قضايا

مجدي إبراهيم: محمد عبده.. من عقلانيّة الإمامة إلى حكمة العارفين

توقفنا في اللقاء السابق عند قول "جوستاف لوبون": " لو صَحَّ أن يكون للأديان ما يُعزى إليها من تأثير لوجب أن نقول إنَّ القرآن أفضل من الإنجيل؛ لأن أمم الإسلام كانت أسمى أخلاقاً من أمم النصرانيَّة "؛ وهو بالحقيقة قول يحتاج منا إلى إعادة نظر؛ فأي منصف تمثلت العقلانية لديه لا يقبل مثل هذه الأقوال التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، ظاهرها إظهار الحقيقة وباطنها الفتنة بين الأديان.

فتلك أقوال من شأنها أن تثير التعصب وتخلق شعور البغضاء بين رسالة الأديان الكتابية، وهى في مجملها رسالة الله، من الله، تحفظ للإنسان رباطه الروحي مع خالقه، وتحث جميعاً في ذاتها على قيم الأخوَّة والمحبّة والتسامح والسلام. ثم منذ متى كان الحكم على أفضلية الكتاب المقدس قياساً بأفضلية الأمم المنتسبة إليه؟

وهل كل المنتسبين إلى الإسلام على درجة من الأخلاق سامية ومتساوية؟ وقد كان الأستاذ الإمام إذا سمع بأحدٍ من الأوربيين يطعن في الإسلام يقول: إنّ هؤلاء الإفرنج يأخذون مطاعنهم في الإسلام من سوء حال المسلمين، مع جهلهم بحقيقة الإسلام. إنّ القرآن نظيف، والإسلام نظيف، وإنمّا لوّثة المسلمون بإعراضهم عن كل ما في القرآن واشتغالهم بسفاسف الأمور.  

حقيقةً؛ إنَّ ما يجيء من غمز ولمز بصدد الصراع الدائم بين الأديان الكتابية شيء ـ فضلاً عن كونه يُشْعل فتيل الثورة والعداوة، ولا يدفع إلى توخي السلام الروحي والنفسي ـ ينبغي جميعاً أن نتجاوزه إلى ما فوقه، وإلى ما بعده، وأن نترك هذا الصراع التاريخي الدامي لله الحاكم والمسيطر والمطلع على الضمائر والقلوب، وألاّ نكرِّه الناس في دين الله، في رحمة الله.

وفي الحق أني لأعجب كل العجب من أولئك الذين ينفِّرون الناس من خالقهم الذي أخبر عن نفسه أن رحمته وسعت كل شيء .. كل شيء .. وبغير استثناء شيء دون شيء، وأنه يختص برحمته من يشاء بفضله، ولم يقل قط أنه أختص بنقمته من يشاء.

فلئن كان ثمة صراع، ففي مثل هذا الصراع تعميق لا شك فيه لهوة الخلاف بين رسالة الأديان الكتابية في حين أن المفروض فيها أن تسودها الوحدة ليحل السلام، وأن تجمّع الروابط المشتركة فيما بينها ليزول التعصب الأحمق المأفون، وأن نثق في الله، وأن نأخذ عنه مباشرة تعاليمه، وأن ننزهه عن الغضب والمسْخَطة، وأن يكون هو لا غيره قبلتنا ووجهتنا.

وبما إن هناك خلافاً بين الأمم والشعوب حول العقائد؛ فالأصل في الدين أنه واحد، وإنْ كانت الشرائع مختلفة.

والعقيدة الصريحة الصحيحة تقرّر فيما يقول الأستاذ الإمام:" إنْ الله بعث الرسل، وأنزل الكتب، وبيَّنَ الثواب والعقاب، وأيَّدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم، وأوجب على لسانهم معرفة التوحيد والشريعة، وكل ما قالوه صدق، وكل ما فعلوه حق. وقد أشار القرآن الكريم إلى الخلاف بين الأديان المتعددة، فجاء منه في سورة الحج:" إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالمَجُوُسَ وَالَّذيِنَ أَشْرَكُوا إنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّ اللهَ عَلَى كُلٍ شَيْء شَهِيدُ ".

ولما كانت الشرائع والأديان لم تأتْ إلا لتهذيب النفوس الإنسانية، ونقلها من مرتبة الحيوانية إلى رتبة البشرية المهذبة أو رتبة الملائكية، إنْ استطاعت، وتخليصها من عالم الكون والفساد إلى عالم البقاء والدوام، وكانت سير الأنبياء ووصاياهم، وحياة الأولياء والعارفين وشذراتهم، وسنن واضعي النواميس ومراميهم، تؤكد ذلك وتقويه؛ فقد صارت الكتب السماوية - كما يقول الإمام محمد عبده -: التوراة والإنجيل والزبور حقاً لا كذب فيه، بشهادة القرآن ذاته، وكانت باقية أبداً وكانت حقيقة هذه الكتب معلومة أبداً، لا لشيء إلا لأن القرآن الكريم مصدر الكتب الإلهية السابقة ومهيمنٌ عليها كما في قوله تعالى: "وَأَنْزَلْنَا إَلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِ مُصَدِّقَاً لما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيهِ"؛ وذلك لأنه الكتاب الذي لا يصير منسوخاً ألبتةً ولا يتطرق إليه التبديل والتحريف على ما قال تعالى:"إنَّا نَحْنُ نَزَلْنَا الذِّكرَ وإنا لَهُ لحَافِظوُنَ".

بقيتْ كلمة أخيرة تدعونا إلى التساؤل: إذا كان المستشرقون من أقطاب الفكر الغربي قد أنصفوا الأخلاق الإسلامية، ووصفوها بالتسامح والأخوة الروحيّة والمحبّة بين أبناء العالمين كما أنصفوا الإسلام باعتباره مصدر الأخلاق على أبنائه فيما لو طبقوه؛ لأنه يُوجهِّهم ويعلمهم ويحيطهم بالتعليم والمعرفة والخلق الحسن السديد، فهل بعد ذلك يمكن الشك في تعاليمه أو في مبادئه وإرشاداته وتوجيهاته لبني الإنسان؟

فلماذا تستمر تلك الهًجْمة الشرسة على الإسلام حتى الآن؟ ولمَ لمْ نتجاوز في حواراتنا صراع الأديان القديم؟ إنَّ الإسلام بعيدٌ في ذاته كل البعد عن شك الشاكين وتجني الآخذين قضاياه ومبادئه بسالف البهتان.

(٦) أذواقه واستبصاراته:

هنالك لا شك منهج تربوي عقلاني في تعاليم الشيخ محمد عبده:  تربوي في الأساس لكنه ليس تربوياً وكفى بل يُضاف إلى التربية خاصة أخرى هى لبها ولبابها وجوهرها الأصيل وفردانيتها المستبصرة، وليس المنهج بغيرها يقوم، ولا يمكن استحضاره بدونها، وأعني بها تلك "الخاصَّة الذوقية" أو بالأحرى (منهج التصوف الذوقي) الذي كان الأستاذ الإمام يفضله ويرعاه؛ كان يفضله في نفسه ويرعاه تطبيقاً عليها ويسمو به فيها غاية السمو وتسمو به نفسه بمقتضاه وترتفع غاية الرفعة؛ الأمر الذي يكشف جلياً عن طبيعة الصوفي وحضوره في حياة ومنهج الشيخ محمد عبده في كل ما هو متعلق بالتربية أو متصل بالإصلاح الديني والخُلقي والاجتماعي أو متصل من ناحية أخرى بفهمه للقرآن الكريم. وهو القائل على التحقيق:"كل ما أنا فيه من نعمةً في ديني، فسببها التصوف".

هذه المقولة الخالدة وحدها استبصار ذوقي، كاشفة عن أذواقه وإشراقه الروحي ومراقي بصيرته؛ فهو يعد التصوف نعمة أنعم الله بها عليه في دينه، بل عنده أن "التصوف هو الدين"، "وأن ارتقاء النفوس في مقامات الكمال من العناية الإلهية هو بحث دقيق ممّا أختص به علم التصوف"؛ ولنلحظ أنه يذكر التصوف ولم يذكر الصوفيّة؛ لأن نقد الصوفية وارد ليس منه مانع، إذ كان نقداً للرجال وللأفكار.

إنّ الفرق واضحُ وضوح الشمس في ضحاها بين إنكار أشخاص ومسالك، وإنكار قضايا وعقائد، فالأشخاص ممّا يجوز لك الاختلاف معهم ومع مسالكهم فيما شاءت لك حجة الخلاف أن تمضيها نقداً على الأعمال والأفكار وعلى ما يكون وراؤها ممّا يكشف عنها فيما هو مخبوء تحتها من طوايا ونوايا وتخريجات.

وليست العقائد الكبرى هكذا؛ لأنها ليست سوى النصوص، صامتة في ذاتها لا ينطقها إلاّ من أراد النطق بها بمقدار ما يفهم، وبمقدار ما يُلهم منها، ومن ذلك الفهم الذي يتوخّاه. أمّا التصوف فمعناه كبير جداً فهو القيمة العليا، هو الإحسان من الدين. ومقام الإحسان من الدين إذا أوتيه إنسان فليس من نعمة فوقه.

(وللحديث بقيّة)

***

د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم