قضايا
إبراهيم برسي: اختزال اللغة في المقدس.. هل القرآن قيد أم فضاء لإعادة التشكيل؟

في البدء كان الصوت. لم تكن الحروف قد استوت على العظام بعد، ولم يكن للمعنى جسد يُحمَل إليه أو يُنقَل عنه. لم تكن اللغة سوى وشوشة على حواف الفراغ، رعشة أولى في شفة البدء، صدى هشٌّ يتكئ على الريح قبل أن يتثاقل في الحنجرة. ثم كان الإنسان، فاحتاج إلى أن يُشار إليه، أن يُعرَّف، أن يُحدَّد في السرديات الأولى التي ستكتب قدره، لا بصفته كائنًا بيولوجيًا، بل بوصفه الكائن الذي تكبّله اللغة حتى حين يظن أنه يستخدمها. فمنذ أن رفع آدم يده متسائلًا عن الأسماء، كان قد دخل في قبضة الطاغية الأعظم: اللغة.
لكن، هل اللغة محض أداة، أم أنها الأفق الذي تتشكّل داخله الهيمنة، حيث تُعاد صياغة الوجود من خلال بنى دلالية تحكمنا بقبضتها الناعمة؟ هنا، عند هذه النقطة المفصلية، يظهر الاختزال بوصفه الخطيئة الكبرى التي يرتكبها كل من يحاول أن يفهم اللغة من دون أن يدرك وطأة حضورها الشامل. فالقول بأن اللغة محض وسيلة للتخاطب، أو أنها مجرد قناة لنقل الأفكار، هو سقوط في فخ الحداثة الكلاسيكية التي حلمت بوجود شفافية بين العلامة والمرجعية، بين الاسم والمسمّى، بينما الواقع يكشف وجيف الخطى التي تتعثّر عند كل محاولة للفصل بين الدال والمدلول.
لم تكن اللغة يومًا شفافة، بل كانت تاريخيًا ساحة صراع، معركة بين الذين يكتبون السرديات والذين يُكتَبون بواسطتها، بين الذين يفرضون معناها والذين يُسحقون تحت وطأة هذا المعنى. لم يكن أفلاطون مخطئًا حين طرد الشعراء من جمهوريته، فقد أدرك أن اللغة ليست مجرد وسيط محايد، بل هي الفضاء الذي يُعاد فيه إنتاج السلطة، حيث الكلمات ليست بريئة، بل محمّلة دائمًا بعبء التاريخ وصراعاته.
هكذا، حين يُقال إن العربية “لغة القرآن”، يصبح السؤال ملغومًا، إذ أن في هذا القول شبهة التغوّل على اللغة، قسرها داخل سردية واحدة من سرديات الهيمنة. فالقرآن لم يخلق العربية، بل وجدها، تفاعل معها، زحزح بنيتها، ثم أعاد تدويرها داخل سياق جديد. لكنه لم يكن النص الوحيد الذي صنع العربية، كما أنه لم يكن القيد الأخير الذي حاصرها.
قبل القرآن، كانت العربية لهجات تتنازعها القبائل، وكانت بعض تلك اللهجات أقرب إلى الاندثار لولا أن النظام الاجتماعي فرض لها أسباب البقاء. كانت قريش تحتكر التجارة واللغة معًا، تفرض لهجتها بوصفها النموذج القياسي، لا لأنها الأفضل بالضرورة، بل لأنها كانت لسان المركز، بينما بقيت الأطراف مهددة بالنسيان.
وبعد القرآن، ظلت العربية تتنازعها القوى التي أرادت أن تجعلها لسان السيادة، سواء كانت سيادة الفقهاء أو سيادة السلاطين. فمنذ أن قرر عبد الملك بن مروان أن يُعرب الدواوين، كانت اللغة قد تحولت من فضاء تعبيري إلى أداة للحكم، إلى سلاح يُقنّن الهيمنة باسم البلاغة. لم يكن ذلك قرارًا بريئًا، بل كان فعلًا سياسيًا بامتياز، إذ لم يكن الهدف مجرد تبسيط الإدارة، بل تكريس سلطة الدولة عبر فرض لغة موحدة، لغة تُقصي التعدد وتؤسس لهيمنة المركز على الأطراف.
لكن الطاغية لا يملك وجهًا واحدًا، ولا تتجسد السرديات في صورة واحدة. ففي العصر العباسي، حين بلغت العربية ذروتها، كان الفقيه والمنطقي والمعتزلي كلٌّ منهم يحاول أن يخلق نسخة مختلفة من اللغة، وكان كل تيار يحاول أن يفرض تعريفًا لماهية “العربية الصحيحة”، بينما كانت الهشاشة تتسرّب من بين أصابع الجميع.
في بغداد، حيث التقى سيبويه بالكندي، كان الصراع حول اللغة أكثر من مجرد صراع نحوي، كان معركة حول طبيعة الحقيقة ذاتها: هل المعنى يوجد في الكلمات، أم أن الكلمات مجرد قشرة، بينما المعنى ينكشف خارج اللغة، في تجربة صوفية أو في معادلة رياضية؟ هل “الكلمة” مقدسة بذاتها، أم أنها مجرد علامة عابرة تكتسب قدسيتها من الاستخدام؟
لكن العربية لم تتوقف عند حدود الصراع القديم، بل وجدت نفسها تُساق إلى معارك جديدة حين جاءت الحداثة بسردياتها الطاغية. فقد كانت الكولونيالية الأوروبية ترى العربية كلغة ميتة، جامدة، غير قادرة على احتواء مفاهيم الدولة الحديثة. كان هذا الطرح امتدادًا لرؤية ديكارتية ترى أن التفكير لا يكون إلا في لغة عقلانية مرتبة، بينما العربية، ببلاغتها وانزياحاتها، كانت عصية على هذه الرؤية.
لم يكن الأمر مجرد خطاب أكاديمي، بل كان له تجليات سياسية، حيث سعت سلطات الاستعمار إلى استبدال العربية بالفرنسية أو الإنجليزية في أنظمة التعليم والإدارة، محاولةً قطع الصلة بين اللغة والهوية. لكن الردّ لم يأتِ من الفلاسفة وحدهم، بل من الشوارع، من الذين صنعوا الثورات وهم يهتفون بالعربية، لا لأنها لغة مقدسة، بل لأنها اللغة التي استطاعت أن تحتضن غضبهم.
غير أن الطاغية لا يُهزَم بسهولة. فكما حاول الاستعمار أن يقتل العربية، حاولت المؤسسات الدينية أن تُحنّطها، أن تجعلها جسدًا لا يتنفس إلا داخل النصوص القديمة، أن تفرغها من هشاشتها الحية وتعيد إنتاجها كأداة طيّعة لخدمة السلطان، أكان سلطان الفقه أو سلطان النفط أو سلطان الأيديولوجيا.
في هذه اللعبة، كل طرف يحاول أن يُعيد تعريف العربية وفقًا لغاياته، بينما اللغة تستمر في التملّص، في التسرّب من بين الأصابع، في التشظي إلى لهجات وأصوات وهويات تتجاوز أي محاولة لاختزالها في كتاب واحد، مهما بلغت قدسيته. لم يكن ذلك قاصرًا على السياق العربي وحده، فقد رأينا كيف حاولت الكنيسة الكاثوليكية احتكار اللاتينية قبل أن تتشظى تلك اللغة إلى الفرنسية والإيطالية والإسبانية، وكيف سعى الحكام العثمانيون إلى فرض التركية العثمانية قبل أن يتم تفكيكها إلى نسخ قومية متعددة.
إذن، هل يمكن أن نقول إن اللغة أداة تواصل فحسب؟ أم أنها القيد والسلاح، الجرح والشفاء، الحكاية التي نكتبها والهاوية التي نُلقى فيها؟ هل يمكن للغة أن تُختزل في كتاب، مهما كان مقدسًا، أم أنها تتجاوز كل النصوص وتتشكل باستمرار وفقًا لرهانات السلطة والمقاومة؟
إن العربية، كما غيرها من اللغات، ليست مجرد وعاء للمعاني، بل هي نفسها معركة، فضاء للصراع، حيث تتقاطع الهيمنة مع المقاومة، وحيث تُعاد صياغة الإنسان نفسه عبر الكلمات التي يختارها، أو التي تُفرض عليه دون أن يدري. في النهاية، ليست اللغة مجرد صوت يُنطق، بل تاريخٌ يُكتب، وقيدٌ يُكسر، وهاويةٌ تتربص بكل من يظن أنه يستطيع أن يمتلكها إلى الأبد.
***
إبراهيم برسي – باحث سوداني