قضايا

علي عمرون: مطارحات في الصداقة.. أبو حيان التوحيدي وميشال دي مونتين نموذجا

(يا أصدقائي، ليس هناك أصدقاء).. أرسطو

فرش اشكالي: الصداقة مقوّم أساسي لفعل التفلسف، حتى انه يمكن القول إن الفلسفة ولدت من رحم السؤال عن الصديق. فمن "فيلوس philos" أي الصديق كما جاء في اشعار هوميروس، إلى "فيلو صوفيا" حب الحكمة، يظل الحوار مع الآخر وطلب الحقيقة معه النبض الأصيل للتفلسف، فالصديق الحقيقي هو رفيق البحث عن الحقيقة. وقد قيل لأرسطو من الصديق؟ قال: إنسان هو أنت، إلا أنه بالشخص غيرك! والصداقة في المتن الفلسفي الارسطي لا تتحقق الا عبر الحوار العمومي وليس العلاقات الحميمية ذلك ان وظيفة السياسة الرشيدة هي توليد الصداقة باعتبارها فضيلة أخلاقية كبرى، وحجراً في بناء الكمال الإنساني المنشود؛ فالإنسان – بطبعه – مفطور على التطلع نحو الكمال، ولا يتحقق هذا الكمال إلا داخل الدولة عبر الصداقة التي تُشكِّل شرطاً جوهرياً للسعادة داخل المدينة الفاضلة. " والمشرعين الجيدين كما جاء في كتاب الاخلاق الى نيقوماخوس " أبدوا اهتمامًا بالصداقة أكثر من اهتمامهم بالعدالة "

وإذا كانت الدراسات المعاصرة تشير إلى تعمق هذه العلاقة في المسيرة العمرية المتأخرة، فإنها – في جذرها الأنطولوجي – تظل حاجة وجودية متأصلة في كينونة الإنسان، لا يقوم عودها على هشاشة المنفعة العابرة، بل يتأسس على أصل الخير وغايته. ومن هنا يصفها ابن مسكويه بأنها الفضيلة الوحيدة الدائمة، لاستنادها إلى الخير الثابت الذي لا يتزعزع. وفي جذرها اللغوي (ص. د. ق) تتجلى دلالات القوة والمتانة والثبات، فهي – بحسب تعبير فولتير "زواج الروح"، لكنه زواجٌ يصطدم بمرارة الواقع لذلك هي عُرضة للطلاق.

من هذا الالتباس بين المثال الأخلاقي الثابت وهشاشة الواقع المتغير، تنبثق إشكاليتنا المركزية: كيف تُقرأ الصداقة بين تشكيك الواقع وتوق المثال؟ وكيف يتجلى هذا الجدل في النصوص الفلسفية المؤسسة له؟  لذلك سنحاول في هذا المقال النبش في مفهوم الصداقة كما يتجلى في نصوص مفكرين وان شئت قل فيلسوفين ينتميان إلى حقلين ثقافيين مختلفين، لكنهما يلتقيان عند هاجس السؤال نفسه: أبو حيان التوحيدي في "الصداقة والصديق"، وميشيل دي مونتين في مقاله "عن الصداقة". وستدور مقاربتنا حول الأسئلة الجوهرية الآتية:

1.  هل الصداقة إمكانية إنسانية قابلة للتحقق، أم هي مثالٌ يستعصي على التطبيق في واقع العلاقات؟

2.  كيف نحددها فلسفيا؟

3.  إذا كانت ممكنة، فما هي مستويات تحقيقها ومراتبها الأخلاقية والوجودية؟

4.  كيف يمكن تفسير هشاشتها الواقعية المتكررة، بالرغم من كونها أعلى مراتب الفضائل الأخلاقية؟

5.  هل تُفهم الصداقة على أنها قيمة ذاتية تنبع من التجربة الشخصية والوجدان، أم هي قيمة موضوعية مستقلة تنتمي إلى عالم المُثل الأخلاقية؟

6.  هل الصداقة بالضرورة متبادلة؟ وهل يجب أن يكون الأصدقاء دائما على قدم المساواة؟

في مفهوم الصداقة

يتميز مفهوم الصداقة بالترحال ونقطة البداية هذه تدفعنا الى التنقّل بين ثلاثة عوالم: عالم الفضيلة العمومية (أرسطو)، حيث الصداقة ركن المدينة، وعالم المعيار الأخلاقي الفردي (التوحيدي)، حيث تصير الصداقة حكمة شخصية ومقياسًا لنقد زمن الجهالة، وعالم الحدث الوجودي الفريد (مونتين)، حيث تتحول إلى تجربة وجدانية تعبر عن انفتاح الكينونة.

لقد ميز أرسطو في كتاب "الأخلاق النيقوماخية" بين أنواع الصداقة الثلاثة: صداقة المنفعة وهي قائمة على المصالح المتبادلة و تزول بزوال المنفعة، وصداقة المتعة القائمة على اللذة المشتركة والتي تزول بزوال المتعة، وصداقة الفضيلة وهي تقوم على حب الخير في الشخص لذاته، وهي أكمل أنواع الصداقة وأكثرها ديمومة، ولا تكون الصداقة عند ارسطو كاملة دون مشاركة في الحياة والتأمل والنقاش فمن خلال الصداقة، يمارس الإنسان فضائله ويشارك في "الحياة الخيرة" مع الآخرين.

واذا تركنا ارسطو جانبا قلنا بداية ان رؤية كل من التوحيدي ومونتين للصداقة تتقاطع في رفض البعد المادي والنفعي، والارتقاء بها إلى مصاف الظاهرة الوجودية المتكاملة، التي تحمل في طياتها أبعادًا فلسفية عميقة. غير أن الاختلاف الجوهري بينهما يكمن في الأساس المؤسِّس لها وشروط تحقُّقها.

حيث ينطلق التوحيدي في تشريح ماهية الصداقة من مبدأ المشاكلة، جاعلاً إياها مشروطةً بالانسجام العقلي التام والتماثل الروحي الخالص. فهي عنده، في المقام الأول، صداقةٌ عقلانية تتغذى على حوار التأمل وقد قال أعرابي لصاحب له: إني لأصقل بلقائك عقلي، وأشحذ بمحادثتك ذهني، وهي تنبثق من فطرة الإنسان السوية؛ تزدهر بالصدق وتموت بالتصنُّع. إنها تتحقق عبر "مواتاة خُلُقية" تتناغم فيها الطبائع والسجايا في صمتٍ، قبل أن تتفق الأقوال والأفعال. يقول التوحيدي: قلت لأبي سليمان محمد بن طاهر السجستاني: إني أرى بينك وبين ابن سيار القاضي ممازجة نفسية، وصداقة عقلية، ومساعدة طبيعية، ومواتاة خلقية. فمن أين هذا؟ وكيف هو؟ فقال: يا بني! اختلطت ثقتي به بثقته بي، فاستفدنا طمأنينة وسكوناً لا يرثان على الدهر، ولا يحولان بالقهر، ومع ذلك فبيننا بالطالع، ومواقع الكواكب مشاكلة عجيبة، ومظاهرة غريبة، حتى أنا نلتقي كثيراً في الإرادات، والاختيارات، والشهوات، والطلبات.

وهكذا، في هذه العلاقة المثلى، تلتقي الإرادة مع الفطرة، ويندمج الخُلُق مع الطبع السوي في وحدةٍ عضوية. فالصديق لا يراد ليؤخذ منه شيء، أو ليعطي شيئاً، ولكن ليسكن إليه، ويعتمد عليه، ويستأنس به، ويستفاد منه، ويستشار في الملم، وينهض في المهم، ويتزين به إذا حضر، ويتشوق إليه إذا سفر، والأخذ والإعطاء في عرض ذلك جاريان على مذهب الجود والكرم، بلا حسد، ولا نكد، ولا صدد، ولا حدد، ولا تلوم، ولا تلاوم، ولا كلوح، ولا فتوح، ولا تعريض بنكير، ولا نكاية بتغيير.

وفي السياق ذاته، يؤكد مونتين أن الصداقة المتلبِّسة بثوب المنفعة، أو المختزَلة إلى تبادل عابر للملذات، هي علاقةٌ ناقصة، أقل جمالاً ونبلًا، ولا تستحق أن تُدرج في سجل الفضائل الأخلاقية الخالصة، ما دامت المنفعة – كما يُذكِّرنا كانط – تشوِّه جوهر الأخلاق. فالصداقة الحقة، عنده، هي قبل كل شيء فعل إرادي حرّ، ينبع من الاختيار المحض. وهي في حركتها الوجودية، انفتاح للأنا على الآخر بحثًا عن ملاذٍ وجودي وسكنٍ روحي. في رحاب هذه العلاقة الفريدة تتلاشى الحدود بين الساكن والمسكون، فلا يعود الصديق "آخرًا" يُضاف إلى الذات، بل يصير "أنا أخرى" تتجلى فيها معجزة الوحدة في ظل التعدد. وهكذا الصداقة "لا تتطلب أي اختبار أو حساب"، انها تفتح "حقل ثقة غير محدود ومجاني"، على عكس العلاقات النفعية المبنية على أساس مادي تفرض "الحذر والاقتصاد والحساب". ان الصداقة الحقة “هبة إلهية" وروح واحدة في جسدين " حب الأصدقاء هو دفء عالمي عام، معتدل وسلس، دفء ثابت وهادئ، كله لطف واعتدال، ليس فيه شيء حاد" ان الصداقة من منظور مونتين هي التي تسمح بـ "توسيع الذات" وتجاوز "تفكك الأنا". فالصديق هو "مسرح الإيمان الأنثروبولوجي والروحي بالآخر"، وهو الذي يمنح الذات إمكانية التماسك "

ويمكن تفصيل حدود هذا التقاطع وطبيعته الدقيقة في ثلاثة محاور جوهرية:

أولاً: في نقد الصداقة النفعية، فهما يتفقان على رفض العلاقة السطحية الزائلة، غير أن تعبير كل منهما يحمل نبرة مختلفة؛ فبينما يوجه التوحيدي نقدًا لفظيًا قائمًا على مفهوم "المشاكلة"، يصدر مونتين حكمًا أخلاقيًا صريحًا بوصفها تشويهًا للفضيلة.

ثانيًا: في التشديد على التجانس الداخلي والوحدة، حيث يلتقيان في الغاية المتمثلة في خلق كينونة موحدة، ولكن الآلية تختلف؛ فوحدة التوحيدي تقوم على تماثل قبلي في الجوهر عبر "الممازجة الروحية"، بينما تقوم وحدة مونتين على اتحاد اختياري لاحق عبر "ذوبان الإرادتين".

ثالثًا: في النظر إلى الصداقة ككمال وجودي وسكن.

يمثل التقاطع بين الرؤيتين تآلفًا في الغاية ينبع من تباين في المنهج والمنطلق: فقد انطلق التوحيدي من مبدأ عقلي-أخلاقي (المشاكلة) كمقدمة ضرورية لقيام الصداقة، حيث ركز على شروطها القَبْلِية، في حين انطلق مونتين من التجربة الوجدانية-الوجودية كناتج للصداقة، مركزا على حقيقتها البَعْدِية. ويفضي هذا التحليل إلى أن كليهما يرى الصداقة الحقة كـ "ميثاق غليظ" يتجاوز العرض ليلمس الجوهر، غير أن هذا الميثاق يكون عند التوحيدي عقدًا تُكتب شروطه سلفًا بالمشاكلة، ويكون عند مونتين حدثًا وجوديًا فريدًا تُخلق شروطه لحظة التحقق.

العوائق الوجودية والاجتماعية للصداقة المثالية عند مونتين والتوحيدي

إذا كان أرسطو قد وضع المثال، وفولتير قد تنبأ بطلاقه، فإن مونتين والتوحيدي يتعمقان في تشريح مَواطن العَطَب التي تمنع تحقُّق هذا المثال من الأساس. فبينما يصوغ كلٌّ منهما تصوّرًا ساميًا للصداقة، فإن تشخيصهما للعوائق التي تحول دونها يكشف عن رؤية تشاؤمية عميقة الجذور، تختلف منابعهما لكنها تلتقي في النتيجة.

أولاً: الحواجز الذاتية والأنطولوجية عند مونتين

يرسم مونتين حدود الصداقة بسلسلة من النفي المحكم، مستبعدًا منها كل علاقة لا تقوم على الحرية المطلقة والتجانس الإرادي الاختياري. فهو يرفضها:

- بين الأب وابنه، بسبب ثقل اللامساواة المفرطة وهيمنة سلطة الوالدين، مما يحول دون قيام شراكة حرة بين ندَّين.

- بين الإخوة، لأن رباط الدم القانوني والطبيعي يسبق الإرادة ويقيدها، فيحل "الواجب المفروض" محل "الاختيار الطوعي".

- على أساس العاطفة أو الغريزة، لأن الأولى طائشة متقلبة، والثانية مرتبطة بالجسد وتذبل بذَبلان اللذة.

يُظهر هذا التحليل أن عائق الصداقة الحقيقية عند مونتين ليس خارجيًا، بل كامن في طبيعة العديد من الروابط الإنسانية ذاتها، التي تفتقر إلى نقاء الإرادة الحرة التي هي عنده الشرط الأنطولوجي الوحيد لزواج الأرواح.

ثانيًا: العوائق التاريخية والاجتماعية عند التوحيدي

ينطلق أبو حيان التوحيدي من منظور أوسع، مُرجعًا استحالة الصداقة إلى فساد الزمن وانحلال النسيج الأخلاقي للمجتمع. فـ "سوق الوفاء قد كسدت"، ونحن نعيش في "زمن الجهالة" حيث يحلل التوحيدي انهيار سلم القيم الذي ضبط العلاقات قديمًا: من الدين (كمرجعية عليا)، إلى الحياء (كضابط داخلي)، إلى الرغبة والرهبة (كدوافع بدائية). مستندا الى قول ( الشعبي) : " تعايش الناس بالدين زماناً حتى ذهب الدين، ثم تعايشوا بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثم تعايشوا بالحياء حتى ذهب الحياء، ثم تعايشوا بالرغبة والرهبة، وسيتعايشون بالجهالة زماناً طويلاً."

وبديهي ان انهيار هذا السلم يعني غياب التربة الخصبة التي تنمو فيها أي فضيلة، ومنها الصداقة. وهكذا، بينما يبحث مونتين عن العائق في طبيعة العلاقة الفردية، يبحث التوحيدي عنه في الوضع الأخلاقي الموضوعي للمحيط الاجتماعي؛ فالفرد، مهما كان صافي النية، غارق في مستنقع عام من الانحطاط يسمم ينابيع الثقة والوفاء من المنبع. قال الفضيل بن عياض: قال لي ابن المبارك: ما أعياني شيء كما أعياني أني لا أجد أخاً في الله قال: فقلت له: لا يهيدنك هذا فقد خبثت السرائر، وتنكرت الظواهر، وفني ميراث النبوة، وفقد ما كان عليه أهل الفتوة.

ويرى أبو حيان التوحيدي أن الصداقة لا تقف عائقها عند فساد الزمن العام فحسب، بل تتعذر أيضًا وتتكسر على صخرة التمايز الطبقي والوظيفي في المجتمع. فهو يُخضع الفئات الاجتماعية الرئيسية لتحليل نقدي لاذع، ليستنتج استحالة قيامها في معظمها:

- فهي مستحيلة عند الملوك، لأن حياتهم وسلطتهم تجري على موج القهر والهوى، حيث يُستبدل الصدق بالنفاق، والمساواة بالخضوع.

- وهي لا تتحقق عند التجار، لأنهم منشغلون بكسب المادي وزينة الدنيا، فتكون معاملتهم محكومة بالمقايضة والمصلحة، لا بالتجرد والإخلاص.

- وحتى بين أهل العلم – الذين يفترض فيهم السمو الأخلاقي – فإنها لا تتحقق إلا نادرًا، لأن مجتمعهم كثيرًا ما يُفسده الحسد والتنافس على المكانة والتماري (المجادلة) في البحث عن الغلبة لا عن الحقيقة.

شروط تحقق الصداقة

بعد تشريح العوائق الوجودية والاجتماعية التي تحول دون الصداقة، يطرح كل من التوحيدي ومونتين شرطًا جوهريًا لقيامها وازدهارها، يرتكز على مفهوم الثقة المطلقة، وإن اختلفت تجلياته بينهما.

يرى التوحيدي أن ازدهار الصداقة مرهون بـ ثلاثية الفضائل العملية: الثقة والصفاء والصدق قال أبو العتاهية: قلت لعلي بن الهيثم: ما يجب للصديق؟ قال: ثلاث خلال: كتمان حديث الخلوة، والمواساة عند الشدة، وإقالة العثرة. فـ الصفاء هو طهارة الباطن من الغش، والصدق هو انطباق اللسان على السريرة، والثقة هي الثمرة الطبيعية لهما. وتتجلى هذه الثقة في أسمى صورها كـ حصانة روحية تمنع انتقال الأسرار من حرمة الضمير إلى مجازفة الشفاه. فالعلاقة هنا تُبنى على حصيلة أخلاقية متراكمة من الاستقامة والنقاء، تؤسس لمساحة مقدسة من الأمان.

بينما يقدم مونتين اختبارًا وجوديًا أشد جذرية للثقة. فهو يفترض سيناريوًا حيث ينقلب المعيار الأخلاقي والقانوني نفسه: فالسر الذي أقسَم المرء على عدم إفشائه لأي "آخر"، يصبح من الممكن – بل ومن الواجب الوجودي – إفشاؤه للصديق دون حنث في اليمين. السبب جذري: الصديق "ليس آخر" يمكن أن يُفشى له السر، بل هو "أنا أخرى". الثقة هنا ليست مجرد ثقة بـ الآخر، بل هي ثقة كون الآخر هو الذات. فهي ليست فضيلة مكتسبة، بل هي حالة وجودية يذوب فيها الفاصل بين الأنا والأنت، ويصبح الإفصاح كالمكاشفة مع النفس.

بعد تأسيس شرط الثقة المطلقة، يقدم كل من التوحيدي ومونتين آلية عملية لاختبار متانة الصداقة وصقلها في مواجهة صعوبات الواقع، حيث يؤسس التوحيدي لديناميكية الصداقة على مبدأ تقاسم الأعباء والثبات في الشدائد فالصديق "يعرف وقت الشدة لا في الرخاء". أي أن قيمة الصداقة وصدقيتها تُختبران ليس في أوقات السهولة والمسرة، بل عندما تنكشف الأقنعة وتتعرى النفوس تحت وطأة المحن. هنا، تتحول الصداقة من علاقة تشارك في الخير إلى ملاذ وجودي وأخلاقي، حيث يصبح الوفاء والتضامن فعل مقاومة ضد قسوة الظروف. الصداقة بهذا المعنى هي التزام أخلاقي صارم بمواساة الصديق وتحمل جزء من ألمه، مما يزيدها متانة وعمقًا. وعلى النقيض، لا ينظر مونتين إلى الشدة كمعيار مركزي، بل يؤسس ديمومة العلاقة على مبدأ العطاء كمتعة خالصة. فهو لا يرى في تقديم الخدمة للصديق أو العون له واجبًا ثقيلًا، بل فرصة للتفرد والتعبير عن الذات. العطاء بين الصديقين، في هذه الرؤية، لا يُقدَّر بثمن ولا يُنتظر عليه مقابل، لأنه يصدر عن اتحاد الإرادتين حيث يصير خير الصديق خيرًا للذات. الخدمة إذن هي تعبير عن الحرية والوفاء للذات الموحدة، وليست اختبارًا للثبات. المتعة هنا ليست في الاستلام، بل في فعل التجرد والعطاء نفسه، الذي يشكل جزءًا من حوار الحب والتفاهم المستمر.

وبعد تأسيس الصداقة على الثقة واختبارها في الشدة والعطاء، يبرز تحدٍّ أخير أكثر دقة: كيف تتعامل مع هفوات الصديق ونقائصه البشرية المحتَّمة؟ هنا يقدم التوحيدي، مستأنسًا برؤية بلزاك، مبدأً حكيماً لضمان استمرارية العلاقة.حيث يرتقي التوحيدي بفعل التسامح من كونه فضيلة إلى كونه ضرورة حكيمة لبقاء الصداقة. فهو يرى أن الصديق "لابد أن يحتمل له ظلم الغضب وظلم الدالة وظلم الهفوة". هذه "الظُلم" الثلاثي – الانفعال العابر، استغلال القرب، وزلات الطبع – هي شوائب بشرية حتمية. المفتاح ليس إنكارها، بل احتمالها بحكمة. ويحذر التوحيدي تحذيراً شديداً من "العتاب المفرط"، فهو يصفه بأنه "مذلة" للصديق وقد يُفضي إلى الحقد. فالعتاب، وإن كان بحق، إذا تجاوز حده أصبح إهانة تُضعف ذلك "الميثاق الغليظ". فالعلاج هنا وقائي، يقوم على الصبر والحلم والتغاضي الحكيم، حفاظاً على كرامة العلاقة من "مذلة" العتاب.

اما من المنظور المونتيني، قد يبدو هذا السؤال عن احتمال العيوب ثانوياً أو حتى مُفتعلاً. إذا كانت الصداقة اتحاداً وجودياً حيث يصير الصديق "أنا أخرى"، فكيف تُحتمل عيوب الذات؟ العيوب في هذه الحالة جزء من كينونة الصديق الكلية التي قبلتها الإرادة بحرية مطلقة. لا يوجد مجال هنا "لحمل" أو "احتمال" بالمعنى الكراهي، لأن القبول كان تاماً منذ البداية. ما يراه التوحيدي "هفوة" قد يراه مونتين سِمة شخصية في الكل الذي أحبه. فالثقة المطلقة التي أسسا لها تستبطن التسامح مسبقاً، بل تُبطِل الحاجة الشعورية إليه كواجب.

وكتخريج عام

وهكذا، بعد رحلة التأمل بين تشكك التوحيدي وحلم مونتين، نعود إلى السؤال الافتتاحي: هل نعلم حقًا لماذا لدينا أصدقاء؟ يقدم لنا الفيلسوفان إجابتين متكاملتين: إجابة واقعية-اجتماعية (التوحيدي) تُرجع الأسباب إلى فساد المحيط أو نقاء المشاكلة، وإجابة وجودية-فردية (مونتين) ترفض الأسباب نفسها لصالح حدث فريد ('لأنه هو هو'). إذا كان سؤال وسائل التواصل الاجتماعي عن طبيعة 'الصداقة' اليوم يلح علينا، فإن دروس هذين المفكرين تلتقي في تحذير مشترك: حذار من الخلط بين الكثرة والجودة، وبين المنفعة والتفرد. ربما تكون مهمتنا، في زمن 'الجهالة' الرقمي الجديد، هي الحفاظ على إمكانية ذلك 'اللا-سبب' المونتيني المجاني، عبر بناء 'مشاكلة' أخلاقية واعية (توحيدي) تُمكّننا من تمييز الجوهري من العَرَضي. فالصداقة الحقة، في النهاية، ليست مجرد اسم في قائمة، او عدد يضاف الى عدد بل هي مسعى فلسفي معيشي، سؤال نحمله وعلاقة نبنيها أو نعترف بها، في المسافة الدائمة بين واقع العلاقات الهشّة ومثال الوحدة المستحيل.

***

عمرون علي - أستاذ مادة الفلسفة

في المثقف اليوم