قضايا
علجية عيش: في روضة مالك بن نبي.. العفن والعنف المقدس
قبل البدء نطرح السؤال التالي: لماذا سمّى مالك بن نبي مذكراته بالعفن ولم يعطها اسما آخر؟ هل يعود ذلك إلى حالة التعفن التي عاشها المجتمع الإسلامي في العالم الإسلامي كله؟ أم هي وصفٌ لحالة مجتمع العالم الثالث وبخاصة الجزائر وما يعانيه من التخلف والانحدار والانهيار في النظم التربوية، الأخلاقية والسياسية وحتى الدينية لأنها بلغت مرحلة "التعفن" ، بعيدا عن الجانب العلمي (وما تقوم به الفطريات متعددة الخلايا)، فالتعفن من العفن وهو يشكل خطرا على الصحة النفسية والعقلية للإنسان، خاصة في عالمنا الرقمي، عالم نستهلك فيه كل الأفكار دون أن نعرف مصدرها وماذا يراد بها، الحديث إذن عن العفن الفكري وماهي الأضرار التي تعود على الإنسان ومحيطه، ففيما يتعلق بالأفكار، فالعفن الفكري يرادُ به غياب المقدس، وغياب المقدس له تأثيرات سلبية، إذ يسبب صراعا مدمرا، صراع الإنسان مع نفسه، ومع الأخر، وقد يؤدي به إلى الإجرام، (القتل) أي العنف عندما تنغلق كل أبواب الحوار وسبل الوصول إلى التفاهم، خاصة إن تعلق الأمر بالدين .
والعفن هو وصفٌ للفساد والانهيار الأخلاقي في المؤسسات السياسية (الأحزاب) والاجتماعية، والدينية، هو وصف للقابلية للاستعمار، وهي واحدة من الظواهر التي تتسبب في شقاء الإنسان وتهدد أمنه واستقراره، وتجعله يعيش حياة العبودية، حينها يصعب عليه تنظيم أفراده، ويصعب عليه كذلك تشكيل حاضنة فكرية للبناء والتقدم، إن السلطة كآلية لتنظيم المجتمع كما يقول ميشال فوكو بحاجة إلى السلم والاستقرار وبناء علاقات إنسانية بين الأفراد ومن ثمّ تحرير المجتمع من قيود التخلف والجهل والتبعية، فإن مارست السلطة الضغوطات على الأفراد وأظهرت بطشها تجاههم من أجل فرض عليهم الطاعة والانصياع لأوامرها، وإن كانت هناك قابلية للاستسلام، فنحن إذن إزاء الحديث عن مجتمع العفن، مجتمع تطغى عليه السلبية ويرضى بالانهزامية، لقد عبّر الشعب الجزائري عن رفضه لكل هذه السياسات العفنة، البداية كانت بمواجهته الاستعمار الفرنسي، ثم مواجهته السلطة بعد الاستقلال، بدءًا من الربيع الأمازيغي 1980، إلى أحداث أكتوبر 1988 ثم العشرية السوداء التي يمكن وصفها بمرحلة "العفن" في أعلى مستوياته، حين جَمَّدَ الخطاب الديني العقل والتقى السلاح مع السلاح، انفجر البركان، وكسّرت المعارضة الصّمت وخرجت إلى الشوارع باسم "الجهاد"، فقدت السلطة كل وسائل التحكم.
هي عشرية سوداء حملت كل ألوان العفن والركود الأخلاقي، اتخذت المعارضة من الجهاد شعلة مقدسة، وقالت إنه العنف المقدس، نقوده لنحصل على الشهادة، هي الحرب الأهلية التي عاشها الجزائريون، وقد فسرها البعض بأن المجتمع الجزائري بعيد عن مجتمع الرفاهية والوفرة لذلك انتفض وكثرت فيه نزعات العنف ووصلت به الأمور إلى حالة العفن، وهذه نظرية مغلوط فيها أو أن طارحوها أرادوا أن يغلطوا الرأي العام، فما حدث في الجزائر عنف سياسي تطور حتى تعفن، لأن مجتمعات الرفاهية والوفرة كما نراه في الدول الأوروبية كفرنسا مثلا كانت ولا تزال تحمل نزعة العنف تجاه الشعوب، ليس لأنها بحاجة إلى الرفاهية والوفرة عن طريق الاستيلاء على ثوراتها النفطية فحسب، بل لتغريبها وطمس هويتها ومحاربة عقيدتها، كذلك هي الحرب على الإسلام التي تقوم بها الأنظمة الغربية واللوبي الصهيوني، ونسيت أن النزعة السلمية pacifisme للعيش المشترك ضرورية، دون اللجوء إلى القمع والتجويع والتقتيل.
والعيش المشترك لا يعني أن يتخلى شعب أو يتنازل عن دينه وأرضه وثقافته وهويته، إن ما يحدث في غزة مثلا هي حرب دينية تريد إسرائيل ومَن وراءَها إلغاء فلسطين من خريطة العالم لتحقيق حلم العودة وجعل القدس عاصمة لها، وإن كانت هذه الحرب هي حرب بين دولة ودولة مزعومة اسمها إسرائيل، فمن المفارقات أن يقوم العنف بين أفراد داخل دولة واحدة، مثلما حدث في الجزائر، فالدافع لم يكن اقتصاديا كما زعم البعض، كما لم يكن عقائدي من أجل بناء الدولة الإسلامية، كما توهمه البعض، ففي مخيل كل طرف أن ما يقوم به هو عنف "مقدس"، إن انتشار الفساد الفكري والسياسي في البلاد العربية لا يعبر عن التخلف أو الدفاع عن المقدسات، وإنما كان صراع على السلطة والحكم، وكان الصراع سببا في تعفن الوضع، وهذا هو العفن الذي أراد مالك بن نبي أن يوصله إلى القارئ العربي.
***
علجية عيش






