً أو بطيئاً"، ويفرق بين الكمال النظري والكمال العلمي، فالكمال الاول منزلته منزلة الصورة، والكمال الثاني منزلته منزلة المادة" وليس يتم أحدهما إلَّا بالآخر لأن العلم مبدأ والعمل تمام، والمبدأ بلا تمام يكون ضائعاً، والتمام بلا مبدأ يكون مستحيلاً وهذا الكمال هو الذي سميناه غرضاً، وذلك ان الغرض والكمال بالذات هما شيء واحد، وانما يختلفان بالإضافة، فاذا نظر اليه وهو بعد في النفس ولم يخرج الى الفعل فهو غرض، فاذا خرج الى الفعل وتم فهو كمال، وكذلك الحال في كل شيء لأن البيت إذا كان متصوراً للباني، وكان عالماُ بإجرائه وتركيبه وسائر اصوله كان غرضاً، فاذا اخرجه الى الفعل وتممه كان كمالاً"، وبذلك يفرق بوضوح بين وجود الشيء بالقوة ووجوده بالفعل "على وفق فلسفة ارسطو". واذا ما طبقنا ذلك على المنهاج التربوي والتعليمي واسسه النفسية واغراضه الاجتماعية فأننا نجد ان مسكويه يدعو الى بناء ذلك المنهاج ليس على اسس نظرية فحسب، وإنما على نظرة عملية تحقق الكمال والغاية استناداً الى وضع تصور واضح عن المتلقي وقدراته الذهنية وملكاته النفسية، وهذه من الامور المهمة جداً في اي منهاج تربوي هادف، لأن هذا التحويل للاطار النظري الى حياة، أدى ويؤدي كما يستنتج محمد جلوب فرحان الى ظهور شخصية جديدة للفرد والمجتمع، تتميز عن شخصية الفرد والمجتمع السابقة، هذا التحويل هو الذي نعنيه بالتشكيل "التربية" لأنه تشكيل جديد وفق مقاييس جديدة. وفي موضوع النفس فإن مسكويه ينظر اليها على أنها جوهر مغاير لجوهر الجسم لأنها لا تتغير ولا تستحيل كما تتغير وتستحيل الاجسام، وانه بهذا الحد لا يختلف عن حد افلاطون لها، الذي يحدها – اي يعرفها – بأنها جوهر مخالف لجوهر البدن، وكل من النفس والبدن يتشوق الى افعال تناسب طبيعته وجوهره، وكل يشتاق لما يناسب طبيعته، على حد تعبير الدكتور ناجي التكريتي في كتابه "فلسفة الأخلاق بين أرسطو ومسكويه". كما يحذو مسكويه حذو افلاطون في تقسيمه لقوى النفس الى ثلاث قوى هي القوة الناطقة، والقوة الشهوية، والقوة الغضبية، وكما ان للنفس ثلاث قوى كذلك لها ثلاث فضائل، ففضيلة النفس الناطقة هي الحكمة، وفضيلة النفس الشهوية هي العفة، وفضيلة النفس الغضبية هي الشجاعة، ثم يحدث عن هذه الفضائل الثلاث، باعتدالها، ونسبة بعضها الى بعض فضيلة، هي كمالها وتمامها وهي فضيلة العدالة. فلذلك اجمع الحكماء أن أجناس الفضائل اربع وهي: الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة، وأضداد هذه الفضائل الأربع اربع ايضاً وهي: الجهل والشره والجبن والجور، وتحت كل واحد من هذه الاجناس انواع كثيرة. والفضائل أوساطاً بين اطراف، اتساقاً مع تعريف ارسطو للفضيلة بانها وسط بين رذيلتين، ولذلك فأن الرذائل هي الاطراف، وهي التي تضاد الفضائل التي تقصاها وذكر اقسامها وانواعها واجزاءها، كالحكمة التي هي وسط بين السفه والبله، والعفة التي هي وسط بين رذيلتين هما الشره وخمود الشهوة، والشجاعة التي هي وسط بين الجبن والتهور.

***

د. طه جزاع – كاتب أكاديمي

في المثقف اليوم