قضايا
حاتم حميد محسن: ماذا لو كنا وحيدين في هذا الكون؟

اذا كانت الانسانية تعيش في كون قاحل، لابد من إيجاد فلسفة لملأ الفراغ. بدءاً من اكتشاف كواكب خارج النظام الشمسي الى الاتساع المطلق للكون، هناك اسباب جيدة للشك في ان الانسانية ليست وحيدة في هذا الكون. لكننا لانزال، لم نجد دليلا على وجود حياة خارج كوكب الارض، وهو ما يثير احتمال اننا ندرة فريدة في كون عقيم، واذا كان ذلك صحيحا، فهو يمثل مشكلة فلسفية وفرصة للانسانية على حد سواء.
فكرة اننا ربما لدينا جيران في الكون سحرت الخيال الانساني لعقود من الزمن. انها ليست فيلما من افلام الخيال العلمي الذي يتأمل بامكانية وجود ذكاء خارج كوكب الارض – الرأي العام يبدو يميل بقوة نحو الاعتقاد باننا لسنا وحيدين. البروفيسور في جامعة كولومبيا ديفد كبنك وجد اننا عند مناقشة علم الفلك واحتمال وجود حياة في مكان آخر في الكون، فان معظم الناس يصرّون على القول، "بالتأكيد نحن لسنا وحيدين". ومنْ يستطيع لومهم؟ مع وجود بلايين المجرات، كل مجرة مليئة بالنجوم والكواكب بحيث يبدو احتمال وجود حياة هنا فقط على هذه النقطة الزرقاء الباهتة ضعيف جدا.
العديد من العلماء والشخصيات الاعلامية يدعمون هذه الفكرة، وهم بذلك حوّلوا المحادثة من "لو" توجد حياة الى "متى" سنجدها و "ماذا" تشبه. في هذا الجو من الاثارة والتأمل، فان احتمال مقابلة كائنات ذكية اخرى يبدو حتميا مالم نعتقد سلفا بوجود كائنات فضائية .
ان "سيناريو الكون المزدحم" وما فيه من طريقة لجذب حدسنا، هو صدى لأبسط وأعمق الافكار الفلسفية. مبدأ اوكام ريزر(القائل ان ابسط التوضيحات هي الافضل لحل المشكلة، خاصة عندما تكون هناك عدة توضيحات ممكنة) يدفعنا للاعتقاد بان فكرة "هناك حياة " هي أسهل توضيح - انها فقط تبدو صحيحة .اما مبدأ الرداءة mediocrity chimes يذكّرنا بان زاويتنا الصغيرة في الوجود هي ليست فريدة من نوعها . وان مبدأ كوبرنيكوس يعطي دفعا للمعرفة، مكتسحا خيال البشرية الاناني القديم فيما يتعلق بالاهمية الكونية. الاعتقاد اننا وحيدين في هذا الفضاء الشاسع لايبدو فقط غير محتمل وانما عفا عليه الزمن، مثل التشبث بخارطة كونية لاتزال الارض فيها هي المركز. نفس هذا التساؤل يلتقطه كارل ساغان carl Sagan في روايته contact، قصة تتخيل اول ملاقاة للانسانية لحياة ذكية وراء الارض. هو يسأل هل "كل تلك البلايين من العوالم سوف تذهب الى ضياع، بلا حياة، عقيمة؟". "كائنات ذكية تنمو فقط في هذه الزاوية الغامضة من كون فسيح عصي على الفهم ؟". الفيلم زاد من حدة المشاعر: "الكون مكان كبير جدا، اذا كان يتعلق بنا فقط، يبدو كانه إهدار رهيب للمكان". لكن هذا الاعتقاد في الجار الكوني ليس فقط حول الحدس – انه تأسس على العلم الذي أشعل فضولا ورهبة معا. مع اكتشاف كواكب خارج النظام الشمسي، تعلّمنا ان مجرتنا تزخر بتنوع هائل حيث هناك بلايين الكواكب تدور حول النجوم في ما يسمى بالمنطقة الصالحة للحياة، حيث الظروف ربما تساعد في وجود ماء . في وقت ما، محيطات الارض بدت متفردة، الان، بحار مخفية على اقمار مثل قمري يورب و انسيلادوس تشير الى ان عوالم مائية قد لا تكون نادرة جدا. اثبتت الحياة على الارض انها مرنه بشكل ملحوظ، تزدهر في فوهات براكين ساخنة، بحيرات حمضية، وحتى اراضي قاحلة مشعة – اشياء تشحذ الخيال حول اين يمكن ان توجد الحياة. كائنات فضائية ربما تتطور بطرق مختلفة جدا، تتشكل بواسطة كيمياء حيوية لا نستطيع تصورها بعد.
وبينما يبدو صمت الكون صاخبا، يجدر التذكير ان البحث لازال في البدء . في ظروف كونية، نحن فقط تعلّمنا الاستماع، حيث ان تكنلوجيا المستقبل تفتح نافذة جديدة كليا على الكون. احصائيا، الاحتمالات لايمكن انكارها: مع ترليونات النجوم، كيف لا يمكن ان تنشأ الحياة في مكان آخر؟ حتى اكتشاف ميكروب متواضع في عالم بعيد سيكون عملا ثوريا، مذكّرا ايانا بان قصة الارض ليست الاّ فصلا واحدا من احتمالات لامتناهية للكون.
مع ذلك، هذه الاسباب المحفزة للاثارة العلمية يجب ان لا تصرف انتباهنا عن الحقيقة الصادمة: هذه لا تزال قفزة ايمان. السؤال حول ما اذا كنا او لم نكن وحيدين في الكون يبقى أحد الالغاز الكبرى للعلم. وكما يشير البروفيسور ديفد كبنك David Kipping ، البيانات ترسم صورة مثيرة للاهتمام متوافقة تماما مع الكون المليء بالحياة وهي متوافقة ايضا مع الكون الذي نقف فيه بمفردنا تحت النجوم. هو يذكّرنا، بان الاصرار على ان هناك حياة، هو بمثابة استبدال الادلة بالتفاؤل. الجواب الاكثر صدقا لهذا اللغز الكوني هو بسيط، وبشعور مليء بالدهشة والخوف: "نحن لا نعرف".
لماذا نكون وحيدين؟ الجواب يبدأ ببدايات غير محتملة للحياة. التولد التلقائي – العملية التي بواسطتها تنبثق شرارة الحياة من اللاحياة – قد يكون من غير المحتمل جدا ان تمثل الارض انتصارا فريدا في كون قاحل. حتى في ظل ظروف مثالية، الحياة لا تنبثق ببساطة، لم تنجح تجربة في استنساخها. ظروف الارض الفريدة – قمر مستقر، صفائح تكتونية، ومزيج كيميائي مضبوط بدقة – تشكل احتمالا واحدا في الترليون. التطور يضيف عنصرا بيانيا آخر: بينما الحياة الميكروبية قد تكون عادية، لكن القفزة الى كائنات ذكية تتطلب سلسلة ساخرة من الحوادث والتي قد تكون كارثية. اذا كان تطورنا بمثابة لعبة يانصيب كوني، فان الكون ربما مليء بالتذاكر الرابحة التي لم تتم المطالبة بها بعد. مع كل ما موجود من ترليونات النجوم والكواكب فان الكون يبقى فارغا تماما من التفكير والحياة الحالمة.
وحتى لو وجدت حضارات اخرى، نحن سنبقى للابد منفصلين بالاتساع الهائل للمكان والزمان. محاولاتنا للاستماع للنجوم لم تُقابل الاّ بالصمت المزعج. الحضارات ربما تصعد وتختفي كشرارة قبل ان تتمكن اشاراتها من عبور الفراغ المجري. المسافات مذهلة – الضوء ذاته ياخذ الاف السنين ليعبر أقرب النجوم – والتكنلوجيا التي نستخدمها للسفر بين النجوم هي خيال اكثر من كونها حقيقة، وما هو اسوأ، ان التسارع في توسع الكون يؤدي الى إبعاد المجرات عن بعضها البعض ليلقي بنا في نوع من العزلة الكونية. وبمعنى اكبر، نحن ربما وحيدين فعلا – انجراف في بحر رائع من النجوم الصماء التي توميء باشارة لن يراها احد ابدا.
وبالرغم من كل بحوثنا وما نقوم به من طرق على ابواب الكون، نحن ربما وحيدين تماما، وفي الوقت الحالي، هذا هو الواقع الذي نعيشه. المستقبلي جون ميشيل غودر John Michael Godier لاحظ ان العزلة الحقيقية في الكون لا يمكن اثباتها ابدا، نحن يمكننا اكتشاف كائنات غريبة ونعرف اننا لسنا وحدنا، لكننا لن نؤكد ابدا اننا كذلك، محاصرون كما نحن داخل فقاعة الكون المرئي المتلألئة. ماذا لو، بعد قرون لم تتمكن تلسكوباتنا من العثور على اي محيطات حيوية غريبة ولا بصمات تقنية، فقط صمت كوني متواصل؟ وكما قال ارثر كلارك، اما نحن وحيدين او غير وحيدين، وكلاهما مرعب. لكي نفهم هذه الوحدة العميقة، ربما تكون الفلسفة هي الوسيلة.
تشرّد في اللامتناهي
في الوهلة الاولى، تبدو فكرة العزلة الكونية بعيدة، مدفونة تحت ضجيج حياتنا المكتظة بالسكان والفوضى. منْ لديه الوقت للتأمل في العزلة الكونية عند التعامل مع المشاكل الارضية؟ مع ذلك، يلوح هذا الصمت في أعماق نفسيتنا الجماعية، ويبقى السؤال "ماذا لو" غامضا ينخر فينا بهدوء. اذا كان الوعي التأملي في كون فارغ فريدا - او نادرا ، فان النتائج ستكون مذهلة، تطبع هويتنا بمزيج من القلق والخوف والاغتراب.
فمن جهة، هذه العزلة تبدو كانها إعجاب كوني . الارض جوهرة تاج الوجود، مكان سحري فيه الكون يتصور ذاته. اذا كنا وحيدين، فان وجودنا يتجاوز الاحتمال، انها معجزة تتحدى الخيال. وكما يذكر عالم الفيزياء الفلكية هاورد سمث في اننا نصبح اهمية كونية نادرة، ثمينة. نحن تفرّد – الاحتمالات المستحيلة تصبح حقيقة.
لكن هذا التفرد الاستثنائي يأتي مع شعور بالوحدة المؤرقة. في كون فسيح جدا ومظلم، نحن سنكون الصوت الوحيد في فراغ أبدي، نغني ليس الى أي مستمع، نتأمل ما اذا كان واقعنا حقيقيا. هذا ليس فقط امر مزعج بل انه مربك جدا، يجبرنا للصراع مع مفارقة في ان نكون شيئا فريدا ونادرا ومتجولين تائهين.
بعض الفلاسفة يتعقبون العزلة الكونية الانسانية الى اللحظة التي جُرّدنا بها وبلا مراسم من العرش بواسطة الثورة الكوبرنيكية. الفيلسوف افي ساغي Avi Sagi يشبّهها بإشعار إخلاء كوني: في يوم ما، كانت الارض موقدا مركزيا مريحا للكون، وبعدها ضعنا في فضاء لامتناهي. مارتن بوبر التقط هذا النزوح الوجودي كـ "كائن مشرد في اللامتناهي". عندما نتجرد من القصة التي يدور فيها الكون حولنا، نجد انفسنا بلا مرساة، منعزلين، ومتقزمين بآفاق لا حدود لها. كما لو جُعل الشيء اكثر سوءا، كل تقدم علمي يعمق فقط إحساسنا بالاغتراب. اكتشاف حجم الكون الهائل، بلايين المجرات والمسافات التي لايمكن تصورها لا تعطي أجوبة، انها اكّدت على الطبيعة غير المحتملة لوعينا التأملي على هذا الكوكب الصخري الصغير. التفكير الشهير لكارل ساغان في (نقطة زرقاء شاحبة) لخص ذلك: الارض، "نقطة وحيدة في محيط هائل لظلام كوني"، تلمع كجمر خافت في بحر من الصمت. انها مفارقة المر والحلو: نحن غبار النجوم، تشكّلنا من نفس العناصر كالمجرات، لكننا نشعر بالنفي منها. الثورة الكوبرنيكية تركت ندبة على النفس البشرية، فصلتنا عن دفء المركزية البشرية القديمة. الان نحن عالقون بين الحنين الى كون يهتم وجمال مخيف بارد .
يشير افي ساجي الى ان الثورة الكوبرنيكية فعلت اكثر من تغيير في فهمنا الكوني، انها نفت الانسانية الى عزلة وجودية كافح معها نيتشه وسارتر وكامو قبل ان نبدأ في إجهاد انفسنا لسماع همسات الكون. بينما معظمنا مطلع على العزلة في كل يوم – سوء الاتصالات، ارتباطات ضحلة، او ألم العزلة – لكن الوجوديين حفروا عميقا، كشفوا عزلة كونية عميقة، انفصال حيك في نسيج الوجود.
إعلان نيتشه عن موت الاله، نظر الى كون منفصل عن الغرض الالهي – افق شاسع غير مقيد انجرفت فيه الانسانية بلا مرساة. بالنسبة له، الفراغ لم يكن فقط فراغا، انه كان تذكيرا مستمرا بان الكون لم يعد بيتنا. فقط الشجاع يمكنه مواجهة هذه اللامبالاة الباردة حين يصنع المعنى من الهاوية. كامو في "الصمت الكبير"، شبّه هذه الوحدة بصرخة كونية جرى ابتلاعها بهدوء قاس لا يلين. في اسطورة سيزيف هو وصف الانسانية كغرباء في كون لايجيب ، حُشروا في هوة مؤلمة بين الحاجة للمعنى ورفض الصمت الكوني. سارتر رأى الكون كامتداد وحشي بلا معنى. هو جادل ان الانسانية حرة وسجينة معا – كائنات معزولة تملأ الوجود بأدوار ومشتات للانتباه، تبقى مع ذلك تائهه. حتى بين آخرين، حذّر سارتر اننا منبوذون وجوديا تقطعت بنا السبل الى الابد.
لكن سارتر، برؤيته الحادة للعلاقات، اعترف انه بدون الآخرين سوف ننهار في عدم محض. الوحدة في جوهرها ليست فقط غياب الناس وانما هي تجويف مؤلم تُرك بسبب فقدان الارتباط الحميم والهادف. الانسانية كساكن وحيد في كون فارغ من الجيران، تشعر بهذا الغياب بحدة. نحن نتعلم منْ نحن من خلال الاخرين، هم يشكّلون مرآة لوجودنا. لو تصورت انت للحظة، كونك الشخص الوحيد على الارض. لا مقارنات، لا حوار، فقط صدى صوتك يتردد بلا نهاية في الصمت. كيف يمكن ان يستمر إحساسك بالذات؟ بالتأكيد الارض مليئة بحياة رائعة لكن الحيوانات والنباتات لا تجيب على نظراتنا التأملية. اكتشاف بكتريا على المريخ ربما يثير العلماء، لكنه لن يريح هذا التوق العميق. العزاء يكمن في العثور على وعي آخر – شيء تشارك، تتحدى، تكشف ألغاز الوجود معه. في أحلامنا الواسعة، ربما حضارة اخرى لديها إجابات لم نتمكن بعد من فهمها. هل يمكنها كشف شيء فاتنا حول معنى الكون؟ او حول أنفسنا؟.
في معظم التاريخ الانساني نحن لم نر أنفسنا وحيدين. نحن ملأنا الكون بآلهة ووحوش وكائنات اسطورية – رفاق لإزالة الفراغ المخيف. حتى اليوم، يرى البعض ان الفراغ اصبح أقل حدة بفعل الثيولوجي، مسكون بالملائكة، الشياطين، او الارواح. الفيلسوف جون ماكجرو John McGraw لاحظ انه عندما يتحمل الانسان عزلة طويلة، هوعادة يستحضر الوجوه والاشكال لتجنّب الوحدة. الخيال العلمي الحديث مع كائناته الفضائية المتخيلة والالات الواعية ربما يخدم نفس الهدف – طريقة لملأ الصمت بشيء يشبه الارتباط.
التجارب الفكرية للخيال العلمي تغوص في هذه الحاجة للآخرين. يجادل بيرشدل Per Schelde ان الكائنات الفضائية والذكاء الصناعي هم أصداء حديثة لكائنات عملاقة او عفاريت قديمة اوالجن والغول. هذه الكائنات ازدهرت في وقت ما عندما كانت هناك غابات غير مروّضة ومناظر طبيعية اسطورية أثارت الدهشة. الان مع الطبيعة المروضة، اصبح الفضاء المساحة البرية الجديدة – مجراته المجهولة مليئة بالوحوش المتخيلة وكائنات اخرى من العالم الآخر. فلسفياً، التعاريف اعتمدت على المقارنة – حضور "الاخر" لتتأمل بنا وتعرّفنا. في ظروفنا الحالية، نظرا للافتقار الى وعي الآخر التأملي العاكس لنا، اصبح الخيال العلمي وسيلة لتجاوز وجهة نظرنا البشرية المركزية.
الكائنات الفضائية والذكاء الصناعي يتحديان حدود الوجود الانساني، يجبراننا لإعادة النظر بمعنى الانسان. وكما يقترح الفيلسوف مارك رولاند،اختلافهم الصارخ عنا يصبح مرآة لنا .عندما نحدق في كائنات فضائية او مكائن، نحن في الحقيقة ننظر الى انفسنا. افلام مثل Blade Runner لا تستكشف فقط روبوتات ونسخ متشابهة – هي تستكشف جوهر الانسانية.
الشوق للآخر ربما يوضح ايضا هوسنا بالذكاء الصناعي. هل سعينا للذكاء الصناعي - قادر على تقليد التفكير الانساني – يكون استجابة لا واعية للاحتمال المخيف باننا وحيدون تماما؟ ربما هذه المخلوقات ليست فقط عجائب تكنلوجية وانما محاولة جماعية للمشاركة بعبء عزلتنا الكونية، لنجد شراكة في كون شاسع وفارغ حتى لو كان علينا ان نبنيها بأنفسنا.
ما الذي يجعل الفراغ قابلا للتحمّل؟
هنا تجربة فكرية لخيال علمي عادية تم طرحها: الانسانية، بعد 500 سنة من البحث، تستنتج ان الكون خالي وبشكل قاطع من الجيران . لا يوجد لقاء مثير مع كائنات فضائية، لا محادثات مجرية كبرى. فقط نحن، وربما القليل من الميكروبات المريخية. ماذا بعد؟ وماذا عن الان،عندما نأخذ بالاعتبار وحدتنا الكونية الحالية؟ كدليل ارشادي، نحن نعود للوجوديين، اولئك الذين تجرأوا على استكشاف الوحدة وصارعوا مع العزلة بطريقة فريدة.
هم يؤكدون ان العزلة ليست عبئا خالصا. انها تنطوي على جمال ساحر وغريب. لو نتعلم ايجاد سلام في هذا الصمت الكوني كما يبدو للوهلة الاولى، يمكن ان يكشف عن معنى عميق في الانتماء – حميمية كونية. الفراغ لايجب ان ينتهي في اغتراب.
كامو رأى هذا في اسطورة سيزيف: عبر احتضان غرابة كل من أنفسنا والكون، نحن نكتشف تقارب غريب. الذهن والكون يصبحان اخوة في اسطورة، يستحمان في نفس الصمت المجهول. حتى سيزيف وهو يدحرج صخرته الى ما لانهاية، وجد طريقة لصنع بيت في التشرد. في كون انسلخ عن اسياده، اصوات الارض اللامعدودة ترتفع لتملأ الهدوء. كل ذرة من صخرة، كل رقاقة من الجبل تصبح هي عالمها الخاص – ثري وغريب وكاف. مواجهة الوحدة الكونية وجها لوجه ربما هي الخيار الاكثر قوةً. اذا كنا حقا وحيدين – لا رفاق من خارج الارض واعين ذاتيا – انه زمن وقف الانتظار واحتضان هذا الكون كما لو كان لنا.
الشوق المستمر لأشكال اخرى للحياة او أمل بالخلاص من عزلة يخاطر بتجنب المسؤولية. هل سيجعل حي مجري صاخب وجودنا اكثر معنى؟
الفيلسوف توماس ناجل يجادل بانه حتى لو مورس دور في مشروع كوني عظيم ربما يفشل في اعطائنا ما نبحث عنه حقا. في النهاية، مع او بدون ألعاب نارية "للاخرين"، نحن البشر العراة نقف في عالم لا يمكن فهمه، ولا أحد يعمل خيارا لنا.
هذا الواقع الصارخ ليس عبئا – انه دعوة لإحتضان الجمال والدهشة حولنا. سواء كانت هناك حياة اخرى موجودة ام لا، الكون هو بيتنا. هذه دعوة لإستعادة الكون – ليس كبيت فقدناه وانما بيت لم نتمكن بعد من السكن فيه بالكامل. نيتشه نظر الى وحدتنا الكونية كفرصة لنقل الارض الى بيت يستحقه الانسان الكامل او السوبرمان. كارل ساغان في كتابه اتصال contact يردد : "انه سلفا هنا. انه داخل كل شيء. انت لا يجب عليك مغادرة كوكبك لتجده". مهمتنا تبدأ باحترام أعظم لفرادة الارض، تواضع أعمق وواجب عطوف لحماية هذا العالم الهش المنقطع النظير.
ان ندرة الحياة وبالأخص وعي التأمل الذاتي- يجعل الارض جوهرة مبهرة في فراغ كوني، تستحق احترام لا مثيل له. هذا الادراك لا يحتاج ان يملأنا بالخوف وانما باحساس عميق بالمسؤولية. اذا كنا حقا وحيدين، نحن لسنا فقط تعبير واحد من بين عدة تعبيرات للحياة، نحن صوتها المتفرد، شاهدها الوحيد. أذهاننا وقلوبنا ستكون وسائل الكون الثمينة، تتصور جماله وأسراره.
وكما يصف ذلك كارل ساغان في روايته (اتصال) : "في كل بحثنا، الشيء الوحيد الذي وجدناه والذي يجعل الفراغ محتملا هو بعضنا البعض". في هذا الترابط، نحن ننقل الفراغ الكوني الى هدف ومعنى وحب.
***
حاتم حميد محسن