قضايا
نور خالد: تفكك القدوة وانهيار المعنى.. صعود النماذج الهشّة وتحول النموذج الاجتماعي
يفتح الطفل عينيه على العالم ليجد أمامه أول نموذجين تشكّل من خلالهما مداركه الاجتماعية: الوالدين (الأم والأب) لا يقدمان للطفل بوصفهما مصدر رعاية فحسب، بل كنماذج يُراقَبان ويُقلَّدان، تُبنى عبرهما أولى تصوّرات الذات والطموح. في هذه المرحلة المبكرة، لا يكون التقليد فعلًا عفويًا فقط، بل آلية أساسية في التعلّم وبناء المعنى، حيث يرغب الطفل في أن يكون شبيهًا بهما عند الكبر. بهذه الطريقة، يبدأ الطفل بناء تصوراته الأولى عن الذات، وعن الآخرين، وعن معنى أن يكون "شخصًا ناجحًا" في المجتمع.
ومع اتساع دائرة الوعي، يدخل الطفل عالم المدرسة، فتبدأ القدوة بالخروج من الإطار الأسري إلى الفضاء الاجتماعي الأوسع. هنا تتشكّل نماذج جديدة في مخيلته، ويبدأ الحلم المهني بالظهور، بوصفه امتدادًا للقدوة لا خيارًا وظيفيًا مجردًا.
فمن منا لم يبدأ إدراكه عبر تقليد شخص ذي قيمة رمزية في محيطه القريب؟ ومن منا لم يحمل، في طفولته، حلم أن يكون شبيهًا بنموذجٍ متجسّد أمامه في أفعال وسلوكيات يومية؟ ربما كان معلّمًا، أو مهندسًا، أو صاحب مهنة تحمل قيمة واحترامًا اجتماعيًا. لقد كانت هذه الأحلام انعكاسًا مباشرًا للرمزية القدوية التي كان المجتمع يقدّمه بوصفها مسارات للمعنى والاعتبار الاجتماعي.
القدوة لا ترتبط بالمهنة بذاتها، بل بالمعنى الرمزي الذي تُحمَّل به المهنة اجتماعيًا. فالطفل لا يحلم بأن يكون مثلاً معلّمًا أو ممرضًا أو مهندسًا، أو طبيبًا لأنه وظيفة، ولا يتمنى أن يكون شرطيًا أو ضابطًا لأنه زيّ أو مردود اقتصادي، بل لأن هذه المهن كانت حاملًا اجتماعيًا للقدوة. لم تكن المهنة هي القدوة، بل الشخص الذي يحملها ويمارسها في المجال العام. ولم تكن مجرد وظائف في مخيال الطفل، بل تمثيلات حية لمعاني الانضباط والمسؤولية الأخلاقية وخدمة المجتمع، والمعايير الاجتماعية للنجاح والاحترام. أي بمعنى آخر ليس بوصفها وظائف تقنية، بل بوصفها نماذج رمزية تجسّد المعرفة والمسؤولية والاعتراف الاجتماعي.
مع ذلك، لم تبقَ هذه الرمزية على حالها. إذ تعرضت لتحولات بنيوية عميقة أضعفت قدرتها على إنتاج المعنى، وأفقدتها موقعها كنموذج يُحتذى داخل البناء الاجتماعي. لم تقتصر هذه التحولات على البنى السياسية والاقتصادية فحسب، بل امتدت لتصيب الرموز الاجتماعية في صميم مكانتها، محدثة تآكلًا تدريجيًا في وظيفتها القدوية.
لم تسر هذه العملية بمعزل عن المؤسسة الأولى، أي الأسرة. فقد بدأت صدمات بنيوية مثل الحروب، فقدان أحد الوالدين، النزوح، والتفكك الأسري والاجتماعي، بهز الأسرة. أضافت الضغوط الاقتصادية المتزايدة، التي دفعت الأبوين إلى الانشغال بتأمين متطلبات العيش، إلى تقليص زمن التفاعل الأسري، ما أضعف حضور القدوة الوالدية في حياة الطفل اليومية. أدى تراجع "زمن العائلة" إلى إرباك عملية التنشئة الأولى، وخلق فراغ قيمي مبكر، مهّد لاحقًا لتفكك نماذج الاقتداء في المراحل اللاحقة من النمو.
مع انتقال الطفل إلى المدرسة، تتسع دائرة التنشئة، وتبدأ القدوة بالخروج من الإطار الأسري الضيق إلى الفضاء الاجتماعي الأوسع. في هذه المرحلة، لا تعود القدوة شخصًا بعينه فحسب، بل تتحول إلى أدوار اجتماعية متجسدة في المهنة والسلوكيات العامة. يراقب الطفل محيطه الاجتماعي ويقلد الآخرين في سلوكياتهم اليومية، في كل صغيرة وكبيرة، ليستوعب قواعد التفاعل الاجتماعي ويكوّن تصورات عن الذات والآخر. ويصف عالم الاجتماع "جورج هربرت ميد" هذا النموذج بـ"الآخر المعمم" أي الإطار الرمزي الذي يتيح للطفل فهم توقعات المجتمع وتوجيه سلوكه وفقًا للمعايير الجماعية، وليس مجرد تقليد عفوي للأفراد المحيطين به.
في هذا السياق، كان المعلم يُنظر إليه رمزًا للانضباط والقيم والسلطة المعرفية، ويشكّل نموذجًا أساسيًا للآخر المعمم، إذ يسهم في بناء الذات الاجتماعية وتنظيم أدوار الطفل. إلا أن المعلم في الواقع أصبح يظهر في وعي التلميذ كشخص منهك، محاصر بضغوط اقتصادية ومؤسسية، يفتقر إلى الدعم والهيبة الاجتماعية. ومع هذا التحول، فقد الطفل قدوته الثانية داخل المدرسة، وما يخلّفه غياب هذا النموذج ليس فراغًا معرفيًا فحسب، بل أثرًا عاطفيًا ونفسيًا عميقًا يمتد إلى مسار التكوين الاجتماعي والنفسي للفرد
لطالما احتلت القيم الاجتماعية العالية موقع "القدوة" داخل البنية الاجتماعية، بوصفها نماذج حية للالتزام الجمعي والمعنى الاجتماعي. لكن هذه الرمزية بدأت بالانحسار مع تراجع قدرة المؤسسات على دعم الدور الأخلاقي والمعياري للقدوة، في ظل ضعف المؤسسات، واضطراب السياسات، وتغير نظرة المجتمع إلى العمل والمعرفة والسلطة.
مع انتقال الطفل إلى مراحل عمرية لاحقة وبلوغه مرحلة الشباب في ظل هذه التحولات، أُعيد تعريف القدوة في وعيه الجمعي بوصفها مسارات محفوفة بالمخاطر أو منخفضة المكانة الاجتماعية، قد أسهم ذلك في تعميق الفجوة بين تطلعات الشباب وواقعهم الاجتماعي. الذي لم يعد يوفر نماذج مستقرة أو مُلهمة للاحتذاء به.
بعد ذلك جاءت المؤسسة الدينية لتضيف مستوى آخر من التعقيد، مع اتساع الفجوة بين الخطاب المعلن والممارسة الواقعية، ويؤدي التناقض المستمر بين الخطاب والممارسة داخل هذه المؤسسات إلى تآكل الثقة بالمرجعيات التقليدية، ما يفضي إلى فقدان الشرعية الرمزية، وهي شرط أساسي لتحوّل أي شخص أو مؤسسة إلى قدوة مقبولة اجتماعيًا.
ولا يمكن فهم ما أصاب نماذج الاقتداء بوصفه أحداثًا منفصلة، بل كسلسلة متتابعة من الصدمات البنيوية. فقد بدأت باهتزاز الأسرة ومن ثم المدرسة ومن المؤسسة الدينية. اصبح الفراغ شاسع جدا وانتهت بملء الفراغ الرمزي عبر العالم الرقمي (الميديا) بنماذج شهرة سطحية. ويكشف هذا التسلسل أن أزمة القدوة ليست ظاهرة أحادية، بل نتيجة تراكمية لعوامل متداخلة تعمل على مستويات متعددة: الأسرة بوصفها القاعدة الاجتماعية الأولى، والمدرسة كمؤسسة تنشئة رسمية، والدين كمرجعية أخلاقية رمزية، والميديا كمُشكِّل أساسي للرموز الحديثة.
ومع تراكم هذا الفراغ الرمزي والقيمي، برز العالم الرقمي/الميديا بوصفه البديل الأكثر حضورًا في الوقت الحاضر، ليملا المساحة الخالية بنماذج من المشاهير تُقدَّم كقدوات جديدة، لا تقوم على المسؤولية أو القيمة الأخلاقية، بل على الجاذبية السريعة والحضور الإعلامي المؤقت.
وفي ظل هذا التآكل، تمنح الميديا أولوية للحضور الشكلي والأداء الآني على حساب المضمون، فتتراجع قيمة الجهد الطويل والالتزام الأخلاقي لصالح الشهرة السريعة والربح الرمزي المؤقت. فتحولت القدوة من سلوك يُعاش ويُلاحظ إلى شعارات تُردَّد دون سند فعلي في الواقع.
وفي غياب نماذج احتذاء فاعلة، يسعى الشباب إلى البحث عن بدائل تمنحهم إحساسًا بالانتماء والهوية، حتى لو كانت بدائل قائمة على قيم مشوّهة أو سلوكيات مضللة؛ كالجماعات المتطرفة، أو مشاهير فارغين، أو هويات افتراضية تُصاغ داخل الفضاء الرقمي. وبهذا، تنتقل عملية التعلّم بالملاحظة من الأسرة والمعلم إلى الشاشة والمؤثرين، ويتحوّل النموذج من فعل اجتماعي حيّ إلى صورة مُجتزأة.
فقد تغير معيار القدوة من الفضائل كالتفاني والمسؤولية وخدمة المجتمع، إلى معيار يقوم على الظهور والشهرة والربح السريع. أدى هذا التحول إلى إضعاف العقد الاجتماعي، وتراجع دور القادة والمؤسسات في الحفاظ على القيم الجماعية، ما أسهم في تفكك التماسك الاجتماعي وتعميق شعور الشباب بالضياع واللامعيارية.
وهو مؤشر على تحولات بنيوية أعمق في شبكة العلاقات الاجتماعية والقيمية ويُبرز هشاشة الأطر المؤسسية والقيمية للمجتمع. فالطفل الذي لم يجد قدوته الأولى داخل الأسرة والمدرسة، والذي لم تعد المؤسسات الدينية والمدنية توفر له الإرشاد، بات يعيش حالة من الضياع والهشاشة القيمية. ومع صعود النماذج الهشة في الفضاء الرقمي، يتحول البحث عن القدوة إلى تجربة عشوائية تُعيد إنتاج الفجوة بين القيم المنشودة والممارسات الفعلية، وتترك الشباب رهين الانطباعات السطحية والرموز المؤقتة.
وعليه، فإن تفكك منظومة القدوة لا يعبّر عن خلل فردي أو عن جيل "ضائع" بطبيعته، بل عن خلل بنيوي عميق يمسّ العلاقة بين الفرد والمؤسسات والرموز. وهي حالة تُبرز تراجع المعنى، لا المهنة، وانهيار المرجعيات الأخلاقية قبل انهيار المواقع الوظيفية، الأمر الذي يجعل إعادة بناء القدوة مسألة اجتماعية وثقافية شاملة، تتطلب رؤية لإعادة بناء النماذج الاجتماعية التي تجمع بين المصداقية والانتماء والممارسة الفعلية، بما يسهم فعليًا في تشكيل وعي حقيقي وفعال وبناء، وهويتهم بعيدًا عن الشعارات الفارغة والقدوات المؤقتة، عبر تعزيز الأسرة والمؤسسات التعليمية والثقافية والدينية بما يتوافق مع متطلبات العصر.
***
د. نور خالد / باحثة وأكاديمية






