قضايا
ابتهال عبد الوهاب: الفلسفة.. الضوء الذي غاب عن نوافذنا
في هذا اليوم الذي يرفع فيه العالم راية الفلسفة اعترافا بقدرتها على تهذيب الروح وتهشيم الجهل وفتح نوافذ العقل..في هذا اليوم الذي ترفع فيه الإنسانية لافتة اليوم العالمي للفلسفه، وتضع العقل في موضع السيادة، أرى العالم كله كأنه يقف على حافة نور كبير، يحدق في ذاته، يسائل مساره، ويعيد ترتيب معنى الوجود
نقف نحن على الضفة الأخرى من الاحتفال، نراقب العالم وهو يتقد معرفة، نرتجف نحن تحت أغطية الإهمال والتشدد وكسل الفكر. بينما تنتشي الكرة الأرضية بهذا العيد الإنساني، ما زلنا نصغي لمن يضيّقون على العقل منافذ الضوء، ويجعلون من التفلسف جريمة ومن السؤال بدعة، حتى غدا مفهوم الفلسفة في بلادي مرآة مكسورة تعرض صورة مشوهة لا علاقة لها بالحقيقة.
يحتفل العالم اليوم بالفلسفة بوصفها جوهر الإنسان، ومرآته العميقة، ومغامرته الكبرى في فهم الحياة. بينما نحتفل نحن بطريقتنا الخاصة.. بصمت طويل، وبحراسة أبواب العقل من أن يدخلها نسيم الشك، أو يطل من خلالها سؤال يهز المألوف
ما زال في بلادنا من يرى الفلسفة خطرا، لا لأنها تهدم الإيمان، بل لأنها تهدم الكسل العقلي، وتفضح التواطؤ مع الجهل، وتحرر الإنسان من أن يكون نسخة باهتة تعيش برؤية الآخرين، لا برؤيتها الخاصة
إن تغييب الفلسفة من مدارسنا وجامعاتنا لم يكن مجرد إهمال منهجي، بل كان قطعا لنبض التفكير الحر، وتحويلا للعقل إلى أداة مطيعة تسلم لها الحقائق قبل أن تختبر، وتنزل عليها الأحكام قبل أن تفهم. الفلسفة كانت ستمنح أبناءنا القدرة على النقد، وملكة الإبداع، ورؤية تتجاوز ضجيج الموروث إلى رحابة الفكر، لكنها نزعت عمدا من حقائبهم كما تنزع بوصلة من يد مسافر قدر له أن يتيه.
وليس تشاؤما أن نتأمل حال الفلسفة عندنا اليوم، بل هو تأمل مريض في مرآة صدئة. ما نعيشه ليس أزمة فهم، ولا ضيقا بمباحث الوجود، بقدر ما هو اختناق ثقافي طويل المدى، صنعتْه قيود تمتد من الخوف إلى الجهل، ومن التحريم إلى تجريم الرأي، حتى أصبح التفكير مغامرة، والسؤال تهمة، والاختلاف جريمة
الفلسفة ليست ترفا يضاف إلى رف الكماليات؛ إنها ضرورة أخلاقية وفكرية. إنها تلك اليد الخفية التي تمسك العقل وتمنعه من الانحدار نحو يقينيات مطلقة لا تعرف الشك ولا تعترف بالآخر. الفلسفة ليست موسوعة لأسماء الفلاسفة، ولا هي تكديس للنصوص، بل هي نمط خاص في النظر إلى العالم، رؤية تؤنسن الوجود، وتحول التجربة الفردية إلى مجال لاكتشاف الذات والآخر معا. وما الفلسفة إلا هذا التوتر الجميل بين حرية الفرد وانعكاس المجتمع فيه، بين تفرده وتشابكه، بين صوته الخاص وصدى البشرية في داخله.
الفلسفة ليست علما يدرس فحسب، بل هي طقس من طقوس الحياة. دهشة ممتدة وصوت داخلي يوقظ فينا السؤال الأول. السؤال الذي يشق الصمت ويخلق المعنى.
حين تمنع الفلسفة، يمنع الإنسان من أن يكون إنسانا. وحين تشوه صورتها، تتشوه صورته هو، وتتقزم قدرته على فهم العالم، وعلى فهم نفسه.
إنها ما يمنح العالم القدرة على مواصلة الدهشة، تلك الشعلة الأولى التي أشعلت العقل البشري منذ بداياته. الفلسفة انتصار للرغبة في الحياة، وسعي لفهم الوجود، ومحاولة للقبض على معنى يتخفى دائما كلما اقتربنا منه. هي بحث لا نهائي عن الحقيقة، لا بحث كي ننتصر لوجهة نظرنا، بل كي نعرف كم كنا مخدوعين بما نصر عليه. إنها دعوة لاحتضان تعدد الرؤى، وللسؤال الذي لا يخاف الهدم ولا يخشى إعادة البناء.
نحن نعيش اليوم أزمة ليست في الفلسفة ذاتها، بل في المناخ الذي يحاصرها:
مناخ يخاف من الحرية،
يعادي الاختلاف،
ويرى التفكير تهديدا،
والتأمل رفاهية،
وطرح الأسئلة خروجا عن السرب
هكذا تحولت الفلسفة في بلادنا إلى غريبة
الفلسفة تساعدنا على أن نكون ذواتنا كما نحن، لا كما يريد المجتمع تشكيلنا. وهي تقول لنا إن الاختلاف ليس تهديدا بل شرط من شروط الوجود نفسه، وإن العالم في حالة صيرورة دائمة، وإن السكون مجرد وهم نحتمي به من خوفنا من المجهول. ولذلك تتجه الفلسفة إلى عقلنة الحياة، وتحريرنا من لعبة الحظ ومن هلع المصير الغائم.
إن احتفال العالم اليوم بالفلسفة هو دعوة لفتح أبواب الحوار، وبناء جسور تتجاوز صخب الأيديولوجيات الضيقة. إنه نداء إلى خطاب إنساني كوني، يسعى إلى جمع ما فرقته الشعارات والانغلاق والتعصب، ويمنحنا فرصة لاستعادة إنسانيتنا التي تبهت تحت ضغط الانتماءات الحادة.
ورغم كل هذا، تظل الفلسفة كالماء؛ تستطيع أن تحاصرها، لكن لا يمكنك أن تلغي قدرتها على التدفق.
فهي تدخل من ثغرة صغيرة في العقل، لتفتح نهرا من الإدراك، وتوقظ دهشة كانت نائمة منذ زمن بعيد
وفي هذا اليوم العالمي للفلسفة، لست أرى المناسبة احتفالا بمبحث أكاديمي،
بل أراها احتفالا بكل إنسان قاوم التشابه، قاوم الاستسلام، قاوم الخضوع للجاهز من الأفكار.
من قرأ جملة واحدة جعلته يعيد التفكير في نفسه. من طرح سؤالا أربكه، أو أعاد رسم حدوده. من اهتز يقينه فلم يشقَ، بل شعر بالحياة.
من حق هؤلاء ان يحتفلوا بالفلسفه في يوم الفلسفة. الفلسفة ليست درعا ضد الجهل فحسب، بل ضد الموت الداخلي أيضا.
إنها الأكسجين الذي يتنفسه العقل ليبقى حيا، والنبض الذي يجعل الوجود يستحق التأمل. وكل عام في اليوم العالمي للفلسفة نكتشف أننا لا نحتفل بالفلسفة وحدها، بل نحتفل بآخر ما تبقى فينا من إنسانية.
كل عام، وأساتذتي وأصدقائي ومحبو الفلسفة بخير، كل عام، ونحن نصر على أن يكون للعقل مكان يليق به في هذا العالم.
***
ابتهال عبد الوهاب






