قضايا
عبد الله الفيفي: التداوليَّة الأسلوبيَّة في صدر الإسلام

(نموذج من المخاطبات الشفاهيَّة والكتابيَّة)
إذا كان قد ظهرَ بعد (الشَّريف الرَّضِي، ـ406هـ) مَن ألَّفَ نصوصًا على غِرار نصوص «نَهْج البلاغة» المنسوبة إلى (عَليِّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، ـ40هـ)، تأثُّرًا وإعجابًا(1)، فإنَّه من المعروف أنَّ المحاكاة في الثقافات الشِّفاهيَّة- وتظلُّ الخطابةُ نتاجًا شفويًّا حتى في الثقافات الكتابيَّة- تكون أشدَّ شيوعًا بين الناس. ومن هنا فلا بُدَّ أنه كان لمدرسة عَليٍّ في الخطابة مُعجبون كُثْر، ومُقلِّدون توارثوا خُطَبَه ومحاولات تقليدها عبر العصور. فاختلطَ هذا بذاك، والتبسَ المقلَّد بالمقلِّد، حتى أصبح ذلك التُّراث كلُّه أو جلُّه يُعْزَى إلى عَليٍّ، كما يحدث عادةً مع أولئك المشاهير الذين يطغى صيتهم على سِواهم، فيُنسَب إليهم كثير ممَّا شابهَ إحسانَهم. وإذا كُنا قد رأينا، في المساق الماضي، كيف وقع الالتباس في «نَهْج البلاغة» بين كلام (الرسول، صلى الله عليه وسلَّم)، وكلام عَليٍّ، وبين كلام بعض الصحابة وكلام عَليٍّ، بل بين كلام أبناء عَليٍّ وأتباعه وبين كلامه- بالرغم من أنَّ بعض ذلك كان مدوَّنًا مثبتًا لقائليه قبل تأليف «نَهْج البلاغة»- فإنَّ غير المدوَّن ولا المُثْبَت ولا المشهور أَولَى بأن يلتبس، وأن يُضاف إلى المؤثِّر الأوَّل، أستاذ تلك المدرسة، ابن أبي طالب. ومع هذا، فإنَّ المقلِّد مهما كان بارعًا في تقليده، حريصًا على محاكاة نموذجه، لا يستطيع أن يكون مطابقًا للأصل الذي قلَّده، بحالٍ من الأحوال. وهذا قد يفسِّر لنا ما ظهرَ من تفاوتٍ بين كلامٍ وكلام، وبين أسلوبٍ وأسلوب، بل أحيانًا بين مضمونٍ وآخَر، ممَّا سُلِك في عِقدٍ واحدٍ سُمِّي «نَهْج البلاغة»؛ من حيث إنَّ القائلين كُثْر، والكَتَبة متعدِّدون، والأعصُر متفرِّقة، والأمزجة مختلفة.
كذا استأنفَ بنا (ذو القُروح) نقاشه. قلتُ:
ـ كثيرًا ما قَعْقَعْتَ علينا باختلاف أساليب الناس في صدر الإسلام عن أسلوب «نَهْج البلاغة»، الذي تراه أسلوبًا عبَّاسيًّا، يرجع إلى القرن الرابع للهجرة. فهلَّا- بعد هذا الهِياط(2)- ضربتَ لنا مثالًا على أساليب صدر الإسلام.
ـ بعد هذا الهِياط، ستجد الأمثلة كثيرة. وقد سبق أن ضربتُ لك الأمثلة، من خُطب (أبي بكر الصِّدِّيق، رضي الله عنه)، بل من خُطب (عَليٍّ) نفسه، وخُطَب بعض ولده. لكنِّي سآتيك بنموذجٍ شاهد، يجمع لك بين المكتوب والمنطوق. فلعلَّك تزعم أنَّ الاستشهاد بالمنطوق على المنطوق لا شاهد فيه؛ لأنهما متساويان في ظنِّيَّة الثُّبوت، غير أنَّ المكتوب أوثق. وسآتيك بهذا الشاهد برواية أحد شارحي «نَهْج البلاغة» العَلَوِيِّين، ومع ذلك فإنه، كغيره، لا يتنبَّه إلى ما سمَّاه (الذَّهَبي) بـ«نَفَس الصحابة» وجِيلهم واختلافه عن نَفَس الأجيال اللَّاحقة، ولا سيما في العصر العبَّاسي، الذي جاء «نَهْج البلاغة» على منواله. فانظر، مثلًا، إلى هذه المراسلات بين (عُمَر بن الخطَّاب) و(عمرو بن العاص)، مع بعض المخاطبات الشَّفويَّة أثناء ذلك، لتستشفَّ: كيف كان الناس يعبِّرون، ويصوغون جُملهم التداوليَّة في ذلك الزمن، مشافهةً ومكاتبة؟ ومن ثَمَّ لعلَّك تُقارن هذا بذلك الذي نسبه (الشَّريف الرَّضِي) إلى الأمام عَليٍّ، لتلحظ الفرق الشاسع. ويتعلَّق شاهدنا بمكافحة الفساد، الذي لا سبيل إلى اجتثاثه إلَّا بعزيمةٍ كعزيمة ابن الخطَّاب. ففي هذا الشأن، روى (ابن أبي الحديد، ـ656هـ)(3)- شارح «نَهْج البلاغة»- عن (الزُّبير بن بكَّار، ـ256هـ)، ما يأتي:
«لمَّا قلَّد (عُمَرُ) (عمرو بن العاص) (مِصْر)، بلغَه أنَّه قد صار له مالٌ عظيمٌ، من ناطقٍ وصامت! فكتبَ إليه:
«أمَّا بعد، فقد ظهرَ لي مِن مالِكَ ما لم يكن في رزقك، ولا كان لك مالٌ قبل أن أستعملك! فأنَّى لكَ هذا؟! فوالله، لو لم يهمَّني في ذات اللهِ إلَّا مَن اختانَ في مال الله، لكثُر هَمِّي، وانتثرَ أمري! ولقد كان عندي من المهاجرين الأوَّلين مَن هو خيرٌ منك، ولكنِّي قلَّدتك رجاءَ غنائك. فاكتب إليَّ: مِن أين لك هذا المال.. وعَجِّل!»
فكتب إليه (عمرو):
«أمَّا بعد، فقد فهمتُ كتابَ أمير المؤمنين. فأمَّا ما ظهر لي من مال، فإنَّا قَدِمنا بلادًا رخيصة الأسعار، كثيرة الغَزْو، فجعلنا ما أصابنا في الفضول التي اتَّصل بأمير المؤمنين نبؤها. ووالله، لو كانت خيانتُك حَلالًا ما خُنتُك، وقد ائتمنتني! فإنَّ لنا أحسابًا، إذا رجعنا إليها أغنتْنا عن خيانتك! وذكرتَ أنَّ عندك من المهاجرين الأوَّلين مَن هو خيرٌ منِّي. فإذا كان ذاك، فوالله، ما دَقَقْتُ لك، يا أمير المؤمنين، بابًا، ولا فتحتُ لك قُفلًا!»
فكتب إليه (عُمَر):
«أمَّا بعد، فإنِّي لستُ من تسطيرك الكتاب، وتشقيقك الكلام، في شيء! ولكنَّكم، معشرَ الأُمراء، قعدتُم على عُيون الأموال، ولن تعدموا عُذرًا، وإنَّما تأكلون النار، وتتعجلَّون العار! وقد وجَّهت إليك (محمَّد بن مسلمة)، فسلِّم إليه شَطْرَ مالِك!»
فلمَّا قَدِم محمَّد، صنع له (عمرو) طعامًا، ودعاه فلم يأكل، وقال:
«هذه تَقْدِمة الشَّر! ولو جئتني بطعام الضيف، لأكلت. فنحِّ عنِّى طعامك، وأحضِر لي مالَك!»
فأحضره، فأخذ شَطْرَه. فلمَّا رأى (عمرو) كثرةَ ما أخذ منه، قال:
«لعنَ الله زمانًا صِرْتُ فيه عاملًا لعُمَر! والله، لقد رأيتُ عُمَر وأباه على كلِّ واحدٍ منهما عباءة قَطَوانيَّة، لا تُجاوز مأبض ركبتَيه، وعلى عنقه حزمة حطَب، و(العاص بن وائل) في مُزَرَّرات الديباج!»
فقال (محمَّد):
«إيهًا، عنك يا عمرو! فعُمَر، والله، خيرٌ منك! وأمَّا أبوك وأبوه فإنهما في النار! ولولا الإسلام لأُلفِيتَ معتلِفًا شاةً، يسرُّك غُزْرُها، ويسوءك بُكْوءها!»
قال: «صدقتَ، فاكتُم عليَّ!» قال: «أَفْعَلُ».»
فأين بديعيَّات العصر العبَّاسي هاهنا، التي كان يتفنَّن فيها صاحب «النَّهْج»؟! إنك لا تجد حتى من السَّجع إلَّا ما ليس يُذكر، من ذلك النوع العارض، مثل قول (عُمَر): «إنما تأكلون النار، وتتعجلَّون العار». وليس هذا بشيء. فهذا نموذج من أساليب الأُمراء في صدر الإسلام في المخاطبات الشَّفويَّة، وفي المكاتبات الدِّيوانيَّة الرسميَّة. فانظر أين هذا من ذاك؟ واحكم!
ـ ماذا عن اللُّغة؟
ـ أمَّا اللُّغة، فيصعب الاحتجاج بها في هذا السياق؛ لأنَّ لُغة العَرَب واسعة وتحتمل التعدُّد في اللهجات، وإنْ سعَى اللُّغويُّون إلى توحيدها في قوالب محدَّدة جامدة، كما أنَّها تحتمل الغلط في الرواية.
ـ مثل ماذا؟
ـ مثل استخدام كلمة «أَرْعَدَ» و«أَبْرَقَ»، في خطبة «النَّهْج» التاسعة، التي جاء فيها: «وقَدْ أَرْعَدُوا وأَبْرَقُوا، ومَعَ هَذَيْنِ الأَمْرَيْنِ الفَشَلُ.»(4) فـ(الأصمعي) يزعم أنَّ العَرَب لا تقول في وصف التهديد: أَرْعَدَ وأَبْرَقَ، بل رَعَدَ وبَرَقَ. وحين احتجُّوا عليه بقول (الكُمَيت):
أَبْـرِقْ وَأَرْعِـدْ يَـا يَزِيــ ::: ـدُ فَمَا وَعِيدُكَ لِي بِضَائِرْ
«قَالَ: الكُمَيت جُرْمقانِىٌّ من أهل (الموصل) ليس بحُجَّة!»(5) هذا زَعْم الأصمعي، ولكنَّنا نجد قبل الكُمَيت- ومن غير «الجُرْمقانيِّين»، أي القرويِّين- أنَّ ممَّا يُنسَب إلى (معاوية بن أبي سُفيان)(6) البيت:
فأَبْرِقْ وأَرعِدْ ما استطعتَ فإِنَّني ::: إليكَ بما يشجيكَ سَبْطُ الأَناملِ
بل يقول الشاعر الجاهلي (المُتلمِّس الضُّبَعي)(7):
فـإِذَا حَلَـلْـتُ ودُونَ بَيْـتَـيَ غَـاوَةٌ ::: فـابْرُقْ بِأَرْضِكَ ما بَدَا لَكَ وارْعُدِ
وقال (المُهَلْهِل بن ربيعة)(8):
أَنْبَـضُوا مَعْجِـسَ القِسِـيِّ وأَبْرَقْـ ::: ــنَا كَمَـا تُوعِدُ الفُحُولُ الفُحُولا
على أنه قد رُدَّ كلام (الأصمعي). فقد حدَّث (أبو بكر ابن دريد)، عن (أبي حاتم)، عَقِب كلام الأصمعي، قال: «فأتيتُ أبا زيد، فقلتُ له: كيف تقول من الرَّعد والبَرق: فَعَلَتْ السماءُ؟ فقالَ: رَعَدَتْ وبَرَقَتْ، فقلتُ: فمن التهدُّد؟ قَالَ: رَعَدَ وبَرَقَ، وأَرْعَدَ وأَبْرَقَ؛ فأجازَ اللُّغتَين جميعًا. وأقبلَ أعرابيٌّ مُحْرِم، فأردتُ أن أسأله، فقَالَ لي أبو زيد: دَعْني؛ فأنا أعرفُ بسؤاله منك! فقَالَ: يا أعرابي، كيف تقول: رَعَدَتْ السماءُ وبَرَقَتْ، أو أَرْعَدَتْ وأَبْرَقَتْ؟ فقَالَ: رَعَدَتْ وبَرَقَتْ، فقَالَ أبو زيد: فكيف تقول للرَّجُل من هذا؟ فقَالَ: أَمِنَ الجخيف تريد؟ يعني التهدُّد. قلت: نعم، فقَالَ: أقول: رَعَدَ وبَرَقَ، وأَرْعَدَ وأَبْرَقَ.»(9)
ـ ثمَّ ما يُدرينا أكان النصُّ المنسوب إلى (عَليٍّ) بصيغة «وقَدْ أَرْعَدُوا وأَبْرَقُوا»؟ أم بصيغة «وقَدْ رَعَدُوا وبَرَقُوا»؟!
ـ مهما يكن، فإنَّ الشِّعر يُثبِت جواز ما خطَّأه (الأصمعي)؛ لأن الشِّعر يَحكُمه البحر، ولا يَقبل التغيير في مثل هذا، وإلَّا انكسر الوزن. ولعلَّه لهذا اعتمد على الشِّعر النحويُّون واللُّغويُّون أكثر من اعتمادهم على النثر؛ لأنَّ بقاء النصِّ فيه كما قاله قائله موثوق غالبًا، لضوابط الأوزان والقوافي. ومن هنا فلا حُجَّة في مثل هذا الملحظ اللُّغوي يمكن أن يُحتجَّ بها في أنَّ لُغة «النَّهْج» لا توافق اللُّغة المتوقَّعة من (عَليِّ بن أبي طالب)، أو غيره من أهل عصور الاحتجاج، كما كانت تُسمَّى.
[للحديث بقيَّة].
***
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي
........................
(1) وقد بلغ عدد المؤلِّفين المحاكِين «نَهْج البلاغة»- الذين رصد أعمالهم (الخطيب، عبد الزهراء، (1985)، مصادر نَهْج البلاغة وأسانيده، (بيروت: دار الأضواء)، 1: 271- 273)- سبعة مؤلِّفين.
(2) الهِياط: كلمة فصيحة. ويُذكَر أنها بمعنى: الصِّياح والجَلَبَة. ومن ذلك قول العَرَب: «القوم في هِياط ومِياط». والمِياط: الدِّفاع والمشادَّة. (يُنظَر: ابن قتيبة، (د.ت)، أدب الكاتب، تحقيق: محمَّد الدالي، (بيروت: مؤسَّسة الرسالة)، 44). غير أنَّ العامِّيَّة اليوم تُنبئنا أنَّ (الهِياط) ليس مجرَّد الصِّياح، بل هو صياح مع ادِّعاء. وقال (ابن منظور، اللِّسَان، (هيط)): «وقد أُمِيتَ فِعْلُ الهِيَاط»! وهذا زعمٌ غير صحيح، بل هو حيٌّ يُرزق إلى اليوم، بعد (ابن منظور) بقرون! لكنَّ بُعد أرباب العَرَبيَّة الفُصحى عن عَرَبيَّة الناس اليوميَّة داءٌ قديم!
(3) يُنظَر: (1959)، شرح نَهْج البلاغة، تحقيق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم، (القاهرة: دار إحياء الكتب العَرَبيَّة)، 1: 174- 175.
(4) (1990)، نَهْج البلاغة، شرح: محمَّد عبده، (بيروت: مؤسَّسة المعارف)، 114.
(5) يُنظَر: القالي، (1975)، الأمالي، عناية: محمَّد عبدالجواد الأصمعي، (القاهرة: الهيئة المِصْريَّة العامَّة للكتاب)، 1: 128.
(6) (1996)، ديوان معاوية بن أبي سُفيان، تحقيق: فاروق أسليم بن أحمد، (بيروت: دار صادر)، 106/ 6.
(7) (1970)، ديوان شِعر المتلمِّس الضُّبَعي، تحقيق: حسن كامل الصيرفي، (القاهرة: معهد المخطوطات العَرَبيَّة)، 147/ 15.
(8) (1993)، ديوان مهلهل بن ربيعة، شرح: طلال حرب، (بيروت: الدار العالميَّة)، 63/ 8.
(9) القالي، أمالي القالي، 1: 128- 129.