قضايا
عبد الجبار الرفاعي: صمت الفيلسوف اليوناني سيكوندوس
أغرب ما قرأت سيرة شخصية يونانية تدعى سيكوندوس الصامت Secundus the Silent، ويصفه بعضهم بالفيلسوف الصامت. تختلط المعلومات القليلة المتاحة في المراجع حول حياة سيكوندس بما صنعه المتخيل. يقال إنه عاش في أثينا أوائل القرن الثاني الميلادي، ويرجح كونه معاصرًا للإمبراطور الروماني هادريان الذي حكم بين 117 و138 م، وقد اقترن اسمه بالصمت حتى غدا الصمت هويته الفلسفية ونمط وجوده في العالم. لا تقدم المصادر القديمة سيرة تفصيلية لحياته، إذ تحيط به طبقة كثيفة من الغموض والابهام، وما ورد عنه يرسم صورة اسطورية أو شبه اسطورية تبلورت في التراث الرهباني المسيحي المبكر، واستقرت في الذاكرة الروحية تجسيدًا للزهد المدهش ونذر الصمت. يرد ذكره في نصوص متأخرة من العصور القديمة والوسطى، خاصة في سرديات رهبان الصحراء وفلاسفة رأوا في الصمت طريقًا للحكمة، ويظهر فيها فيلسوفًا أو راهبًا اختار الصمت طريقًا للمعرفة، ورمزًا لمعنى يرى الحقيقة أعمق من أن تحاط بالكلام، ونموذجًا أخلاقيًا لا شخصية تاريخية محددة. لا تقدم المصادر أدلة موثوقة على وجوده بوصفه شخصًا بعينه، لذلك يرجح أغلب الباحثين كونه رمزًا روحيًا وأخلاقيًا، أو شخصية مركبة استلهمت من خبرات رهبان زاهدين عاشوا فعلًا، وتندرج حكايته مع أمه في الأفق الرمزي ذاته.
لم يكن سيكوندوس هو الوحيد الصامت، بل يتحدث التراث الغربي عن غيره، مثل يوحنا الصامت الذي كان راهبًا من القرن الخامس/السادس الميلادي، وولد في أرمينيا نحو سنة 454م وتوفي قرابة 558م، وكان في بداياته أسقفًا على مدينة كولونيا في أرمينيا الصغرى، ثم ترك الأسقفية سرًا هربًا من الصراعات الكنسية، واتجه إلى الحياة الرهبانية متخفيًا، متنقلًا بين فلسطين وصحراء سيناء، قبل أن يستقر في دير مار سابا قرب القدس. وتذكر سيرته كما نقلها كيرلس السكيثوبولي أنه التزم صمتًا صارمًا امتد سنوات طويلة، وتورد بعض السرديات الرهبانية أن هذا الصمت بلغ نحو خمس وعشرين سنة، بوصفه ممارسة روحية عميقة لا مجرد امتناع عن الكلام، هدفها تهذيب النفس، وبناء الذات، وانارة الوعي، والإقامة في حضور الله. وينبغي التمييز بينه وبين يوحنا الصوّام أو الصائم (John the Faster)، بطريرك القسطنطينية في القرن السادس، الذي اشتهر بالنسك والصيام ولا صلة له بنذر الصمت الطويل، إذ إن الخلط بين الشخصيتين يوقع في أخطاء تاريخية وجغرافية لا يسندها التراث الرهباني الموثوق.
تصور بعض الروايات سيكوندوس بأنه كان غارقًا في صمت أبدي، بعد إقدامه على موقف لاأخلاقي مؤلم ورط فيه أمه وتورط هو فيه، وانتهى بانتحارها، فعاقب نفسه بالصمت عن أية كلمة مهما بلغت أهميتها. تنقل هذه الروايات سبب صمته في سياق رمزي مرير، إذ كانت أمه أرملة في زمن تنظر فيه الثقافة الأثينية إلى الأرامل بوصفهن متشوقات جنسيًا، وكان اقتران ذلك بممارسة الجنس مقابل المال صادمًا للوعي الاجتماعي. لم يتوقف سيكوندوس عند ذلك، بل مضى في اختبار أخلاقي مثير، فتنكر في هيئة فيلسوف ساخر بشعر منسدل ولحية كثيفة، وعرض على أمه من دون أن تتعرف عليه ممارسة الجنس مقابل خمسين قطعة ذهبية، فجاءته الصدمة حين وافقت. تزينت له وأعدت العشاء وتناولاه معًا، وحين دخلا المضجع وسلمته جسدها، لم يقدم على شيء، وأحاطها بذراعه كما يفعل طفل بأمه، وحدق في الثديين اللذين تغذى منهما عندما كان رضيعًا، ثم استلقى حتى الصباح. عند بزوغ ضوء الفجر نهض سيكوندوس وتهيأ للخروج، غير أن أمه أمسكت به واستوقفته قائلة: لماذا امتنعت، وهل فعلت ذلك فقط من أجل إدانتي؟ فأجابها: لا يا أمي، امتنعت صونًا للمكان الذي خرجت منه إلى الحياة. فصاحت في فزع: من أنت؟ فقال: أنا سيكوندوس، ابنك. عندها عجزت الأم عن احتمال وقع الصدمة، ومع أنها لم تبلغ بفعلها حد الفاحشة في منظور ذلك المجتمع، فإن عذابها النفسي وشعورها العميق بالخجل والعار دفعاها إلى إنهاء حياتها، إذ شنقت نفسها. أما الابن فقد وعي أن ما اقترفه مع أمه لم يكن خطأ عابرًا، وإنما خطيئة لا تغتفر، فاستبد به الشعور بالذنب إزاء موتها، وقرر أن يلازم الصمت بقية حياته، طلبًا للتكفير أو استلهامًا للشرط الصارم الذي فرضته المدرسة الفيثاغورية على المبتدئين بالانخراط فيها، وهو الصمت التام خمس سنوات، غير أن سيكوندوس اختار الصمت مدى الحياة، وتحول هذا القرار إلى قدر وجودي صاغ هويته الفلسفية وأودع صمته معنى يتجاوز الكلام1.
ما وصلنا عن سيكوندوس يكشف عن اختيار واع للصمت بوصفه موقفًا أخلاقيًا وروحيًا، لا عجزًا جسديًا ولا انسحابًا مرضيًا. يروى أنه امتنع عن الكلام حتى حين استدعاه الإمبراطور وسأله عن سبب صمته، فكان الامتناع ذاته جوابًا، في إشارة إلى أن المعنى يتجلى بالفعل أعمق مما يتجلى بالقول. ينسب إلى سيكوندوس نص قصير تداولته الثقافة اللاتينية والبيزنطية لاحقًا، يعرف بتعريفات سيكوندوس، ويضم أقوالًا مكثفة تعرف الإنسان والحياة والكلام والموت والصمت تعريفًا موجزًا. المفارقة في أن هذا النص المنسوب إلى فيلسوف صامت يقوم على اقتصاد شديد في اللغة،كأن الكلمة ولدت من رحم صمت طويل. الصمت عند سيكوندوس لا ينفي العقل ولا يحتقر الكلام، وإنما يحرس المعنى من الابتذال، ويحتج على عالم يسرف في الكلام حتى يبدد الحكمة. هكذا يغدو الصمت طريقة للعيش، وموقفًا من الوجود، وفعلًا فلسفيًا قائمًا على التأمل، يمنح الفلسفة بعدًا أخلاقيًا وروحيًا عميقًا، يرى أن بعض الحقائق تفسد حين تقال، وأن الحكمة أحيانًا تسكن فيما لا يقال أكثر مما تسكن فيما يقال.
أكره هادريان Hadrian، إمبراطور روما الذي حكم بين 117 و138م، الفيلسوف الصامت على أن يكتب له إجابات عن مجموعة من الأسئلة، بعد أن أضرب سيكوندوس عن الكلام في حضرته. يئس الإمبراطور من نطقه، لم يكترث سيكوندوس حين أمر هادريان بذبحه، فاستلّ الجلاد السيف، وكان على وشك قتله، ومع ذلك ظل صامتًا لا ينطق. عندئذ تعجب هادريان من صلابة عزيمته وقوة إرادته، ونهض قائلًا: سيكوندوس، في التزامك بالصمت فرضت على نفسك نوعًا من القانون، ولم أتمكن من خرق قانونك هذا، الآن خذ هذا اللوح واكتب عليه وتحدث معي بيديك. أخذ سيكوندس اللوح وكتب قائلًا: من جهتي يا هادريان، لم أخف منك ولن أخاف بسبب الموت، لديك القدرة على قتلي، لأنك اليوم حاكم، لكن ليس لديك أية سلطة على كلامي، ولا على الكلمات التي اخترت أن أتحدث بها. قرأ هادريان هذا وقال: موقفك في الدفاع عن النفس جيد، لكن تعال وأجبني في عدد من الأمور الأخرى، لدي عشرون سؤالًا أطرحها عليك، وتوالت إجابات سيكوندوس2.
هذا هو النص الوحيد المنسوب إلى هذا الفيلسوف الغرائبي، ويقال إن ثمة دليلًا على وجود بردية تعود إلى القرن الثالث الميلادي. لا يوجد النص كاملًا إلا في مخطوطة واحدة من القرن الحادي عشر، فيما تقتصر المخطوطات اليونانية الأخرى على شيء من الأسئلة والأجوبة فقط. أحضر ويلياموس ميديكوس، الذي صار لاحقًا راهبًا في دير سان دوني، المخطوطة الكاملة من القسطنطينية إلى فرنسا عام 1167م، وترجمها إلى اللاتينية بعنوان Vita Secundi Philosophi، فانتشرت انتشارًا واسعًا، كما تكشف عنه كثرة النسخ المتداولة.
وقد أدرج فنسنت دي بوفيه نسخة مختصرة من هذه الترجمة في موسوعته الشهيرةSpeculum Historiale. بغض النظر عن الجدل حول هذه الشخصية، وكونها شخصية أسطورية، أو شبه أسطورية صاغها المتخيل عبر تركيبها من عدة شخصيات واقعية ومتخيلة، فقد أوردناها بوصفها مثالًا مدهشًا للصمت والتربية الروحية والأخلاقية الصارمة. أورد صياغة عربية لإجابات سيكوندوس على أسئلة الإمبراطور هادريان، وإن كنت أظن أن هذه الأسئلة والأحوبة مركبة من حكم معروفة في التراث الديني والثقافي الغربي والعالمي. أنقلها كما وردت في التراث المتأخر المنسوب إليه، بصيغة حكم وتأملات قصيرة، على نمط السؤال والجواب:
سأله هادريان: ما الإنسان؟ أجاب سيكوندوس: كائن يولد بلا اختيار، ويعيش بالوهم، ويموت بالضرورة. سأله هادريان: ما الحياة؟ أجاب سيكوندوس: حلم قصير، بين صرختين.
سأله هادريان: ما الموت؟ أجاب سيكوندوس: راحة لمن تعب، وخوف لمن أفرط في التعلّق.
سأله هادريان: ما الزمن؟ أجاب سيكوندوس: نهر يحمل كل شيء، ولا يحمل نفسه.
سأله هادريان: ما الصديق؟ أجاب سيكوندوس: نفس أخرى تسكن جسدًا غير جسدك.
سأله هادريان: ما العدو؟ أجاب سيكوندوس: صديق لم يعرف نفسه بعد.
سأله هادريان: ما الحكمة؟ أجاب سيكوندوس: أن تعرف مقدار جهلك، وتتصالح معه.
سأله هادريان: ما الجهل؟ أجاب سيكوندوس: أن تظن أنك وصلت.
سأله هادريان: ما الغنى؟ أجاب سيكوندوس: قلة الحاجات.
سأله هادريان: ما الفقر؟ أجاب سيكوندوس: شراهة لا تشبع.
سأله هادريان: ما الأمل؟ أجاب سيكوندوس: مرض جميل يطيل الحياة.
سأله هادريان: ما الخوف؟ أجاب سيكوندوس: ابن الجهل بالمصير.
سأله هادريان: ما السعادة؟ أجاب سيكوندوس: لحظة نسيان للذات.
سأله هادريان: ما الحزن؟ أجاب سيكوندوس: تذكّر زائد لما لا يمكن إصلاحه.
سأله هادريان: ما الصمت؟ أجاب سيكوندوس: لغة الحكماء حين تعجز الكلمات.
سأله هادريان: ما الكلام؟ أجاب سيكوندوس: ستار يخفي أكثر مما يُظهر.
سأله هادريان: ما الفيلسوف؟ أجاب سيكوندوس: من يسأل ليبقى حيًا، لا ليصل إلى جواب.
سأله هادريان: ولماذا اخترت الصمت؟ أجاب سيكوندوس: لأن أكثر الأسئلة لا تحتمل أجوبة، وأكثر الأجوبة تفسد الأسئلة.
***
د. عبد الجبار الرفاعي
.......................
1- عثمان، صلاح، "سيكوندوس: الفيلسوف الصامت! 1-2"، موقع أكاديمية بالعقل نبدأ، 2024.
2- المرجع السابق.






