قضايا

سامح مرقس: الصراع بين العلم والكهنوت

على مر التاريخ، واجه قاده وعلماء التنوير انتقادات وهجمات من الكهنوت الذي راى ان افكارهم تمثل تهديدا لثوابتهم العقائديه وتزعزع تسلطهم علي المجتمع.

وقبل الخوض في تفاصيل المقال، لا بدّ من توضيح ان مصطلح الكهنوت يشير الي اشخاص معينين للقيام بالخدمات والطقوس الدينيه؛ في اليهودية، رجال الدين هم الحاخامات، وفي المسيحية الكهنة، وفي الإسلام يُعتبر الشيوخ رجال دين، مع أن الإسلام لا يعترف بالكهنوت.

حُسم الصراع بين العلم والكهنوت في أوروبا في العصر الحديث لصالح العلم بعد مواجهات عديده مثل محاكمة جاليليو أمام الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى بسبب ادعائه أن الأرض ليست مركز الكون وأنها تدور حول الشمس، وهجمات رجال الدين على نظرية داروين في التطور عن طريق الانتقاء الطبيعي في القرن التاسع عشر.

في هذا المقال سنعرض ثلاثة أمثلة مهمة للصراع بين الكهنوت والعلم في مصر وهم حسب الترتيب الزمني؛ الدكتور طه حسين، الدكتور لويس عوض، والدكتور نصر حامد أبو زيد.

نبدأ بقصة محاكمة الدكتور طه حسين في عشرينيات القرن الماضي وإصداره كتابًا عن الشعر الجاهلي قال فيه أن كثيرًا من الشعر الجاهلي كُتب بعد ظهور الإسلام لأسباب دينية وسياسية. رفض علماء الأزهر تحليله، معتبرين إياه اعتداءً على الثوابت الدينية، وأرسل شيخ الأزهر آنذاك خطاباً إلى النائب العام يتهم فيه كتاب "في الشعر الجاهلي" بتكذيب القرآن الكريم.

قام بالتحقيق محمد نور رئيس نيابة مصر المعروف بتدينه وثقافته الواسعة. وبعد دراسة شاملة لجميع جوانب القضية، قرر حفظ القضية إدارياً استناداً إلى أحكام دستور 1923 الذي ينص على أن حرية الاعتقاد والرأي مطلقة، ولكل إنسان الحق في التعبير عن رأيه في حدود القانون، وأن الدكتور طه حسين لم يقصد الإساءة إلى الإسلام، وأن ما قاله كان لأغراض البحث العلمي.

وبينما أنصفت النيابة العامة طه حسين وحرية البحث العلمي في عشرينيات القرن الماضي، فإن القانون لم ينصف لويس عوض ونصر حامد أبو زيد في ثمانينيات القرن العشرين، تحت تأثير الفكر الديني السلفي في تلك الحقبة المؤسفة من تاريخ مصرالحديث.

اتُهم الدكتور لويس عوض بمهاجمة الإسلام والتراث العربي بعد نشره كتابه الموسوعي "مقدمة في فقه اللغة العربية" عام 1980 الذي تتطلب عشرين عامًا من البحث الدقيق، واستخدام المنهج العلمي الحديث لدراسة اللغة العربية. اوضح الكتاب أن اللغة العربية هي أحدث فروع اللغات السامية التي انبثقت من شجرة اللغات الأفروآسيوية، وان هناك كلمات كثيره من لغات أخرى في اللغة العربية، وان فكرة اعجاز اللغه العربيه ظهرت بعد الفتوحات الاسلاميه، لدعم تفوق العرب ولغتهم على البلاد التي تم غزوها. أثارت قدسية واعجاز اللغة العربية جدلاً بين الأشاعرة والمعتزلة. اعتبر المعتزلة اللغة العربية لغةً مخلوقةً كسائر اللغات، ودعوا إلى استعمال العقل. في المقابل، رأى الأشاعرة أن اللغة العربية لغةٌ مقدسة، وليست مخلوقةً كسائر اللغات.

رفض مجمع البحوث الإسلامية تحليل الدكتور لويس عوض للغة العربية، وأرسل مذكرة في سبتمبر 1981 إلى مباحث أمن الدولة، طالب فيها بمصادرة الكتاب واستجواب مؤلفه، وحُدِّدَت جلسةٌ في محكمة جنوب القاهرة للتحقيق في هذا الاتهام الذي رفضه محامي لويس عوض وطلب رأي من مجمع اللغة العربية، لأن القضية تتعلق بفقه اللغة العربية، وليس بالدين. إلا أن الأزهر رفض ذلك وأكد أن مجمع البحوث الإسلامية هو الجهة المختصة. رضخت المحكمة لطلب الأزهر تفاديًا لردود فعل غير محسوبه في الشارع المصري في فترة توتر تشهدها البلاد بعد اغتيال انور السادات. وفي ظل هذه الظروف، قضت المحكمة بمصادرة الكتاب، ما جعل مجمع البحوث الإسلامية طرفاً وحكماً في نفس الوقت وهذا انتهكا لأبسط مبادئ العدالة في القانون. علاوة على ذلك فإن حكم القاضي يخالف القانون رقم 10 لسنة 1967 ولائحته التنفيذية لسنة 1975، اللذين لا يعطيان الأزهر بجميع هيئاته أي حق في طلب مصادرة أي كتاب أو عمل فني. وعلق الكاتب يوسف القعيد على الحكم قائلاً إن أسلوب الحكم عفا عليه الزمن، ومنع نشر الكتاب مأساة متكاملة، ولا يمكن معالجة الكتابة بأمن الدولة ولا بمجمع البحوث الإسلامية.

تعرض الكتاب ايضا لانتقادات من المفكرين الإسلاميين، الذين اتهموا لويس عوض بتجاوز حدود النقد الأكاديمي إلى التشكيك في مكانة اللغة العربية كعنصر ديني وثقافي، وان استخدام المناهج الغربية في تحليل اللغة العربية لا يتناسب مع خصوصيتها الثقافية والدينية.

امتد النقد إلى الهجوم الشخصي على الدكتور لويس عوض والسخريه من اسم لويس، الذي له أصول فرنسية، ووصفه بأنه مفكر صليبي، وهذا المصطلح له دلالات عدائية مرتبطة بتاريخ الحروب الصليبية. ومن الشائعات السخيفة ان لويس عوض كتب المقدمة فقط، وأن جميع فصول الكتاب كتبها باحثون من الكنيسة، وعلى رأسهم الأب جورج قنواتي، الراهب الدومينيكي الذي يعد من أهم المفكرين المصريين .

التزم الدكتور لويس عوض بالصمت تجاه النقد والاتهامات قائلاُ قولته الشهيرة " أنا لا أناقش من هم دوني، وليسوا لي أنداداً ”.

على العكس من ذلك، حظي الكتاب بإشادة واسعة من الأكاديميين البارزين في فقه اللغة العربية، الذين اعتبروه موسوعة فكرية ولغوية واسعة. واتفق معظمهم على أن هدف المؤلف ومنهجه هو تطبيق القوانين العلمية الحديثة على اللغة العربية، وليس مهاجمة الدين الإسلامي.

نختتم المقال بقصة الدكتور نصر حامد أبو زيد، الذي حوكم في تسعينيات القرن الماضي، وفقًا لنظام الحسبة، وهو نظام قانوني، يُعطي الحق لأي شخص باللجوء إلى القضاء واتهام أي مسلم بالردة . وهذا أسلوب يخضع للتاويل وتفسير النصوص الدينية بما يتجاوز ظاهرها. وقد تسبب التاويل في اختلافات بين المدارس الفكرية المختلفه، فالمدرسة السلفية تعتمد على التفسير الحرفي الظاهري، وكان لها تأثيرٌ بالغ في محاكمة ابوزيد، ومدرسة الأشاعرة تتبني نهجًا وسطًا بين التأويل والظاهر، ومدرسة المعتزلة التي تتميز باعتمادها على التأويل العقلي للنصوص وفقًا للمنطق والفلسفة.

كانت جريمه الدكتور أبو زيد انه سعى الي تقديم قراءة جديدة للنصوص الدينية، معتمدا علي علم التأويل (الهرمنيوطيقا)، موضحا أن فهم القرآن يجب أن يكون تاريخيًا وسياقيًا، وليس جامدًا أو حرفيًا، وأن النصوص الدينية جزء من المنظومة الثقافية والتاريخية التي نشأت فيها. أدت هذه الأفكار إلى اتهامه بالإلحاد، ورفض ترقيته إلى أستاذ بجامعة القاهرة. وكان للدكتور عبد الصبور شاهين، عضو اللجنة العلمية التي راجعت أبحاث أبو زيد للحصول على الأستاذية، والخطيب بجامع عمرو بن العاص، دورٌ رئيسي في اتهام أبو زيد بالإلحاد وتشويه سمعته في الشارع المصري. وادي ذلك الي رفع دعوى ”حسبة“ تتهمه الدكتور ابوزيد بالردة عن الإسلام ووجوب طلاق زوجته. وفي 5 أغسطس 1996 أصدرت محكمه النقض برئاسة المستشار محمد مصباح شرابية، حكمًا بتفريق ابوزيد عن زوجته الدكتورة ابتهال يونس، أستاذة الأدب الفرنسي، واستند الحكم إلى الشريعة الإسلامية، ودستور الدولة الذي ينص على أن دين الدولة هو الإسلام، وأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. وفي أعقاب قرار المحكمة، اضطر أبو زيد إلى الفرار من مصر إلى هولندا مع زوجته، حيث واصل أبحاثه الأكاديمية في جامعة ليدن.

بعد سنوات من قضيه الدكتور ابوزيد، شعر النظام القضائي في مصر بهشاشة وثائق الحسبة، ولذلك رفض دعوى الحسبة.

***

بقلم استاذ دكتور سامح مرقس

في المثقف اليوم