قضايا

أكرم عثمان: أسرى الوهم الذهني.. كيف نحرر عقولنا من سطوة الصورة النمطية؟

من أخطر ما يواجه الإنسان في هذا العصر المتسارع هو الوهم الذهني الذي يعشش في العقول والقلوب، فيحول نظرتنا إلى الآخرين إلى صور نمطية وأطر مغلقة نعيش داخلها وكأنها حقيقة مطلقة. ولعل هذا الوهم يتجلى أكثر في علاقتنا بالمشاهير والمؤثرين الذين لم يعودوا مجرد أشخاص يقدمون موهبة أو حرفة، بل أصبحوا رموزاً ذهنية تحاصر وعينا وتستحوذ على مخيلتنا وتستهلك من تفكيرنا وطاقتنا. نحن نصنع لهم في داخلنا مكانة ضخمة، نتابعهم بشغف وننساق وراء ما يعرضونه وكأنهم المقياس الأوحد للحياة الناجحة والسلوك القويم.

يميل الإنسان بطبيعته إلى من يشبهه أو يلتقي مع قناعاته، وهذا الميل مشروع في جوهره، لكنه حين يتحول إلى انجراف لاشعوري، فإنه يفقدنا القدرة على التمييز والنقد ما بين الغث والسمين، ما بين الغالي النفيس والرخيص. فنحن لا نكتفي بمتابعتهم بل نبني لهم في وعينا قصوراً مثالية، ونضعهم في منزلة القدوة المطلقة التي لا تخطئ ولا يطالها النقد والتقييم. هنا تتشكل الصورة الذهنية التي تكون في الغالب أقوى من الواقع نفسه، فنرى ما نريد أن نراه لا ما هو موجود بالفعل والحقيقة، ونصنع أبطالاً ورموزاً من ورق ثم نسلم لهم عقولنا وقلوبنا بلا مقاومة أو تمحيص.

هذا الانسياق له أثر عميق على الفرد والمجتمع معاً. على مستوى الفرد، يذوب الإنسان في دائرة الإعجاب فيفقد استقلاله الداخلي وحسه المرهف ووجدانه ومشاعره، ويتأثر بقرارات وسلوكيات لا علاقة لها بمسار حياته أو أهدافه الحقيقية. وعلى مستوى المجتمع، تتحول الساحة العامة إلى صدى متكرر لما يقوله هؤلاء المؤثرون، فتغيب القضايا الجوهرية لحساب التوافه، ويحل اللمعان السطحي مكان الفكر العميق والرؤية الأصي، ويظهر العديد المتعصب المقيت وردود الأفعال التي تصل إلى الكراهية والعداوة الشرسة التي تفرق ما بين الأفراد أنفسهم وما بين الجماعات كذلك.

التحرر من هذا الوهم يبدأ حين نعيد الاعتبار للقيم التي نؤمن بها والأفكار التي تبني وتعمر وتشيد. فالإعجاب مشروع، لكنه لا يكفي وحده ليجعل من شخص ما قدوة يحتذى بها. ما ينبغي هو أن نخضع كل ما نراه ونسمعه إلى ميزان نقدي داخلي يستند إلى المبادئ والأخلاق والأفعال التي تسير وفق رؤية المنفعة والمصلحة التي تترك أثراً جلياً وبصمة منيرة ومضيئة، وأن نميز بين ما هو أصيل يضيف معنى وقيمة إلى حياتنا وما هو زائف لا يترك سوى لمعان عابر وصورة هلامية كأنها السراب الذي يلمع في شمس حارقة لا يلبث أن يختفي أثره عند الاقتراب منه. فالمعيار الحقيقي ليس حجم الحضور الرقمي ولا عدد المتابعين ولا المعجبين، بل الأثر الذي يتركه الشخص في وعينا وسلوكنا وتوجهاتنا التي نؤمن بها ونعتبرها نبراساً لحياتنا وطريقاً سالكاً لها.

إن العالم الرقمي اليوم يغري بالكثير من ضابية رؤيتها ضعيفة ونورها باهت. ما يلمع ليس بالضرورة ذهباً، وكثير مما يبدو ضخماً ولامعاً قد يكون هشاً وزائلاً. بينما ما هو صادق وعميق قد لا يجد بريق الإعلام، لكنه يرسخ أثره في النفوس عبر الزمن. من هنا تبرز الحاجة إلى وعي يقظ يعيد للعقل استقلاله وللقلب حريته، فلا ينقاد خلف الصور الذهنية المضللة، بل يزنها بميزان البصيرة.

ولعل الموقف الاجتماعي لكريستيانو رونالدو شاخصاً حين تخفى في هيئة رجل عجوز يرافقه كلبه، ولعب بالكرة بمهارات استثنائية لم يلتفت إليها أحد. حتى الأشخاص الذين حاول أن يلاعبهم ويتبادل معهم الكرة لم يتجاوبوا معه كثيراً، بخلاف طفل صغير انجذب إلى اللعبة، فوقع له النجم العالمي على الكرة. بعدها كشف رونالدو عن شخصيته، فلم يتمالك الجمهور الموقف حتى اندفعوا للتجمع حوله في مشهد يستحق التأمل والتفكر. هذا الموقف يدل على أن الصورة الذهنية المرتبطة بالشهرة والمكانة والمال أكثر حضوراً في أذهان الناس من الموهبة أو المشاركة والتفاعل الإنساني. إنها نمطية الصورة والخيال الوهمي في نفوسنا، مما يعني أن الناس مولعون بالبريق الظاهري للشهرة والثراء أكثر من التقدير للمواقف الإنسانية والاجتماعية. تخيلوا كم شخصاً تجمع عندما عرف أن هذا الرجل المجهول الموهوب هو نفسه النجم الذي نكن له كل الاحترام والمحبة في نفوسنا.

وهناك مشاهد ومحطات عديدة تعج بالنمطية وأسر الوهم الذهني الذي نعيشه ونرتضيه منهجاً وطريقاً لحياتنا، وكأن وسائل التواصل الاجتماعي ترسخ في الأذهان قوة النجومية وبريق الشخصيات التي يظهر حضورها، حتى باتت ترى وكأنها الملاذ والحصن الذي يمتطي به المرء جواده ليسير في دروب الحياة.

لسنا ضد الإعجاب ولا ضد الاحتفاء بالمواهب، بل نحتاج إلى الإعجاب الصادق الذي يحرك فينا الطموح ويغذي الإبداع. ويزرع فينا القيم والأفكار الإيجابية التي تسهم في بناء قوتنا وتشيد حاضرنا ومستقبل أبنائنا، لكن الخطر يكمن حين يتحول هذا الإعجاب إلى عبودية فكرية تقيد وعينا وتغلق علينا أبواب النقد ورؤية الطريق السليم الموصل إلى أهدافنا وأحلامنا التي نعيس من أجلها. الطريق إلى التحرر يبدأ من لحظة وعي ندرك فيها أن العقل ليس مسرحاً أو مجالاً للوهم ولا القلب مزرعة للأهواء والضلالات الزائفة، إنهما أمانة ينبغي أن نصونها ونحفظ مكانتها وسر وجودها، وأن نختار ما نغرس فيهما بوعي وحكمة، بعيداً عن التيار الجارف للأوهام الذهنية والفكرية.

بهذا فقط نستعيد استقلالنا الداخلي، ونبني رؤيتنا الخاصة للعالم، ونتحرر من سطوة الصورة النمطية التي صنعناها بأيدينا. فالإنسان الحر هو الذي يرى الحقيقة كما هي، لا كما يرسمها الوهم في مخيلته وعقليته، ويختار قدوته بميزان القيم لا بلمعان الشهرة والمال والمكانة، وبذلك يصبح قادراً على أن يعيش حياة أصيلة تتجاوز حدود الزيف إلى آفاق النور والوعي.

***

بقلم: د. أكرم عثمان

1-9-2025

في المثقف اليوم