قراءة في كتاب

عبد السلام فاروق: على "طاولة" أمل سالم

العدد السبعون من سلسلة "إبداعات قصصية" الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب كان من نصيب الكاتب والناقد أمل سالم.

 أحب دائماً أن أقرأ تجارب النقاد عندما يقررون خوض غمار الكتابة الأدبية. لأنهم لا يفعلون هذا إلا عندما تتشكل في أذهانهم خلفية واسعة عما ينبغي أن يكون عليه السرد الأدبي. هكذا يبدؤون من حيث انتهي الآخرون. بالطبع هذا ليس حال كل النقاد الذين كتبوا أدباً، لكنه ينطبق على أمل سالم.

 القصص التي كتبها أمل سالم جاءت بعنوان: (الملهمات التسع- ميوزيس)، وكان قد كتب قبلها: (الرابع عشر من برومير). ويبدو أنه متأثر بقراءاته التي لابد أنها بدأت من الأدب اليوناني وفلسفات الإغريق.

 غير أن قصصه لم تأخذ من النكهة اليونانية إلا المسميات، بينما جاءت قصصه الثلاثة عشر كلها مصرية المغزى والاتجاه. القصص مختلفة من حيث الحجم والشكل والمضمون. وعناوينها في أغلبها من كلمة أو كلمتين إلا قصتين زادتا إلى ثلاث كلمات. بل وقد استخدم الألفاظ الإنجليزية واليونانية في قصتين أخريين، ومنها القصة الرئيسية، أو ما يمكن اعتبارها بيت القصيد أو فاكهة الطبق، وهي قصة ميوزيس متوسطة الحجم.

كان دقيقاً في اختيار (قصص) للتعبير عن كتابه، لأنها ليست مجموعة قصصية منسجمة المحتوى وليس بينها عوامل مشتركة ظاهرة. بل هي بعض قصص مختلفة حتى من حيث الأسلوب ودرجة النضج الأدبي، مما يشي بأنها كُتبت في أزمنة مختلفة.

 غير أن هناك عدة أمور مشتركة بين كل تلك القصص يصعب ملاحظتها إلا للمدقق. أولها: أنها جميعاً تدخل في دائرة التجريب؛ وهو ليس تجريب المبتدئ، وإنما تجريب الخبير العليم ببواطن وأسرار الكتابة الأدبية. والفارق هنا هو فارق أسلوبي. بمعني أن الكاتب الدارس لأسرار الكتابة يحلو له أن يجرب عدة مدارس وأساليب أدبية، من ناحية لأنه يريد تحدي ذاته، ومن ناحية أخري أنه يخاطب خاصة الخاصة من النقاد والأدباء كما يخاطب القراء العاديين. لهذا فهو يحب أن يستعرض قدراته الكتابية جميعها في عمل واحد مكثف من حيث طريقة التناول وأسلوب الكتابة.

 هكذا نجد القاص يلجأ تارة للرمز كما في قصة البندول، وتارة لتداعي الأفكار كما في ميوزيس، وتارة للنهاية المفاجئة كما في (الكيسة البلاستيكية السوداء). يفعل هذا برغم تعدد أغراض القصة في كل مرة، إن كان يجوز أن أعتبرها ذات غرض. ففي قصصه ستجد الطرفة والمفارقة كما في قصة (نفر العزبة- نيويورك)، وستجد المأساة الإنسانية كما في "السرير" وستجد الميتافيزيقا والفلسفة كما في (قط أبيض، ومبدأ الريبة). وفي كل هذه التيارات تكتشف أن السرد تلقائي ذو تسلسل منطقي، وهو في مجمله فصيح بليغ مطعم بعبارات حوارية مقتضبة باللغة العامية الموظفة في موضعها دون تكلف.

 القصص في مجملها مكتوبة بصيغة المتكلم، والراوي فيها من نوع الراوي الخفي الذي لا يتدخل برأي أو يشعرك بوجوده، إلا في القصة الأخيرة التي ازدوج فيها الراوي والقاص فأصبح كلاهما موجوداً في ساحة القصة!

 وهذا هو العامل المشترك الثاني في قصص أمل سالم: "الثنائية"!

 كل قصصه فيها عنصرين متباينين واضحين. لدرجة أنك تستطيع أن تعتبر قصصه جميعاً من نوع (لعب الطاولة) بين القاص والراوي. الأمر شبيه بكوب مملوء حتى منتصفه، والقصة فيها النصفان معاً: المملوء والفارغ. أو ربما هو أقرب لتعبير الـ (contrast) في التصوير والرسم، حيث يتم استخدام خاصية معينة للتمييز بين مفردات الصورة، لا أقول الأبيض والأسود بل حتى في درجات الرمادي!

 أقول إن قصصه كانت كلها من هذا النوع ثنائي القطب، الذي تتضح من خلاله الرؤية. ففي قصة (هي ورجل)، القصة الأولي، مواجهة بين القوة والضعف أو بين الرجل والمرأة أو بين الإثم والضمير. وهكذا في قصة (البندول) مفارقة بين الباطن والظاهر أو بين شكل الرجل وحقيقته. وفي قصة السرير تنقسم الشخصية لشخصيتين في زمنين مختلفين، ليصبح الزمن هو العامل اللوني الذي يحقق التباين والمفارقة. وفي قصة (الكاتب)، هناك كاتبان: أحدهما حقيقي وآخر مدعي والمفارقة تأتي من رد الفعل أمام كل منهما.

 القصة الرئيسية في الكتاب هي قصة (الملهمات التسع- ميوزيس). وهي عن فنانة بارعة تفتتح معرضاً ليس فيه إلا تسع لوحات من الحجم الكبير، وضيفها في القصة هو فنان فلاح كما هو لقبه وسلوكه. والمفارقة تنشأ من خلال الحوار الذي دار بين الاثنين، يتضح فيه مدي عمق ثقافة الفنانة الدارسة التي اختارت لمعرضها موضوع الملهمات التسعة كما في الثقافة اليونانية، ومدي جهل ضيفها الذي من المفترض أنه فنان تشكيلي مشهور! والنهاية تأتي مباغتة. وفي القصة عبارات وتعليقات تشي بأنها قصة مستمدة من الواقع.

الكتاب نموذج لمن يريد أن يقرأ لناقد متمكن يكتب أدباً قصصياً دون أن يحاول هدم الحائط الرابع بينه وبين قارئه!

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم