قضايا

ابتهال عبد الوهاب: مسار الوعي من الفكرة الي التجلي

في البدء كانت الفكرة.. ومن قال إن الفكرة ولدت صدفة؟

إنها الشرارة الأولى التي توقظ فينا رغبة السؤال، وتفتح في جدار العادة نافذة على المجهول. تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها كالماء حين يلامس الصخر، يبدأ وديعا ثم يشق طريقه عميقا في القلب والعقل معا.

لكن الفكرة، ما لم تتأمل، تظل سطحا لامعا يخفي عمقا مجهولا.

وحين تتأمل الفكرة، تتحول إلى مرآة؛ مرآة لا تعكس وجهك كما هو، بل تعريك من أقنعتك، وتريك ما لا تراه في ضوء العادة.

إنها لا تريك وجهك فحسب، بل ما وراء وجهك، ما تحاول إخفاءه عن نفسك قبل غيرك.

تُريك ما لم تكن تريد أن تراه، وتجبرك على أن تصبر ما لم تكن قادرا على تسميته.

إنها لحظة صادقة بينك وبين ذاتك، حين يتوارى الضجيج، ويعلو صوت الوعي الهامس: “من أنت؟ وما الذي يراك وأنت تفكر؟”.

في المرآة يبدأ الانكشاف، تسقط الصور المصطنعة، وتتهاوى الأقنعة التي طالما احتميت بها. تدرك فجأة أن المعرفة ليست إضافةً لما تعرف، بل انتزاعًا لما توهّمت أنك تعرفه.

ليس الانكشاف معرفة جديدة، بل سقوط الحجب التي كانت تفصل بينك وبين ما هو قائم فيك منذ الأزل.

تكتشف أن ما كنت تراه خارجك كان صدىً لما في داخلك، وأن ما كنت تحاربه في الآخرين لم يكن إلا امتدادا لظلك الشخصي.

في لحظة الانكشاف تلك، يصير العالم كله مرآة ممتدة، ويصير الوعي نافذة تطل على ما وراء الظاهر

هناك، في صمت الانكشاف، يولد الخوف والدهشة معا؛ الخوف من الفراغ، والدهشة من اتساعه. لكن الوعي لا يكتمل إلا عبر التجرد. ذلك المعبر الصعب، الذي لا يقطع بالمعرفة وحدها، بل بالتحرّر منها.

والتجرد هو أن تخلع عنك ثياب المفاهيم والعقائد والتصنيفات، أن تنزل إلى جوهر الوجود عاريًا إلا من الصدق. هو لحظة الفناء الجميل، حين تسلم نفسك لعري الفهم، وتترك عنك كل تعصب وانتماء، كل فكرة مسبقة أو هوية مكتسبة. التجرد ليس إنكارا للذات، بل تحرر منها لتبلغ حقيقتها الأولى، كالنهر حين ينساب إلى منبعه ليجد ذاته في الأصل.

ثم تأتي المواجهة، وهي أعنف المراحل وأجملها. مواجهة الذات حين ترى نفسها بوضوح تام، بلا زخرف ولا أعذار. تسقط الأقنعة، وتبقى أنت أمام حقيقتك المجردة. عندها تفهم أن الوعي ليس راحة بل امتحان، وأن الحقيقة لا تمنح نفسها إلا لمن يملك الشجاعة على النظر في هاويته الخاصة.

وعند المواجهة تبلغ الوعي ذروته: مواجهة الذات بالذات، والوعي بالوعي، والنور بالظل. هناك لا مهرب، لأنك تنظر في أعماقك بعيون الحقيقة، وتدرك أن كل ما حولك لم يكن إلا إسقاطا لما فيك.

وحين تصمد أمام المواجهة، تتجلى الحقيقة. لا كفكرة تضاف إلى أفكارك، بل كحضور يشملك، كنور لا يرى بالعقل وحده، بل يحس بالقلب الذي تطهر من زيفه. عندها، لا تعود تبحث عنها خارجك، لأنها تصير أنت… وأنت تصيرها

وحين تمرّ النار ويصفو المعدن، تتجلى الحقيقة. لا كفكرة في كتاب، بل كحضور يملؤك. تدرك أن الوعي ليس غاية، بل عودة: عودة إلى النور الأول الذي انبثق منه كل شيء. هناك، في تلك اللحظة، تصمت الكلمات، لأن الحقيقة لا تقال، بل ترى... تعاش... تصبح أنت.

هكذا هو مسار الوعي: فكرة توقظ، فمرآة تكشف، فانكشاف يطهر، فتجرد يحرر، فمواجهة تنقي، فحقيقة تتجلى.

رحلة من الظاهر إلى الجوهر، من الكلمة إلى الصمت، ومن الإنسان إلى ما يتجاوز الإنسان. وحين يكتمل المسار. تخفت الأصوات في الداخل.

وتتراجع الأسئلة التي كانت تملأ الأفق ضجيجا.. يكتشف الإنسان أنه لم يكن يسير نحو الحقيقة. بل كانت الحقيقة تسير نحوه منذ البدء. تنتظر لحظة استعداده لأن يراها. هناك، في أعمق نقطة من الصمت، يدرك أن الفكرة كانت سلما، والمرآة كانت امتحانا.. والتجرد عبورا. والمواجهة ولادة ثانية.

وفي النور الأخير، لا يعود الوعي سعيا ولا معرفة، بل حالة حضور كاملة، يشعر فيها الإنسان أنه لم يعد شيئا منفصلا عن الوجود، بل صار هو الوجود نفسه —هادئا، صافيا، أبديا، كأن الحقيقة لم تكن سوى نفسه وقد أشرقت أخيرا.

***

ابتهال عبد الوهاب - مصر

 

في المثقف اليوم