قراءة في كتاب
حاتم حميد محسن: التعددية الثقافية وحقوق الأقليات
كيف نتعامل مع الاختلافات الثقافية في المجتمعات المتعددة ثقافيا؟ هذا السؤال كان موضوعا لنقاشات عامة ساخنة. أي نوع من الملابس يكون ملائما لبركة سباحة عامة، او لأداء القسم في احتفال المواطنة؟ هل يجب على المدارس الممولة من الدولة ان تعطي تعليمات لترسخ ثقافة دين واحد فقط؟ كيف يجب ان تحكم الدولة بين المواطنين الذين لديهم قيم مختلفة راديكاليا حول قضايا مثل الاجهاض؟ في كتاب (مناقشة التعددية الثقافية وهل يجب ان تكون هناك حقوق للاقليات يجادل العالمان في السياسة بيتر بالنت و باتي لينارد بقوة حول الكيفية التي يجب ان تجيب بها الدول والمجتمعات على هذه الأسئلة. وكما يشير عنوان الكتاب، هما يهتمان بشكل خاص بحقوق الأقليات في سياق التنوع. هما يعالجان نقاشات حول نطاق واسع من الاختلافات الثقافية ويذكّراننا بأن هذه الاختلافات هي عميقة، تذهب بعيدا الى ما وراء التقاليد المختلفة حول الطعام واللباس. الناس لا يتفقون حول أسئلة مثل الحق في الموت الرحيم، على سبيل المثال، وما اذا كان مسموحا به دائما او يُسمح به في ظروف خاصة. ونظرا للاختلافات الثقافية المتجذرة عميقا حول قضايا العالم الواقعي كتلك التي أشرنا اليها الان، كيف يمكن ان نعيش مجتمعين في مجتمعات متعددة ثقافيا؟
بالنت يتبنّى الرؤية الليبرالية بان المطلوب هو التسامح. لتحقيق هذا، يجب على الدولة ان تسعى الى الحيادية، والتي يمكن ان تتخذ عدة أشكال. الدولة يمكنها ان تساعد جميع الأديان في اختيارها لكل اشكال التعليم الديني. او ان الدولة لا تساعد أي منظور ديني، وبدلا من ذلك تضمن الدولة ان يكون كل التعليم في البلاد علمانيا. كلا الاتجاهين يلبيان معايير الحيادية، ومن ثم الدولة المتسامحة. ان أهمية انجاز مثل هذه الحيادية هي انها لا تعطي أي أفضلية معينة ولا كراهية معينة لأي جماعة معينة سواء كانت هي الأغلبية في البلاد او الأقلية. لكن هناك حدود لحيادية الدولة، كما يعترف بذلك بالنت. الدولة العادلة لا تستطيع ان تكون حيادية عندما تواجه طرقا للعيش تؤذي الآخرين. الدولة لا يمكنها معاقبة التطرف العنيف، ولا يمكنها ايضا ان تكون محايدة حول إجراءات السلامة التي تحمي الناس – مثل الحاجة لتطبيق قوانين تمنع السياقة تحت تأثير الخمر او العقاقير الاخرى. وبشكل عام، الدولة يجب ان تحمي حياديا حقوق الأغلبية والأقليات في اختيار أساليب الحياة المتميزة، ولكن فقط عندما تكون أساليب الحياة هذه منسجمة مع العدالة، وتُفسر بشكل رئيسي كوسيلة لتجنّب الاذى.
وكما في الدولة، المواطنون ايضا لديهم مسؤوليات ليكونوا متسامحين. نحن لأسباب أخلاقية (دينية او علمانية)، ربما نعارض بقوة وجهة نظر الآخرين في الموت الرحيم او الإجهاض. يجادل بالنت ان مثل هذه المعارضات هي مقبولة تماما في المجتمع المتعدد ثقافيا. في الحقيقة، هو يرى بان الإختلافات العميقة حول هكذا أسئلة هي في الحقيقة خصائص للمجتمع المتنوع . نحن يمكننا الحفاظ على وجهات نظرنا المختلفة بعمق ونظل متسامحين، كما يقول، من خلال رفض التصرف بناءً على اعتراضاتنا واستيائنا. مهما كانت عقيدتنا، المجتمع المتسامح يتطلب ان نتصرف كما لو كنا غير مختلفين تجاه قيم وآراء الآخرين. هذه "اللامبالاة النشطة" هي أسهل ولذلك هي أكثر ملائمةً من طلب تقدير متبادل من اولئك الذين يؤمنون بقوة بآراء مضادة، خاصة حول أسئلة أخلاقية خلافية.
هناك مزايا هامة للدول المتسامحة والمواطنين المتسامحين. يرى بالينت، انها تعزز الحرية لكل المواطنين، وليس فقط للجماعات الأثنية. هو يعرض أمثلة عن اليهود الأرثودكس المتحفزين دينيا لرفض التصويت في أيام السبت. نظرا لهذا الالتزام، لو اُجريت الانتخابات يوم السبت، هم سوف يُحرمون من حق التصويت. بدلا من سن قوانين تمنح اليهود حقوق أثنية خاصة للتصويت في يوم آخر، فان الدولة الحيادية يمكنها مثلا السماح بالتصويت عبر عدة أيام. هذا يعزز الحرية لجميع المواطنين بما في ذلك المواطنين الذين يعملون في أيام السبت وليس فقط اليهود الارثودوكس. وبالمثل، مهما كانت اراؤنا الشخصية حول الجاذبية والأهمية الدينية للذقون، نحن ندعم حرية كل شخص عندما لا نكون مبالين سواء ربّى الناس الذقون ام لم يربّوا. وكما في الدولة المحايدة، المواطن الذي لايبالي في سلوكه تجاه اولئك ذوي الآراء المختلفة وبنفس الوقت يؤمن بقيمهم وأفضلياتهم، هو سيكون مرغوبا لأن ممارسته للتسامح هي تعزيز لحرية الجميع.
في دفاعها عن حقوق الأقليات في المجتمعات المتعددة ثقافيا، ترفض لينارد هذه الحجج. هي تجادل بان هذه التفسيرات لا تعالج المآزق التي تبرز في العالم الواقعي. هي تلاحظ بانه في العديد من المجتمعات وربما معظمها، الناس من ثقافة الاقليات يتم التعامل معهم دائما باحترام أقل من جانب ثقافة الأغلبية. صوتهم له سلطة قليلة في الأماكن العامة وهو ما يضر بمشاركتهم في الحياة السياسية والاجتماعية. لكن خلق حياة مشتركة عامة قوية هو ضروري لديمقراطية ذات معنى. تؤكد لينارد ان الحاجة لمشاركة نشطة لجميع المواطنين بمن فيهم ذوي ثقافة الأقليات سوف يعمق الاندماج السياسي الذي هو من حيث الجوهر يعني مشاركة في كل مظاهر الحياة العامة. في كندا، يُمنح السيخ في الشرطة الوطنية الكندية إعفاءً من معايير ارتداء القبعة، لأنه يصعب ارتداء العمامة والقبعة الطويلة في وقت واحد. الإعفاء الخاص بجماعة السيخ مقبول لدى لينارد لأنه يزيل عوائق عمل السيخ في الشرطة الكندية. احدى مزايا هذا الإعفاء انه يساهم بثقافة وطنية مشتركة تحترم الاختلافات. ان تطوير اعجاب عام بالتنوع هو مفيد لثقافة الاقليات كونه يشجع اندماجها بمختلف مظاهر الحياة السياسية.
ترى لينارد ان الاقليات الثقافية تتطلب حقوقا خاصة اخرى. لغات الأقليات يجب ان يكون لها الحق بترجمة المواد القانونية والطبية والسياسية الى لغتهم الخاصة. هذه الترجمات هي ضرورية للاقليات للوصول للمنافع الاساسية السياسية والطبية والقانونية، وتعزيز الاندماج الحيوي عبر مختلف مظاهر الحياة العامة. حقوق "مساعدة" للاقليات مثل حق الترجمة له نتائج مفيدة للجمهور العام ايضا. المشاركة بمعلومات الصحة العامة بعدة لغات اثناء الوباء ساعد حسب لينارد في ضمان تقليص انتشار الوباء . هذا ساهم في الحفاظ على صحة اولئك في الأغلبية، بالاضافة الى اولئك الذين يتحدثون لغة الجاليات. غير ان هناك بعض الحقوق المساعدة مثيرة للإشكالية. سياسات العمل الايجابي جرى نقاشها كثيرا، طالما هي توفر طرقا مفضلة للاقليات للوصول الى التعليم والعمل وما شابه. تؤكد لينارد ان سياسات العمل الايجابي هي ضرورية عندما تكون الاقليات مستبعدة منهجيا من المواقع السياسية والاجتماعية الهامة. الفعل الايجابي يعالج هذه اللاعدالة عبر مساعدة الاقليات الثقافية ليتم دمجها بانصاف. العمل الايجابي، كحق للاقلية، يستجيب الى اللامساواة في العالم الواقعي ويساعد في اصلاحها وتحسين اندماج الأقليات الثقافية.
غير ان هناك بعض الاقليات الثقافية لا تسعى الى اندماج كبير في الجالية الأوسع. بعض مجتمعات الاميش،مثلا، تعتمد سياسات انعزالية. فما هي حقوقهم كأقلية؟(1)
لتقرير كيف يجب ان تكون حقوق الاقليات المنعزلة، لينارد تدعو لدراسة متأنية للاضرار المحتملة. طلبات عوائل الاميش لإعفاء الاطفال من التعليم لأجل العمل في المزارع يجب احترامها، لأن "التدخل القسري" لإجبار الاطفال على المشاركة في التعليم يسبب أذى كبير. أطفال الاميش لا يجب إعفائهم من قوانين العمل التي تحميهم من اخطار بعض اشكال عمل المزارع.هذا يعني بان حقوق خاصة للاقليات يجب موازنتها بدقة مع الأضرار المحتملة في تلك الحقوق. هناك فوائد واسعة لإحترام القيم الثقافية للجماعات المنعزلة. هذا الاحترام يعزز الثقة الضرورية للتعاون بين ثقافة الأقلية وثقافة الأغلبية. نظرا لأن الحركات الثقافية الانعزالية لايمكنها ابدا ان تكون مستقلة بالكامل، فان هذه الثقة ستعزز الكثير من الحياة السياسية الاندماجية.
تجادل لينارد لأجل دول متعددة ثقافيا ذات اندماج سياسي يدعم الحقوق الثقافية للاقلية ويحترم الاختلافات الثقافية. بالنت من جهته يدافع عن دولة محايدة متسامحة وعن مواطنين يمارسون لامبالاة نشطة تجاه اولئك الذين لا يتفقون معهم. ربما هي قوة في الكتاب وليس ضعفا ان بالند ولينارد لايحاولان تسوية اختلافاتهما. هما لا يقدمان حلا ولكن يقدمان بدلا من ذلك مبادئ مختلفة تؤطران آرائهما المتضادة، لذا يساعداننا للتفكير بطرق جديدة. في أوقات الاستقطاب الذي نعيش به، حوارهما هو تذكير نافع باننا يمكننا عدم الاتفاق باحترام. اذا اردنا العيش في مجتمعات متنوعة ثقافيا، فان مثل هذا النقاش الدقيق هو مكان جيد للبدء.
كتاب مناقشة التعددية الثقافية: هل يجب ان تكون هناك حقوق للاقليات؟ للكاتبين بيتر بالنت و باتي تامارا لينارد، صدر عن مطبوعات جامعة اكسفورد عام 2022 في 320 صفحة.
***
حاتم حميد محسن
......................
الهوامش
(1) الآميش هم جماعة عرقية دينية ذات اصول سويسرية والمانية. يعيش الاميش حياة بسيطة، هم يقدسون الحياة الريفية والعمل اليدوي الشاق، يميلون للتواضع. يهتمون بتربية الاطفال واقامة علاقات مع الجيران والأقارب. هم يعتقدون ان العوائل الكبيرة نعمة من الله. يسافر الايميش باستخدام الحصان او العربات التي تجرها الخيول لأنهم يعتقدون ان العربة التي يجرها الحصان تعزز الحياة بوتيرة بطيئة. هم لا يرغبون بالتكنلوجيا لأنها تقلل الحاجة للعمل الشاق وتعكر وقت العائلة، كما انهم يحبون المحادثات وجه لوجه. حسب احصاءات عام 2023 بلغ عدد الايميش في الولايات المتحدة 377 ألف شخص وفي كندا حوالي 6000.