قراءة في كتاب
جمال العتابي: دار المعلمين العالية.. أرثي مجدك المضاع
هل يمكننا استعادة صورة من الماضي لتمسح بعض عثراتنا واخفاقاتنا وخطايانا؟ أم أنها ستكون ذاكرة للألم وحده؟ إذ نعيش مرحلة الفشل التربوي والعلمي الآن، في أسوأ صورها من التردي والتراجع على صعيد المستوى الهابط الذي انحدرت اليه مؤسساتنا الأكاديمية العراقية للأسف الشديد.
الصورة التي نستعيدها لدار المعلمين العالية التي تشكلت منذ عام 1923، أي منذ السنوات الأولى لتأسيس الدولة العراقية وقيام الحكم الوطني فيها، وكان لنشاطها العلمي والثقافي والسياسي والاجتماعي دور بارز في حياة المجتمع العراقي في العهد الملكي. وبإمكان المتابع أن يتعرّف على هذا الدور عبر ما قدّمه الباحث الدكتور جواد كاظم الخفاجي في (موسوعة أعلام دار المعلمين العالية العراقية) الصادرة عن ( دار نشر ومكتبة عدنان – بغداد 2021 الطبعة الأولى).
كانت الحاجة قائمة لفتح مدارس متوسطة وثانوية، وتقتضي الضرورة تأهيل مجاميع من الطلبة وإعدادهم للتدريس في تلك المدارس، فقررت وزارة المعارف أنذاك فتح صف مسائي لهذا الغرض في الطابق العلوي من المدرسة المأمونية في بغداد أشرف عليه ساطع الحصري، وضمت الدورة الأولى أحد عشر طالباً من معلمي ومدراء المدارس الابتدائية، من بينهم: سلمان الشواف، عوني بكر صدقي، عبد الكريم جودت، هاشم الآلوسي.
اهتمت الموسوعة في تسليط الضوء على الكثير من الشخصيات التي ضمّتها رحاب دار المعلمين العالية سواءً من الأساتذة أو من الإداريين أو من الطلبة الذين درسوا فيه وتخرجوا فيها على مدى أجيال، ولم تقتصر الموسوعة على الشخصيات العراقية فقط، إنما تضمنت العديد من الأساتذة العرب والأجانب الذين درسوا فيها، فضلاً عن الشخصيات العربية المشهورة الذين تخرجوا من الدار. يكفي الدار مجداً أن السياب أحد طلبتها، وجواد سليم أول من أسس مرسماً فيها.
أسهمت دار المعلمين العالية في صنع تاريخ العراق الحديث عبر أولئك الخريجين في مختلف الاختصاصات العلمية والأدبية، فأصبح منهم القادة في السياسة والفكر والعلم والأدب والفن والشعر والتربية والتعليم، وكان الأساتذة من الرواد والأوائل الذين درسوا في الدار التي تحوّل اسمها الى (كلية التربية عام 1958) لهم الدور الكبير والمتميز في بناء هذا الصرح العلمي والثقافي، ووقع عليهم العبء الأكبر في نمو هذه المؤسسة وازدهارها، واستمرارها في النشاط التعليمي والتربوي إذ يتعين على وزارة المعارف أنذاك تعيين خريجيها كمدرسين في مدارسها الثانوية. في الوقت ذاته كانت الوزارة تستقبل خريجي دار المعلمين الابتدائية ودار المعلمين الريفية لتعيينهم كمعلمين في المدارس الابتدائية. هاتان المؤسستان كانتا رافداً آخر للمعرفة والأدب ومشاريع للعمل والأمل وتجارب التربية الرصينة التي لا يمكن فصلها عن تاريخ الوطنية العراقية، كعلامات بارزة في الدراسات الأكاديمية والثقافية. تلك العلامات في حدود تاريخها، تمثل حضوراً متميزاً لجيل من التربويين الرواد في العراق، ومع ان النظرة العامة العابرة لا يمكن أن تستقصي أبعاد التجربة كلها، كما انها لا تستطيع أن تقع على حرارة الإخلاص التي تشعّ منها إلا انها تستطيع أن تؤكد حقيقة واحدة هي : ان خريجي تلك المعاهد أرادوا التعبير عنها بقدر وافٍ من الوفاء في امتلاك المهارات وقدر أوفى من المعرفة في ميادين العلم والثقافة والفن.
موسوعة الخفاجي ترجمة لعدد من أعلام الدار، تعدّ جهداً طيباً ومهماً خدم فيه النهضة الفكرية والثقافية العراقية في القرن العشرين، وإن كنا نتطلع إلى مواصلة هذا الجهد بأجزاء أخرى للموسوعة، فما زال الباب مفتوحاً للتأليف في هذا الشأن ليضم المئات من الأساتذة والخريجين لأجيال لاحقة، كي يصبح هذا العمل رمزاً لأعلامنا العلماء الذين رسموا للعراق طريقه، وللأجيال مستقبلها، وسيكون مرجعاً مهما للباحثين والطلبة والراغبين في دراسة رواد العلم والمعرفة في العراق. هؤلاء الكبار في ذاكرتنا، الكبار في التجارب والابداع والأصالة، استطاعوا أن يصبحوا كباراً في العقول والنفوس ويفرضوا عالمهم علينا. ربما نحتاج إلى مؤلفات عديدة تستطيع أن تستوعب أسماء أولئك، لكن من المفيد أن أذكر القليل الذين استعرض الخفاجي سيرهم الشخصية بإيجاز، منهم : إبراهيم شوكت الباحث في الجغرافية، إبراهيم عبد الله محيي، الباحث في علم النفس، مؤسس الكلية الجامعة نواة الجامعة المستنصرية، إبراهيم المازني الكاتب المصري المعروف، أحمد حسن الزيات من أعلام النقد والأدب في العصر الحديث، أحمد عبد الستار الجواري، الوزير واستاذ الأدب واللغة، أحمد حقي الحلي، خبير فلسفة التربية، بدر شاكر السياب، العالم بشير اللوس، جابر عمر الوزير والتربوي، جعفر خصباك أستاذ التاريخ، جواد علي مؤرخ تاريخ العرب قبل الإسلام، حسين علي محفوظ أستاذ التراث وشيح بغداد، وكان رائد المسرح العراقي حقي الشبلي قد انتدب للعمل في الدار للاشراف على الفن والمسرح، زكي مبارك أحد أعلام الأدب المصري، ديزي الأمير وذو النون أيوب من رواد كتابة القصة والرواية في العراق.ساطع الحصري أشهر دعاة القومية العربية، مؤرخ وتربوي وضع الأسس الأولى لمناهج التعليم في العراق، سعدي يوسف الشاعر المعروف، الشاعر السوري سليمان عيسى والشاعر شاذل طاقة ووزير الخارجية، وسعيد الديوجي اختص في الآثار وكان له الدور الأساس في تأسيس المتحف العراقي، ثم أصبح عضواً في المجمع العلمي العراقي 1965 وصفاء خلوصي وصالح أحمد العلي، وطه باقر من رواد العمل الآثاري في العراق، شخصية غزيرة العلم، واسع المعرفة، قدم لبلده خدمات عظيمة في مجالات التنقيب والاستكشاف والكتابة والترجمة والتدريس، وعاتكة الخزرجي الشاعرة والأديبة، وعالم الاجتماع عبد الجليل الطاهر، وعبد الرزاق عبد الواحد، عبد الرزاق محيي الدين، وعبد العزيز الدوري، الشاعر عبد الوهاب البياتي، علي جواد الطاهر، فاضل حسين الأستاذ في تاريخ العراق الحديث، نوري جعفر الشخصية الوطنية المرموقة، والعالم في فلسفة التربية، فيصل السامر المتخصص في التاريخ الإسلامي، ثم وزير الإرشاد في حكومة عبد الكريم قاسم بعد 14 تموز 1958، يوسف زينل عالم الطبيعيات الذي كشف موعد زيارة الداعية الصهيوني (الفريد موند) إلى بغداد عام 1928، وكان سبباً في اندلاع تظاهرات كبرى في بغداد تنديداً بالزيارة، ورفض المخططات الصهيونية في المنطقة. كامل الدباغ، كمال إبراهيم، الشاعرة لميعة عباس عمارة، وأستاذ الآثار محمد بهجة الأثري، وفؤاد سفر، واستاذ التربية والسياسي محمد فاضل الجمالي الذي شغل مناصب دبلوماسية عدّة وكان رئيساً للوزارة في العهد الملكي ووزيرا للخارجية.... وغيرهم العشرات.
على وفق هذه المستويات الفكرية التي خلقتها تجربة الدار، تصبح دراستها جديرة بالانتباه، كونها معطى غير مسبوق وغير مستهلك، الأمر الذي جعل من هذه المحاولة في التوثيق ..عملاً يحتل موقع الإثارة والانتباه.
يكفي المؤلف أنه أمدّنا بمعرفة عدد كبير من رواد الأدب والمعرفة والعلم في العراق وفي البلدان العربية، وقرّبنا إلى عالمهم في الدراسة والتخصص والشهادة، ليوجّهنا بكل نباهة وحرص تام على إيقاظ وعينا نحو معطيات الابداع العراقي الذي حقق حضوره الفاعل خلال تلك التجربة، ولعل تراجم بعض الشخصيات كانت خصبة لأنها أغنت بعطاءتها الفذّة، وأخرى كانت بحاجة إلى إغناء تعمّق صلة القارىء بهذه الشخصيات الذين شكلوا كلاً مشتركاً أطل على العالم في كل مكان .
ليست هذه الأسباب جميعاً وراء اهتمامنا بتقديم هذا الكتاب، انما الأهمية فيه لأنه أعطى الضوء للباحثين في إكمال هذا الجهد ليكون مدار جدل وفعل وحركة. وأثار في نفسي – أنا كاتب المقالة - ذكريات جميلة تعود لأيام الدراسة في كلية التربية منذ أواسط ستينات القرن الماضي، فشكراً للسيد جواد الخفاجي الذي أيقظ فيّ الحنين إلى تلك الأعوام، واشعل الأحاسيس الخامدة في الأعماق.
ها أنا كلما أقف أمام واجهتك: أرى مبنى ليس له شميم الماضي، ولا عطره ولا ذكرياته، ولا حتى متاعبه، لم يعد الماضي يسكن الدار بعد أن لملم زمانه الشائخ وانطوى، أمامك تسقط أوراقنا وحقائبنا التي تحمل أسرارنا وأحلامنا، نحن الذين تعلمنا في أروقتك شرط وجودك الإنساني المتسامي، ومقامك العلمي الرفيع، وإرثك الباذخ في التفوق، ها أنا أرثي مجدك المضاع ، لأن الزمن لم يعد يأبه بالعلم والمدرسة، فأي إرث هذا الذي تزمين فيه شفتيك كرهاً كي لا تموتي؟.
***
د. جمال العتابي