قضايا
فضل فقيه: هل تُعيدنا الفيزياء إلى العقلانية؟

الفيزياء وحدود العلم التجريبي
عبر التاريخ، طوّر البشر سُبلًا متعددة لجمع المعرفة، مدفوعين بفضول فطري. تطورت هذه السُبل من التفكير المنطقي في الأكاديميات اليونانية، إلى مشاريع علمية ضخمة تعادل اقتصادات دول، كمشاريع الفضاء وأبحاث الفيزياء الجزيئية. في هذا المقال، أحاول تسليط الضوء على تطوّر مناهج المعرفة تاريخيًا، وكيف يمكن للفيزياء والعلم الحديث أن يعيداننا، بعد مضي قرابة أربعة قرون، إلى نقطة البداية: التساؤل الفلسفي والعقلانية.
مسار تطور طرق جمع المعرفة
اعتمد الفلاسفة الأوائل على العقلانية الفلسفية للوصول إلى فهمٍ لطبيعة الوجود. انتهجوا منهجًا استنتاجيًا قائمًا على التحليل المنطقي، مؤمنين بأن المعرفة يمكن استنباطها من مبادئ عقلية أولية. استمر هذا التصور لفترة طويلة، بدءًا من الفلاسفة اليونانيين كأرسطو، وصولًا إلى ديكارت وسبينوزا، اللذين رسّخا مفهوم أن التفكير المنطقي وحده كفيل باكتشاف الحقيقة.
أما التحول إلى المنهج التجريبي، فقد بدأت ملامحه بالظهور لدى العلماء المسلمين في العصر الذهبي، أمثال ابن الهيثم، والبيروني، وابن سينا. رأى ابن الهيثم، في كتابه المناظر، أن المعرفة لا تكتمل دون التجربة والتحليل. إلا أن هذا الإسهام كثيرًا ما يُهمَّش في السردية الغربية، التي تبدأ عادةً من أمثال غاليليو ونيوتن بوصفهم المؤسِّسين للعلم التجريبي الحديث.
لقد أثبتت العلوم التجريبية قدرتها الفائقة على تفسير الظواهر الطبيعية، بل وحتى الظواهر السلوكية والإنسانية. ويُعزى هذا النجاح إلى عوامل متعددة، من أبرزها تطوّر فلسفة العلم التي رسمت حدودًا واضحة لما يمكن اعتباره علمًا. هذه الحدود، التي بلورها فلاسفة كبيكون، وبوبر، وتوماس كيون، جعلت من العلم التجريبي مجالًا مفتوحًا على التصحيح والاختبار المستمر.
بين العقلانية والعلم التجريبي: اختلاف في المنهج والرهان
العقلانية، كما تُفهم في السياق الفلسفي، هي المذهب الذي يرى أن العقل هو المصدر الأهم، بل الكافي، للمعرفة. وقد أسست لمنهج استنتاجي يرى أن التفكير المنطقي وحده قادر على بناء معرفة يقينية. غير أن هذا المنهج، رغم ما وفره من أدوات تحليلية، بقي في معظمه معلقًا في فضاء التأمل، غير قادر على اختبار صدقية نتائجه في العالم الواقعي.
في المقابل، جاء العلم التجريبي ليبني معرفته على التجربة القابلة للرصد والاختبار، واضعًا الواقع في مركز العملية المعرفية. لم يلغِ دور العقل، بل أعاد ترتيب العلاقة بينه وبين الواقع؛ فبات العقل خادمًا للواقع، لا حاكمًا عليه. وقد ساعد هذا التواضع المعرفي في جعل العلم التجريبي أكثر قدرة على التقدّم والتصحيح والتطوير.
ميكانيكا الكم كحالة غير مسبوقة
رغم النجاح الهائل الذي حققته العلوم التجريبية، فإن القرن العشرين شهد أزمة معرفية قلبت مفاهيم الفيزياء الكلاسيكية. جاءت ميكانيكا الكم، لا لتكمل مشروع الفيزياء، بل لتعيد التفكير في أسسه. ففي المستوى دون الذري، لم تعد التجربة وحدها كافية للوصول إلى نتائج يقينية. فمجرد القياس ذاته يؤثر على النظام المدروس، ويغيّر من سلوكه.
تُقدّم ميكانيكا الكم تصورًا للعالم يختلف تمامًا عن التصورات الكلاسيكية؛ فالجسيمات لا تكون في موقع محدد، بل توصف عبر دالة موجية تمثل احتمالات وجودها في أماكن متعددة. قبل القياس، يكون الجسيم في حالة تراكب، أي في عدة حالات محتملة في آن واحد. وعند القياس، تختفي هذه الحالة لتظهر نتيجة واحدة فقط، كما لو أن الجسيم "اختار" موقعًا معينًا.
تتعدد التفسيرات الفلسفية لهذه الظواهر؛ فهناك من يرى أن الدالة الموجية تمثل واقعًا فيزيائيًا حقيقيًا (تفسير أنطولوجي)، وهناك من يعتبرها مجرد أداة تعكس معرفتنا (تفسير إبستمولوجي). وكلا التفسيرين منسجمان مع النتائج التجريبية، لكن الاختلاف بينهما يبقى فلسفيًا في جوهره.
هكذا، نجد أن الفيزياء المعاصرة، وعلى رأسها ميكانيكا الكم، دفعت العقل مرة أخرى إلى الواجهة، لا كبديل عن التجربة، بل كأداة لتأويل نتائج لا تكفي التجربة وحدها لفهمها. وأمام هذا التعقيد، لجأ بعض الفيزيائيين إلى فرضيات يصعب إخضاعها للتجريب، كفكرة الأكوان المتعددة.
في الختام: نحو عقلانية جديدة
في نهاية المطاف، يبدو أن مسار العلوم التجريبية، بكل ما فيه من دقة وصرامة، يعيدنا إلى سؤال فلسفي قديم: ما حدود معرفتنا؟ بل يعيدنا تحديدًا إلى العقلانية، ولكن ليس بصيغتها الكلاسيكية التي تفصل العقل عن التجربة، بل إلى عقلانية جديدة، تأخذ في اعتبارها التداخل المعقّد بين الملاحظة والتأويل، بين التجريب والتفكير النظري.
نحن اليوم لا نملك إجابات حاسمة، بل احتمالات وتفسيرات يظل كثير منها مفتوحًا للتأويل. لم يعد العقل سيدًا مطلقًا، بل شريكًا متواضعًا في مشروع لفهم الكون، مشروع يحتاج إلى تعاون دقيق بين المناهج المختلفة للمعرفة، دون أن يدّعي أيٌّ منها احتكار الحقيقة.
***
فضل فقيه – باحث
.....................
قراءات اضافية:
-Heisenberg W. Physics and Philosophy: The Revolution in Modern Science. London: George Allen & Unwin; 1958.
-Kova A. The weirdness of quantum mechanics forces scientists to confront philosophy. Big Think. Published February 8, 2023.