قضايا
حيدر شوكان: الذاكرة والسياج: تأملات في العبث المنظم

من بقايا الطفولة البعيدة، أستعيد مشهدًا غائرًا في الطين العائلي، إذ تجتمع الطقوس والمفارقات على مائدة واحدة. كان ذلك في يوم زفاف أحد أبناء عمي، وكنت بعدُ فتىً غضًّا في أولى سنوات المتوسطة، أُساهم مع أترابي في تمزيق الأرغفة ونثرها فوق الصحون، استعدادًا لمأدبة الغداء، وفق العادة المتوارثة في مناسباتنا. كنّا "جنود الظل" الذين لا يُذكرون، نعد الصحون لتُملأ بالتشريب والتمن واللحم، بينما الوجهاء والشباب الأقوياء ينهضون بتوزيع الوليمة، بوصفهم "المعازيب" الذين يحفظون النظام ويرعون الضيافة.
لكن الزحام اشتد وتكاثرت الأجساد، وانبعث القلق والخشية ألّا يكون التوزيع بأتَمَّ حال. وهنا تقدّمت امرأة من أقاربي– تلك المرأة "كبيرة الشأن"، وهي إن تكلّمت، أصغت لها العقول– لتصرخ بعبارة صارت فيما بعد رمزًا لكل ما هو عبثي حين الهلع في قناعتي:
"فوتوا وهدموا السياج!"
كانت تقصد سياج الدار– ذاك الحاجز الذي يفصل الداخل عن الخارج، والذي يشبه حدود الدولة، أو ما تبقّى من الهيبة الرمزية للمكان. صُدمتُ، ليس لأنَّ السياج عزيز، بل لأنَّ الفكرة نفسها مستحيلة ومربكة: كيف لعقل راجح، في مقام عائلي، أنّ يقترح هدم الجدار لتجاوز زحام لن يدوم أكثر من دقائق؟! من الذي سيهدم؟ وماذا سيقول عمي حين يرى داره وقد فُتح جدارها على المجهول من أجل "غداء"؟! هل سيحزن؟ هل سيعذر؟ وهل سيتناول ضيوفه اللقمة على أنقاض الجدار وكأنّ شيئًا لم يكن؟!
في وقتها، بدت لي الحادثة نكتةً أو سوء تقدير لحظي. لكن، بعد أنّ انخرطتُ في مسرح الحياة ومفارقاتها، وأخذت أراقب الإنسان وهو يدير شؤونه، فهمت أنّ هذا الموقف الصغير كان تمثيلًا رمزيًا مكثفًا لما يحدث في مستويات أعلى.
فكم من موقف هدمنا فيه أسيجةً شخصية واجتماعية من أجل دفع احتشاد هنا أو ضغط هناك؟! وكم من سياجات للصداقة والقرابة تهافتت من أجل تخفيف ضيق عابر؟! وكم من علاقات ومبادئ ومؤسساتٍ، تهاوت تحت ضغط لحظة، أو من أجل امتصاص غضب طارئ؟!
لقد أدركت أنَّ هذا الموقف الصغير لم يكن إِلَّا انعكاسًا دقيقًا لمشهد أوسع. كم من السياسات، وكم من المشاريع، وكم من الزعامات، رفعت شعار "هدم السياج" باسم الخدمة أو التطوير أو تسهيل المرور؟!
إنّه منطق المفارقة: أن تُهدم البنى التحتية– المادية والرمزية– باسم الاستعجال، أو الطوارئ، أو الرغبة في الإرضاء. كأننا أمام طبقة من "العمّات السياسية" في كل بلد، تصرخ في وجه الأزمة: "اهدموا السياج!" غير آبهين لما يعنيه ذلك من خرق للحصانة، وتهشيم لأسس المكان والدولة، وإهانة للعقل. وهكذا، تتحوّل الطوارئ من أحداث عابرة إلى مبررات دائمة للعبث، حين نُخضع المبادئ لمنطق الاستثناء.
ليس كل ما يُقترح قابلًا للتطبيق، وليس كل ما يُقال في ساعة احتشاد يمكن أنّ يمرّ دون نقد. فالمفارقة، حين تصبح أسلوب حكم، تتحوّل من طرافة فردية إلى كارثة جماعية.
إنّ في كل سياج نهدمه نعترف ضمنيًا بعجزنا عن التنظيم والتدبير، ونلوذ بالفوضى كحلّ سهل للهروب من التعقيد. لكن الهدم، مهما بدا حاسمًا في ساعته، هو فعلٌ ضد الزمن، ضد الذاكرة، وضد المعنى الذي راكمته الأشياء.
فالبُنى، سواء كانت جدرانًا أو أعرافًا أو مبادئ، لا تنهار دون أنّ تخلّف في الوعي شرخًا يصعب رتقه. والعقل، حين يبرر الانفعال باسم الضرورة، يُسلم زمامه للعبث ويتنازل عن شرطه الإنساني. وهكذا، لا ينهار السياج فقط، بل تنهار معه تلك المسافة الرمزية بين النظام والغرائز الأولى.
***
د. حيدر شوكان سعيد
جامعة بابل/ قسم الفقه وأصوله.