قضايا
نوزاد جمال: واقع الفسلفة في اقلیم کوردستان العراق

ماضي مشرق لکن غیر مٶرخ
مقدمة: رغم انني هنا، لست بصدد کتابة 'تأریخ الفلسفة في الفکر والثقافة الکردية' بشکل عام، لکن لابأس اذا عرضت مقدمة وجیزة عن الفلسفة في ربوع کردستان. لعبت الفلسفة الإسلامية بجذورها الیونانیة والایرانیة دورا هاما في كردستان وفي الثقافة الكردية، حيث ظهر العديد من المفكرين والعلماء الذين ساهموا في تطور الفلسفة الإسلامية.
فکان للکرد المشارکة الفعلیة في المسیرة الحضاریة. اذ لعب الكرد دور بارز في المسائل العلمیة، سواء کان العلوم النقلیة أو العقلیة کالفلسفة أو العرفانیة.
فهذه هبة لا تنکر في التأریخ الکردي فحسب، بل في تأریخ "الحضارة الشرقیة-الأسلامیة" أیضا. فما یعرف العلماء والمتنورین الکورد هو المشارکة الفعالة في العصور الذهبیة للتطور الفکري ومسيىرة الترجمة للنصوص وتناول افکار فلسفیة داخل الحضارة الأسلامیة.
حسب ما یراه المٶرخون والدارسون، عندما حضرت الفلسفة وعلم الکلام ابان العصور الوسطی للخلافة الأسلامیة، آوت مناطق کردستان الفلسفة واحتضنت علماء الکلام1. اذ وافد من کافة ارجاء العالم الأسلامي طلاب العلم سواء لتحصیل العلوم النقلیة کانت ام النظریة والعقلیة.
فهذه حقیقة تأریخیة لاتنکر. لکن رغم ذلك لم تتبلور عنها ارضیة فلسفیة مستقلة ومتواصلة. ولم تکن البیئة الثقافیة في وقتها حاضنة جیدة للنشاط الفلسفي البحت، لأن کوردستان، کغیرها من البلاد، (وضعت فارزتين) تأثرت بالعوامل السیاسیة والأنغلاق الثقافي والدیني.
مع ذلك، فالنواة الفلسفیة کانت موجودة فیها لقرون، لکنها بقت خامدة، متبعثرة وغیر منظمة. لكن، بلا شك، ظهرت بین حین وآخر محاولات ملفة للنظر علی ایدي علماء کرد، الا انها تمركزت في مناطق شبه نائية ومنعزلة عن بعضها. لذا ساورد في الصفحات التالیة تفسیر للعوامل والمعوقات الذاتیة والموضوعة التي ادت الی عرقلة السیر الفلسفي في کوردستان.
I- الفلسفة بین الوجود والتواجد
عندما نتحدث عن الفلسفة في کوردستان، غالبا نلاقي اشکالیة نظریة: این الفلاسفة ونتاجاتهم الفلسفیة؟ هل هناك نصوص کي نٶرخ به تأریخ الفلسفة في کوردستان؟ این المدارس الکلامیة والفلسفیة ومن هم روادها؟
رغم ان هذه الأسئلة تبدو في الوهلة الأولی منطقیة وجازمة، لکنها تفتقر الی التمعن والتفحص. فالفلسفة في اشکالها مرست في المدارس العلمیة في کوردستان، ضمن نشاطات ومواد أخری للتدریس. بتعبیر آخر،) لا ینکر وجود الفلسفة، لکن طریقة تواجدها وتداولها بین الدارسین من خلال الکتب وکنشاطات ثقافیة شیء آخر.
اذن، کان للفلسفة وجود في المدارس العلمیة ونوقشت ودرست لدی علماء ومدرسین بشکل مستمر. فهذا الشق الأول للحقیقة. اما الشق الثاني للمسألة، عندما یلح باحث وسائل: لماذا لا نجد اي نص فلسفي ونتاج فکري لأحد العلماء؟
لا نسرع في الإجابة إذا قلنا، یمکن اثبات هذا فقط، عندما نبحث في المخطوطات المتبعثرة هنا وهناك التي تضم نصوص للکرد. إذن، فالجواب نتیجة البحث في المکتبات واماکن أخری.
II- عدم وجود الشيء، یعني ضرورة ایجاده
هل هناك حاجة ام ضرورة الی الفلسفة عندنا مثلا في اقلیم کردستان؟ یبدو السٶال في الظاهر، منطقیا. ولکن فلسفیا، لا یعتبر سؤالا فلسفیا بحتا بالدرجة الاولی.
کما ان طرح مثل هذا السٶال، یبدو عند عرضه ان السائل والمخاطب والمتسائل لدیه خیار ان یختار ما بین الضرورة ام ردها. علاوة علی ذلك، ان هذا السٶال موجه (بکسر الجیم) وان الجواب حاضر مقدما.
لذا، الطرح جدلي وافتراضي اکثر من كونه واقعیا. أي مراوغة کلامیة في شکل سٶال لا غیر. ربما نستند للقاعدة المنطقیة التي تٶکد "بأن عدم حضور الشيء، یعني ضرورة ایجاده کما أن حضور/تواجد الشیء یلغي ضرورة ایجاده."
III- الفلسفة حلت نفسها في اللغة
هناك تحدیات تواجه الفلسفة حتی في الغرب والفکر الاوروبي، علی الرغم من ذلك فان الفلسفة حلت نفسها في اللغة والتفکیر السائد. وهو دلیل علی عدم نهایتها، إنما حلولها الکلي في الفکر والثقافة. لأن الفکر الاوروبي، مطبوع بمباديء فلسفیة اولیة في اشکال مختلفة للتفکیر واصبحت جزأ لایتجزأ من النظام الفکري والسیاسي والثقافي وغیره.
لذا وبهذا المعنی، حلت الفلسفة نفسها في الحیاة الثقافیة کلیا. وهذا الاستنتاج لیس بغریب، بل یثبت مصداقیة مقولة هیغل "ان الفکر یصبح واقعا والواقع فکرا". فمن هذا المنظور، لیس هناك حاجة لإیجاد الفسلفة وادعاء ضرورتها.
فالضرورة تأتي عند عدم حضور الشیيء في الواقع، ولکن اذا طبق نفس القاعدة علی الفلسفة، فان وجود الفسلفة لابد منه في الواقع الفکري الحیاتي. لان خلوها توجب ایجادها مرة اخری. کما ان الفلسفة تأخذ أشکالا أخری في ایجاد العلوم والمناسبات الأخری. انها کالجسم الکبیر الذي یتفرع الی أجزاء اخری. التفلسف تسبق العلوم، لکونها ام العلوم وبسطت أسئلة أساسیة وابستمولوجیة في حقل المعرفة والعلم.
IV- التحدیات التي تواجه الفلسفة في اقلیم کوردستان العراق
علی الرغم من أن القاطنين في الاقلیم تمتعوا بنوع من الحریة في غضون ثلاثة عقود من الزمن، إلا هناك عدة اتجاهات دینیة وعقائدیة متزمتة ومجموعات محافظة بسطت نفوذها علی الفضاء الإجتماعي والاعلامي وتخللت في المؤسسات الحکومیة أیضا. وذلك من خلال تهمیش وتشویه الفکر الحر والفلسفة علی السواء. کما أن السلطات تواطئت مع القاعدة الشعبیة لهذه الاتجاهات ووظفتها کحصان طراودة لکبت الرأي المخالف والتفکیر الحر.
لذا، تواجه الفلسفة في الاقلیم تحديات کنقص الموارد البشریة والبنیة التحتیة للتعلیم وضعف الدراسات الأكاديمية المتخصصة. وتواجه أیضا تحديات سياسیة حیث لم یتم قبول الفلسفة کمادة فکریة وانسانیة لها آثار سیاسیة واجتماعیة.
إضافة الی هذه العوامل الموضوعیة، هناك عوامل ذاتية التي ادی الی ارباك الفکر والفهم الفلسفي:
- عرض وتقدیم الفلسفة كموضوع صعب ومعقد مخبأ في بطون الكتب السمیكة الذي لا يفهمها الا الأساتذة الماهرون.
- لقد سيطرت نظرة قمعية على تفكير الأفراد العاديين ذوي الأفكار والمعتقدات الجاهزة التي لا تسمح بالتفكير السليم والاجتهاد الذاتي. وبطبيعة الحال، في وقت من الأوقات، حلت المعتقدات الدينية محل التفكير الحر والمستقل وعودت الناس علی "الكسل الفكري" من خلال إعطائهم وصفة بسيطة: "الإيمان يساوي الخلاص".
- کما إن التكنولوجيا المتقدمة اليوم، المدعومة بعلم آلي موحد وسوق سلع عالمي، قد أدت إلى تقليص الفكر إلى الاستهلاك بدلاً من الانفتاح. لقد حل الطلب على اقتناء السلع محل الأسئلة الخطيرة.
- الخلاف بين المنشغلین بالفلسفة في الاقلیم وعدم اجماعهم على مشروع فلسفي بحت. وللأسف لم يتمكن قسم الفلسفة في جامعة صلاح الدين اربیل، وجامعة رابرین- رانیە والسلیمانیة من التقريب بين الفلاسفة والخبراء والتقوقع في التعلیم الجامعي.
- بالإضافة إلى عدم وجود مجلس أو جمعية فلسفية قادرة على تنظيم المؤتمرات المحلية والدولية.
- عدم وجود صوت أكاديمي محدد للفلسفة في مطبوعة مستقلة يمكن أن تخلق "مكانة" مناسبة للفلسفة في وسائل الإعلام وتنقذ الفلسفة من فخ الجدل.
- وضع سياسي أعمى ووضع ثقافي غير موات جعل الحديث عن الفلسفة في المجال الفكري الكردي مهمة ثانوية.
- إن وضع الفلسفة في الجامعات يتعرض للرفض والتهمیش والی غلق اقسام الفلسفة بشكل مستمر. السبب الرئيسي هو عدم فهم دور الفلسفة باسم الفكر العلمي.
- عدم وجود نظرة ونقاط مشترکة بین الدارسین والمنشغلین بالفلسفة؛ نظرا أن أغلبیة الذین درسوا الفلسفة من الرعیل الاول والثاني، کونهم تخرجوا خارج البلد وتأثروا بالبیئة الفلسفیة الحاضني لها ومدارسها وفلاسفتها. فکل یری ما درسە هو الصواب.
- عدم تدريس الفلسفة في المؤسسات التربوية الا في المرحلة الأدبية وتدرس في نصف المنهج وغالبا تدرس من قبل غیر اخصائین، وأیضا في الاقسام العلمیة والانسانیة في الجامعات.
- عدم تهيء الجو السیاسي والدیني لتلقي الفلسفة ومحاولة إقصائها بذرائع سیاسیة ودینیة کمحرمات فکریة.
- ضعف انخراط أقسام الفلسفة في التكوين الفکري والثقافي العام.
- صعوبة الحصول علی فرصة عمل بعد التخرج من اقسام الفلسفة.
فالمطلوب إذن، هو:
- إعادة الإعتبار لتدریس مادة الفلسفة والتفکیر النقدي في المنظومة التربوية بکافة مراحلها عموما. وهذا مناط بوزارتي التربية والتعليم العالي والبحث العلمي.
- تغیر المناهج الدراسیة التي تدعو الی التفتح الفکري والثقافي. لأن الدور البيداغوجي للفلسفة في نشر حرية التفكير، التسامح، التعایش والتعددیة ونبذ الجمود الفکري والتطرف العقائدي. فالفلسفة، بمثابة ردع فکري ومقاومة عقلیة تجاه تفشي الارهاب والتطرف.
- تخصیص خریجی الفلسفة لتدریس مادة الفلسفة.
علی الرغم من التحديات السياسية والأجتماعية التي تواجه الفلسفة والمنشغلین بها بعد عقدین من تأسیس اقسام الفلسفة في الجامعات، إلا أن هناك إرهاصات لتطورها. لکن لابد من توفر المتطلبات الأساسیسة لنموها، کزيادة الوعي الثقافي والنقدي، انتشار في الفلسفة من خلال التعليم والإعلام. کما أنها تحتاج إلى دعم مٶسساتي من الأكاديميا وضمان الحریة الفكرية والإنفتاح.
***
د. نوزاد جمال
......................
د. عماد عبد السلام رٶوف. مراکز ثقافیة مغمورة في کردستان. ص١٥-١٦. موکریان للطباعة والنشر. ٢٠٠٨. ایضا في کتاب آخر لنفس المٶلف: ابراهیم الشهرزوري الکوراني. حیاته وآثاره. ص ٦-١٤. سلسة اصدارات الجمعیة الثقافیة لکردستان رقم(٤) اربیل ٢٠١٠