قراءة في كتاب

جمال العتّابي: (ثورة الزنج) للدكتور فيصل السامر

تحولات الوعي في كتابة التاريخ

صدور كتاب (ثورة الزنج) في خمسينات القرن الماضي  لمؤلفه الدكتور فيصل السامر يعدّ منعطفاً كبيراً في كتابة التاريخ الاسلامي، إذ قدّم السامر دراسة منصفة  لحركة لم ينصفها المؤرخون بعد، وكان يبدو صعباً انصافها لأن قروناً من التاريخ (الرسمي) تواطأت على ادانتها، وقالت فيها ما لم يقل الإمام مالك في الخمرة.

أجل امتدت يد بارعة إلى الأكداس المتراكمة من وثائق (الادانة) لحركة الزنج فغربلها، وكما تنمو الحياة نمت الحقائق التي خشينا يوماً أن تكون قد ضاعت إلى الأبد فإذا به يضع كل شيء في نصابه ويعطي لله ما لله وما لقيصر لقيصر.

وفي بحث كهذا يكشف صاحبه القناع عن الحقيقة يتوجس المرء أن يندفع الباحث في تعصب مضاد، والحق ان فيصل السامر في كتابه هذا شخّص محاسن الحركة وعيوبها مسرودة بأمانة علمية محمودة وبموضوعية وحيادية يندر أن نجدها عند بعض المؤرخين، إذ استطاع أن يشذّب ما علق بأسبابها من دعاوى زائفة، فأخذ على عاتقه البحث في ثورة الزنج ليقيم الدليل على امكانية كتابة التاريخ بأسلوب جديد  يعير الحركات الاجتماعية أهمية كبيرة بمنظار جديد.

كانت الحركة انتفاضة العبيد المظلومين الذين التقت احلامهم بطموح رجل مؤهل للقيادة هو محمد بن علي،

لم تكن الحركة برأينا مؤهلة تاريخياً لحل قضية المظلومين في ظل النظام الاقطاعي السائد والمهيمن. الذي جلب الآلاف من الأيدي العاملة الرخيصة من شرق أفريقيا لاستصلاح الأراضي الاقطاعية في البصرة، كان هؤلاء يعيشون حياة بائسة وقاسية، في ظروف عمل شاقة جداً، وكان الملاكون ووكلاؤهم يسومون الزنج سوء العذاب، كانوا مهيأين ان يكونوا وقود ثورة لا تحتاج إلا عود كبريت لاشعالها. فظهر فيهم (علي بن محمد) رجلاً طموحاً، ذكياً وموهوباً، بدأ حياته شاعراً في بلاط الخليفة العباسي في العاصمة سامراء، ثم أغوته حياة الخلفاء والقصور الى الطموح السياسي لتكون حافزاً ان يتخذ من (العبيد) جنداً لحركته الثورية في 255 هجرية. وأثبت انه قائد عسكري بارع، استطاع خلال عشرة أعوام من السيطرة على رقعة جغرافية واسعة تمتد من الاهوار والأبلّة والبصرة وعبادان الى واسط ومشارف المدائن.

إلا ان الحركة شهدت نهايتها في مقتل زعيمها عام 270 هجرية، واستسلام من بقي من اتباعه في ظروف قتالية غير متكافئة.

يمضي السامر الى القول ان قائد الثورة  تعرض الى أشد الطعون، فسمي بدعي آل البيت لأنه نسب نفسه لهم، ومهما كان من وراء قصده وثورته فان هذا لا يضعف حق أوائك الناس في ثورتهم، ولا يشرع استعبادهم.

والحقيقة ان اسباب الثورة تعود الى الخلافة العباسية كانت غارقة في الفساد والظلم الذي طال جميع الأقوام والفئات الاجتماعية، ولم يكن (السود) وحدهم من تعرض للقهر الاجتماعي، بل كان عاماً وشاملاً، فتعرضت الخلافة الى تحديات كبيرة تمثلت بالثورات والانتفاضات وحالات التمرد التي هددت كيان الدولة وأربكت سلطتها إذ أوشك الثوار أن يسقطوا الخلافة في بغداد  بعد أن وصلت طلائعهم الى مقربة من مدينة العزيزية على بعد 70 كم من العاصمة العباسية.

ان الدراسة التي قدمها فيصل السامر عن ثورة الزنج تثير أسئلة عديدة حول كتابة التاريخ وقراءة التراث ومحاولات التزييف التي مارستها الطبقات السائدة كحرفة مارستها باستمرار لمعارضة الحقيقة الموضوعية، واستطيع أن أورد هنا مثلاً مستمداً من تاريخ الطبري، وهو مؤرخ كبير يتمتع بقدر من النزاهة، ذكر أخباراً متضاربة من دون أن يبدي فيها رأياً، وانما اكتفى بالإحالة على السند وتخريج الخبر من وجوهه المختلفة، ولغة الطبري مهذبة وموضوعية، ومع انه كان فقيهاً وصاحب مذهب في أصول الدين وفروعه فان طريقته في تسجيل الحوادث لم تتأثر كثيراً بعاطفته الشخصية من هذه الزاوية. وقد احتفظت لغته بوقارها في أشد الفصول حراجة مثل مقتل عثمان وواقعة كربلاء واستباحة المدينة ورمي الكعبة بالمنجنيق واحراقها، ومعارك المسلمين مع بعضهم، ولكننا نفاجأ بتبدل كلي في سلوك المؤرخ عند احداث ثورة الزنج في البصرة، فنقل عنها بانحياز مفضوح الى جانب السلطة، أما لغته فتدنّت إلى حضيض الشتم الرخيص فأطلق على قائدها لقب (الخبيث)، وردده حتى صار علماً له أغناه عن التصريح باسمه.

نتساءل هنا عن الدافع، وسر هذا التحول فنجده انه كان معاصراً لثورة الزنج، وحيث كان الطبري مقيماً في بغداد، ولابد ان الرجل كان مدركاً لخطر الثورة على مصالح الطبقة التي ينتسب إليها - طبقة الأشراف والسادة مالكي العبيد - فكان من الصعب أن يقف منها موقف المتفرج، وهو بذلك يسجل موقفين، فيلتزم نوعاً من الحياد تجاه القضايا التي لا تربطها رابطة مباشرة بوضعه الاجتماعي، وان تكن من قبيل استباحة المدينة واحراق الكعبة، ثم يواجه مشكلة تمسّ مصالح طبقته في الصميم فيتخلى عن (حياده) ويصير طرفاً مهرجاً فيها.

وهكذا فان دراسة التاريخ الاسلامي  بموضوعية كافية ينبغي توفر طقس معتدل يحافظ فيه الباحث على اتزانه، وان كان هذا المطلب عسيراً على المتحزبين فهو بالنسبة للكاتب المنهجي لا يعني أكثر من تحصين نفسه من ردود الفعل، بناءً على تجنب الامتدادات الايديولوجية  والعصبية القبلية والدينية لدراسة التاريخ في اطار مرحلته الخاصة مما يوفر للباحثين فرص الحيادية لا تتوفر لغيرهم.

هذا ما فعله السامر في ثورة الزنج إذ وضع أفكاره جانباً، ودرس الحركة بحيادية العلم ونزاهته، وقدّم كتاباً متوازناً بعقلية المؤرخ النزيه.

من الجدير ذكره ان كتاب (ثورة الزنج) للمؤرخ فيصل السامر( 1926- 1983) هو في الأصل بحث لدراسة الماجستير من جامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً) عام 1952، وصدر في بغداد بطبعته الاولى عام 1954، ثم نشر بطبعات متعددة.

***

جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم