قضايا

بتول فاروق: إشكالية البيّنة في الحياة الخاصة.. قراءة نقدية لسلطة الإثبات في الفضاء الخاص

تتحفنا مواقع التواصل الاجتماعي بنسخ من أحكام المحاكم العراقية يوميا في أحكام الأحوال الشخصية مثل رد دعوى نفقة أو قضية حضانة الأطفال، أو حكم بالنشوز على الزوجة، أو حالات عنف يقوم بها الزوج تجاه الزوجة، ما يثير الإستغراب أن أحدى الدعاوى التي أقامتها الزوجة على الزوج بالنفقة تم ردها ، وسبب الرد عدم قدرتها على أثبات دعواها، (من كونها غير ناشز) حين خرجت من البيت دون إذن الزوج، بسبب العنف أو التضرر، وقضية أخرى لم يتم الحكم على الزوج بعقوبة لعدم كفاية الأدلة في قتل الزوجة أو انتحارها، لم يكن معها بينة غير أقوالها قبل وفاتها.

إن قضية مطالبة الزوجة بالبينة في المجال الخاص هو ما يجب إعادة النظر به، فالبينة هنا غير ممكنة، والضرر لا يكون ماديا دائما، لتثبته بأدلة مادية وشهود يشهدون رؤية واقعة معينة. البينة (الشهود) صالحة في الفضاء العام، في الأزقة والشوارع والأسواق، أما في البيوت وفي المجال الخاص، فهذا الأمر شبه مستحيل.

تقوم البينة في الفقه التقليدي على الشهود، في القاعدة الفقهية " البينة على من أدعى واليمين على من أنكر".(المجلسي: وسائل الشيعة، ج٢٧، ٢٣٣، ٣؛ الصنعاني، سبل السلام، ج٤، ص٥٨٨، الحديث ١٣٢٣) وطلب البينة في الفضاء الخاص يفترض مسبقا أن الطرفين قادران على جلب البينة، وأن المجال الذي تقع فيه الوقائع سهل الإثبات، لكن هذا الأمر غير ممكن في بيت مغلق، خاضع لسلطة الزوج، لاحضور فيه لشهود خارجيين، ولاقدرة للزوجة على التوثيق، ولا أمن لسلامتها النفسية والجسدية. ولذا يصبح من شبه المستحيل أن تثبت الزوجة مايمارس ضدها، تعيش في مكان لايسمح لها بالتحرك أو الشكوى أو تسجيل الوقائع، وتصويرها أو طلب الحماية. فمكان لاتملك فيه السلطة لايمكن فيه أثبات دعواها ببينة. وهنا تدخل العدالة في المحك، لأن الفقه سيحسم النزاع بمجرد يمين الزوج بالإنكار.

هذه الطريقة في التعامل مع البينة تعني مكافئة المسيطر ومعاقبة التابع (الضحية)، وتحول البيت إلى فضاء خارج القانون، وتعيد إنتاج السلطة الذكورية دون مساءلة.

السؤال المهم: هل يمكن تطبيق قواعد البينة العامة على الحياة الخاصة؟ وهل ممكن هذا منطقيا ومعرفيا، هل توجد بينة خاصة؟.

للإجابة على هذا السؤال لابد أن نجيب عن طبيعة اختلاف الفضاء بين الحالتين، فالبينة في الفضاء العام تعني فضاء مفتوحا، يمكن التواجد فيه، ويمكن مراقبته والتحقق منه، وتشارك فيه أطراف متعددة.

أما الفضاء الخاص فهو فضاء مغلق، وأحادي السلطة ولاشهود فيه، ولارقابة ولاقدرة على التوثيق، ومن هنا تنهار معايير الإثبات التقليدية.

كما أن طبيعة الفعل والاعتداء في الحياة الخاصة كالايذاء اللفظي والتحقير والتحكم هذه أفعال نفسية جسدية سياقية، لاتلتقط بالكاميرا دائما، ولاتكون مرئية ولاتترك أثرا في الغالب، ولاتعامل كجرائم عامة.

لذا معاملتها كجرائم عامة يحتاج الى شهود أو أدلة مادية يجعلها غير قابلة للإثبات في أغلب الحالات.

ولأن الرجل يملك هذا الفضاء الخاص ويملك الموارد وحرية الحركة، والقدرة مع منع الشهود وكذلك بامكانه أداء اليمين للخلاص من تبعات الجريمة. بينما تكون فيه المرأة في هذا الفضاء كائنا معرضا للإعتداء والتهديد، في فضاء لايحميها. لذا كيف يمكن مساواتها في عبء الإثبات ؟ (ظ: الكلابي، مصطفى راشد عبد الحمزة، ذاتية الاثبات في جرائم العنف الاسري، مجلة العلوم القانونية والسياسية، جامعة ديالى، المجلد العاشر، العدد الأول، حزيران ٢٠٢١، ص٥٨)

موقف الإمامية من الوقائع السرية بين الزوجين

يعتمد الفقه الجعفري في البينة على الشهادة واليمين والقرائن.

والقرآئن الحسية الخارجية هي التي يعمل بها وليس الحدس الداخلي ولاتوجد ادلة خاصة للحياة الخاصة.

والقرآئن في الحياة الزوجية غير المنظورة، يمكن ان تكون مثل: تغير الحال، كالخوف والهلع من الزوج، وعدم رغبتها المطلقة بالرجوع الى بيت الزوجية، الكآبة والأضطراب النفسي. وهذه كلها قد لا تساعد القاضي في الوصول للضرر، ولذا لا بد من اتخاذ إجراءات أخف وطأة على الزوجة منها على سبيل المثال: تصديق الضحية والبحث الموسع عن قرائن تؤيد إدعائها.

ولغياب الأدلة الظاهرة وعدم اعتماد القرائن قضائيا وفقهيا بشكل واضح وقطعي كان لا بد من اللجوء الى آلية أخرى لأنقاذ النساء من العنف المنزلي وعدم جعل البيوت منطقة خارج القانون والحصول على الطلاق للضررعلى أقل تقدير.

المعايير القانونية الحديثة التي يمكن أن تستخدم لإنصاف الضحية والنظر الى وسائل الأثبات في الحياة الخاصة غيرها في الحياة العامة:

أهم هدف تستهدفه هذه المعايير هي نقل عبء الإثبات من الزوجة.

ويتم ذلك عبر:

-        افتراض صحة أدعاءات الضحية في الحياة الأسرية، في الفضاء المغلق.

-        نقل عبء الأثبات للطرف الأقوى في الأسرة (كالزوج أو الأب، هو عليه أثبات أنه لم يمارس العنف).

-        اعتماد البينة السياقية: التي لا تشترط دليل مباشر بل تعتمد على تقارير نفسية وانماط سلوكية، وشهادات الأقارب والجيران، رسائل، وتغير صحة الضحية.

-        الإعتراف بالعنف النفسي وليس الجسدي فقط.

والى ذلك الحين الذي يتم أعتماد وسائل خاصة، ستظل النساء يدفعن الثمن في حياة غير منصفة وغير محمية، ولا تخضع للعدالة.

***

د بتول فاروق الحسون

النجف: ٩/ ١٢/ ٢٠٢٥

...........................

* جزء من بحث فقهي.

في المثقف اليوم